مجموعة كتب العقيدة للدكتور الأشقر رحمه الله - مجموعة كتب العقيدة للدكتور الأشقر رحمه الله - مجموعة كتب العقيدة للدكتور الأشقر رحمه الله - مجموعة كتب العقيدة للدكتور الأشقر رحمه الله - مجموعة كتب العقيدة للدكتور الأشقر رحمه الله
العلماء الراسخون - العلماء الراسخون - العلماء الراسخون - العلماء الراسخون - العلماء الراسخون
العلماء الراسخون
كنت أود في هذه الجمعة الأخيرة من رمضان المعظم، أن أتحدث عن الثبات على المبدأ، حين يتعرف الإنسان على ذاته، وقد أتاح له رمضان هذه الفرصة العظيمة في اكتشاف الذات. فمن أعز الثمار في رمضان بعد التقوى والمغفرة، الثبات على الاستقامة في طريق الله، ولسان الحال يقول للنفس: كفى تيها ولعبا ومغامرة، فالحق أبلج والباطل لجلج، ومن عرف الطريق فلا بد أن يلزم، ومن صعد في الدرج إلى أعلى فارتقى في كيانه فمن المعيب عليه أن يهبط، بل يكمل ارتقاءه الروحي والفكري والقيمي. هكذا شأن العقلاء، ونسأل الله تعالى أن نكون ممن عرفوا والتزموا وصبروا على مشاق الطريق.
ولكنني اليوم أجدني بحاجة إلى الحديث عن عَلَم من أعلام الأردن وفلسطين، ليس لأنه زميل سابق في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية فحسب، ولكن لأنه صاحب خصائص يندر وجودها في غيره رحمه الله؛ إنه الدكتور عمر سليمان الأشقر، الذي جمع سمت العلماء، وصمت الحكماء، وفطنة الفقهاء، وتقوى الأولياء، وجود الأغنياء، وزهد الفقراء.
كان من الموسوعيين النادرين الذين تبحروا في مجالات العلم المختلفة؛ فهو فقيه وأصولي ومفسر ومحدث وصاحب باع طويل في علوم العقيدة، بل إن معظم مؤلفاته التي لقيت رواجا وإعجابا هي تلك السلسلة المتحدثة عن العقيدة، وذلك على منهج السلف، غير متعصب ولا ذام لفرق أهل السنة الأخرى، فهو يعلم أن اللغة التي ينبغي للعلماء إتقانها كل حين هي لغة التجميع لا التفريق، وهي المعبرة عن رسالة الرحمة التي وصفها الله سبحانه لهذا الدين ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، ولأتباعه المقتدين به. هكذا كان –رحمه الله- من أهل الغيرة على الدين والمسلمين، عالم عامل، نقي تقي، اختاره الله لجواره يوم جمعة في العشر الأواخر من رمضان، ولعلها في ساعة مباركة من الجمعة.
وحتى لا أكون مبالغًا، ومعرفتي به قاربت العقدين من الزمن، فإنني أركز على جوانب ثلاثة تميز بها رحمه الله: الجرأة والثبات ونبذ التعصب.
وأبدأ بالجرأة. فمعروف عنه أنه لم يهادن أو يجامل في الحق أبدا، يذكر الحكم الشرعي بغض النظر عن نتائجه. وأذكر يوما أنني كنت أجمع توقيعات الزملاء العلماء على فتوى جواز دفع الزكاة لتعليم القرآن في مراكز التحفيظ، وكان الذي صاغ الفتوى قد بناها على مفهوم أحد مصارف الزكاة، وهو "في سبيل الله" من حيث التوسع فيه. وكنت قد جمعت بعض التوقيعات، ولما أردت منه التوقيع قرأ النص وكان مختصرا، فما كان منه إلا أن دفعه مبديا عدم رغبته في التوقيع. ولما ناقشته قلت له لماذا؟ فقال: يا أخي، أنا لا أخالف ما انتهت إليه دراستي، فقد كتبت بحثا حول "في سبيل الله" في القرآن، وتبين لي أن المقصود منها الجهاد في سبيل الله. فقلت فورا: لكن يا أبا سليمان، ألا ترى أن الجهاد أنواع، بالسنان وباللسان، وقد قال الله تعالى عن القرآن: "وجاهدهم به جهادا كبيرا"، وإن هذه المراكز تُعِدُّ الأجيال الصالحة المصلحة، وتهيئهم للدفاع عن هذا الدين والجهاد في سبيل الله؟ عندها قال لي بتواضعه ووقوفه عند الحق: إذن اكتب هذا الكلام. وفعلاً، غيّرنا الصيغة بهذا المفهوم. ولما عرضتها عليه وعلى الدكتور ماجد أبو رخية –حفظه الله- فما كان منهما إلا سرعة التوقيع. وأذكر أن أبا سليمان قال حينها: أما الآن فنعم.
وأذكر أن الإخوان المسلمين كانوا قد عقدوا مناظرة فقهية حول المشاركة السياسية في الحكومة وغيرها من المشاركات، ولم أحضرها مباشرة وإنما تابعتها من خلال فيديو، وكانت المناظرة بينه وبين زميله. وتكلم أبو سليمان كلاما علميا وفق الأدلة الشرعية، واكتفى الآخر بعرض مجمل لبعض الآراء ممزوجة بالتوجه الفكري والسياسي. مال أبو سليمان إلى أن الأصل المشاركة، وعارض الآخر بأن الأصل المنع. وضاع الحكم بين نداءات العواطف والمواقف السياسية، بينما الذي طرحه أبو سليمان كان غاية في التوجيه الفقهي للمسألة، أخذا بعين الاعتبار واقع الحكم. وحين شعر أبو سليمان بهذا القصور من الطرف الآخر قال ما معناه: إنه قضى الليالي والأيام، وتعب وسهر من أجل تجلية الفتوى، وأنت يا أخي لم تتعب نفسك حتى في البحث عن الأدلة. كان بإمكانه أن يسجل موقفا يجلب له شعبية حين يصفق الناس للمتشدد وتحركهم العاطفة، ولا يلتفتون أو ينتبهون إلى الأدلة من مظانها والنظر في مآلاتها. والأمثلة في هذا كثيرة لا يتسع المقام لها.
أما الثبات، فهو في فكره ورأيه ومبدئه؛ فلم يبدل أو يغير، كان صافيا في علاقاته، يحب أهل الدين، وينبذ أولئك المذبذبين وما أكثرهم في هذا الزمان. في منهجه العقدي كان واضحا ثابتا، وفي منهجه الفقهي الموسوعي الذي لا يقف عند اتباع مذهب محدد كان أيضا واضحا ثابتا، وفي أخوته لأفراد جماعته وغيرهم من أفراد الجماعات الأخرى كان ثابتا واضحا، وفي مبدئه السياسي والفكري كان غاية في الثبات، بل زادته دراساته المتأخرة -التي لم يتوان عنها رغم مرضه- رسوخا في ثباته على الموقف من اليهود –مثلاً- ومن حتمية الصراع والمدافعة بين الحق والباطل، خاصة ما ينتظر المنطقة في آخر الزمان، أعني بلاد الشام.
ومن حسن الطالع أنني في برنامج "على بصيرة"، الذي كنت أقدمه على قناة الرسالة في دورته الثانية (2011)، استضفته في حلقتين متتاليتين، وكان الحديث عن الثورات العربية، ولم يُحسم موضوع ليبيا أو مصر بعد. وتحدث الشيخ بنظره الثاقب حول مفهوم الثورة ومبدأ النصح، وأن هؤلاء إنما ينصحون ما داموا لم يشهروا السلاح، واستدل بحديث "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فوعظه فقتله". فقال أبو سليمان: هذا مع سيد الشهداء، فكيف إن كانا اثنين؟ أو كانوا ثلاثة أو أكثر؟ فهم من سادة الشهداء، أما الخروج فهو أمر آخر. ودافع عن رأيه رحمه الله. واتصلت به فقال لي: لقد زارني عدد كبير من الإخوة السلفيين وبعضهم عاتبني على رأيي، وحاولت أن أفهمهم الرأي واقتنع بعضهم ولم يقتنع الآخرون. فقلت له: ما رأيك أن أستضيفك مرة أخرى لتوضح وجهة النظر أكثر للأمة، فوافق، وثبت على رأيه، بغض النظر عما سيقوله الناس.
ولا أريد أن يفهم القارئ أن الشيخ من حيث جرأته وثباته كان جامدا متعصبا، لا والله، فقد كان وقافا عند حدود الله، وكان لينا مرنا، يتبع الدليل ومنطق الأشياء، وهذا الذي ميزه عن غيره رحمه الله. وهذا يقودني للحديث عن النقطة الثالثة؛ فقد كان حرا غير متعصب. فبالرغم من كونه من الإخوان المسلمين، إلا أن تلاميذه كانوا متنوعين، بين إخوان وسلفيين وغير منتمين إلى جماعات، وهذه نقطة رئيسة ليت العلماء كلهم يدركونها، أن العالِم هو للأمة كلها، ولا يمنعه انتماؤه الحزبي من حب المسلمين جميعا والتفاني في خدمتهم، وذلك حين نفهم أن الجماعة أو الحزب وسيلة لا غاية، وأن تلك الجماعة هي من المسلمين، وأن الجماعات تكمل بعضها بعضا. بهذا المفهوم عاش رحمه الله، وهكذا ينبغي أن نكون متحابين متآلفين، فالحب هو في الله، والبغض هو أيضا في الله، وكذا الولاء والبراء، فالعبرة هي هذا الدين.
رحم الله الدكتور عمر الأشقر العالم العامل، عضو رابطة علماء الأردن. ورحم علماء الأمة؛ فهم وإن غابت أجسامهم فأرواحهم معنا، وآثارهم بيننا. ومن عاش لمبدأ وضحّى من أجله فلا يمكن أن يغيب أبدا، فكلنا يقول: هنا مرّ وهذا الأثر. وعزاؤنا أن أتباعَك وتلاميذك كثرٌ، هم كلهم عمر الأشقر، يتذكرون سمتك وهيبتك التي كسيتها يا صاحب القلب الكبير والعزم الشديد، لكنه قضاء الله، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
د. محمد المجالي
عميد كلية الدراسات العليا في الجامعة الأردنية