خمس حقائق من فقه الابتلاء . - خمس حقائق من فقه الابتلاء . - خمس حقائق من فقه الابتلاء . - خمس حقائق من فقه الابتلاء . - خمس حقائق من فقه الابتلاء .
خمس حقائق من فقه الابتلاء .
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آل بيته الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته وقادة ألويته ، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين .
الابتلاء :
الإنسان يمتحن في ماله وأهله
قال تعالى :
>﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾
[ سورة العنكبوت الآيات : 1-2 ]
لقد جرت سنة الله في الحياة الدنيا أن تبنى على الابتلاء ، فالإنسان يبتلى في دينه ، ويبتلى في ماله ، ويبتلى في أهله ، وكل هذه الابتلاءات ما هي إلا امتحانات يمتحن الله بها عباده ليميز الخبيث من الطيب ، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين .
وقد صدق من قال : إن الله تعالى يقوي أعداءه ويقويهم حتى يقول ضعفاء الإيمان أين الله ؟! ثم إنه ليظهر آياته في الانتقام للمظلومين حتى يقول الملحدون لا إله إلا الله .
والفتن والابتلاءات التي يتعرض لها أهل الإيمان كثيرة :
ومن بين هذه الفتن أن يتعرض المؤمن للأذى والاضطهاد من الباطل وأهله من أعدائنا أعداء الحق والخير والإنسانية ثم لا يجد النصير الذى يسانده ويدفع عنه الأذى ، ولا يملك لنفسه النصره أو المنعة ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان .
خمس حقائق من فقه الابتلاء :
فما هي الحكمة من الابتلاءات التي يبتلى الله بها المؤمنين ؟!
الحقيقة الأولى : الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة .
الفتن تطهر النفوس كما تصفي النار الذهب
الحقيقة الأولى إن الله تعالى غني عن تعذيب عباده وحاشا له جل جلاله أن يكون هدفه من الابتلاء تعذيب عباده أو إيذاؤهم فهو جل جلاله الرحمن الرحيم خلق عباده ليرحمهم ويسعدهم بمعرفته وعبادته .
أما هدف الابتلاء فهو الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة الكبرى والمسؤولية العظمى ، فحمل الأمانة لا يتم إلا بالمعاناة ، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات ، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام ، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو ثوابه على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء .
فكما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به ، كذلك تصنع الفتن بالنفوس تصهرها فتنفي عنها الخبث .
الحقيقة الثانية : الابتلاء يكفر الخطايا والذنوب .
الابتلاء يرفع الدرجات عند الله
الحقيقة الثانية في فقه الابتلاء أن الابتلاء يكفر الخطايا والذنوب ويرفع عند الله الدرجة .
ومن خلاله يشهد الله لأهله بأن في دينهم صلابة ، وفي عقيدتهم قوة فهو سبحانه يختارهم للابتلاء .
وفي الحديث الشريف :
عن مصعب بن سعد رحمه الله ، عن أبيه رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، أيُّ الناس أشَدُّ بلاء ؟ قال :
(( الأنبياءُ ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ على حَسْبِ دِينه ، فإن كان دِينُهُ صُلْبا اشتَدَّ بلاؤه ، وإن كان في دِينه رِقَّة على حَسبِ دِينه ، فما يَبْرَحُ البلاءُ بالعبد حتى يتركَهُ يَمْشِي على الأرض وما عليه خطيئة ))
[ أخرجه الترمذي ]
ويقول المصطفى :
(( أشد الناس بلاءً الأنبياء ، ثم الصالحون ، لقد كان أحدهم يُبتلى بالفقر حتى ما يجدُ إلا العباءة يجوبها ، فيلبسها ، ويُبتلى بالقمَّل حتى يقتلُه ، ولأحدهم كان أشدَّ فرحاَ بالبلاءِ من أحدكم بالعطاء ))
[ أخرجه الحاكم في مستدركه ]
وقد ورد في صحيح البخاري أن النبي قام يوماً يصلي في حجر الكعبة فأقبل عليه عقبة بن أبى معيط فوضع ثوبه في عنق النبي فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي وهو يقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله .
ولقد ورد أيضاً في صحيح البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : أتيت النبي وهو متوسد بردة في ظل الكعبة – وقد لقينا من المشركين شدة – فقلت : يا رسول الله ألا تدعو الله لنا ، ألا تستنصر لنا ، فقعد وهو مُحمرٌ وجهه فقال :
(( لقد كان من قبلكم ليمشط بأمشاط من الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ))
وإذا كانت هذه الاعتداءات على النبي وله من الجلال والوقار في نفوس العامة والخاصة فكيف بالصحابة الكرام ، لاسيما الضعفاء منهم ، فأنتم تعلمون ما الذي كان يُفعل ببلال و خباب وآل ياسر وصهيب وابن مسعود وغيرهم ممن قالوا : لا إله إلا الله .
فضربوا لنا أروع الأمثلة في الصبر على البلاء والتضحية لهذا الدين حتى ولو كانت بالأرواح والأبدان .
الحقيقة الثالثة : عملية الفرز .
في الابتلاء تمحيص وفرز بين المؤمن والمنافق
الحقيقة الثالثة في فقه الابتلاء أن الله تعالى يمحص الناس في الابتلاء ويفرزهم فيظهر نفاق المنافقين وينجلي كذب الكاذبين كما يظهر ثبات الثابتين ويتضح إيمان المؤمنين قال تعالى :
﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾
[ سورة آل عمران : 141 ]
قال ابن القيم رحمه الله :
إن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ، ويبتليها ، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها ، ومن يصلح لموالاته وكرامته ومن لا يصلح ، وليمحص النفوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان ، إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة ، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية ، فإن خرج في هذا الدار وإلا ففي كير جهنم ، فإذا هذب العبد ونُقي أُذن له في دخول الجنة .
ليس أحدٌ أغير على الحق وأهله من الله .. ولكنها سنة الله الجارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف ، قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين ﴾
[ سورة العنكبوت الآية : 2 ]
الحقيقة الرابعة : إظهار آياته .
تظهر آيات الله في قصم الظالمين
الحقيقة الرابعة في فقه الابتلاء أن الله تعالى من خلال الابتلاء يظهر للناس آياته ويبين لعباده عاقبة الظلم والظالمين ويستخلف عباده الصالحين مهما طالت مدة الابتلاء .
فأين فرعون الذي قال لقومه :
﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾
[ سورة القصص الآية : 38 ]
والذي قال لقومه :
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾
[ سورة النازعات الآية : 24 ]
والذي قال :
﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾
[ سورة الزخرف الآية : 51 ]
فأجراها الله من فوقه !
وأين هامان ؟ وأين قارون ؟ وأين عاد ؟ وأين ثمود ؟
﴿ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
[ سورة العنكبوت الآية : 40 ]
دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب
وصدق من قال :
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان ؟
وأين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلمٌ وطغيان ؟
أين الجبابرة الطاغون ويحهم ؟ وأين من غرهم لهو وسلطان ؟
هل أبقى الموت ذا عزٍ لعزته ؟ أو هل نجا منه بالأموال إنسان ؟
لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان
وفي الحديث الشريف :
(( اتَّقِ دعوةَ المَظْلومِ ، فإنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا ، وَبَينَ اللهِ حِجَابٌ ))
[ أخرجه الترمذي]
وفي رواية أخرى :
(( دعوةُ المَظْلُومِ ، يَرْفَعُها اللهُ فوقَ الغَمَامِ ، وتُفْتَحُ لها أَبْوَابُ السماء ، ويقول الرَّبُّ : وعِزَّتي لأنصُرَنَّكِ وَلَو بَعدَ حِينٍ ))
[ أخرجه أبو داود والترمذي]
الحقيقة الخامسة : الشوق لله تعالى .
الحقيقة الخامسة في فقه الابتلاء أن الابتلاء في الدنيا يجعلك في شوق للقاء الله تعالى فالدنيا لا تستقر لأحد ولا تدوم على حال فإذا ما اشتد الكرب وتعاظم الابتلاء اشتاق المؤمن للقاء مولاه وخرج حب الدنيا من قلبه وتعلق بالآخرة وعمل لها وسعى .
اللهم ارحم شهداءنا وداو جرحانا وفك أسر المعتقلين واحقن دماء الابرياء المظلومين .
والحمد لله رب العالمين
الهجرة النبوية .. ملامح وسمات - الهجرة النبوية .. ملامح وسمات - الهجرة النبوية .. ملامح وسمات - الهجرة النبوية .. ملامح وسمات - الهجرة النبوية .. ملامح وسمات
الهجرة النبوية .. ملامح وسمات
د. راغب السرجاني
بعد أن نجحت بيعة العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يُمَثِّلون عددًا لا بأس به في يثرب، وَقبِلوا أن يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحموه مما يحمون منه نساءهم وأبناءهم وأموالهم، بعد كل هذه الأمور العظيمة التي حدثت في فترة وجيزة جدًّا، جاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن له بالهجرة إلى يثرب.
ضرورة الهجرة
وكان "الإذن" بهجرة المؤمنين -غير رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد جاء من الله قُبيل بيعة العقبة الثانية، أمَّا الآن فصارت الهجرة "لِزامًا" على كلِّ المستطيعين من المسلمين وبسرعة؛ يشمل هذا الضعفاء والأقوياء، والفقراء والأغنياء، والرجال والنساء، والأحرار والعبيد، فالمشروع الكبير -مشروع بناء الدولة الإسلامية- يحتاج إلى كل طاقات المسلمين، ولا يُسمح لمسلم أو مسلمة بالقعود عن المشاركة في بناء هذا الصرح العظيم؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كثيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 97-100].
ولم تكن الهجرة أمرًا سهلاً ميسورًا؛ فالهجرة كانت تعني ترك الديار، والأموال، والأعمال، والذكريات، وكانت تعني الذهاب إلى حياة جديدة يعلم الجميع أنها ستكون شاقَّة؛ بل كانت تعني الذهاب إلى المجهول؛ فالدولة الناشئة قد تتعرَّض لحرب هائلة شاملة، يشترك فيها كل المشركين في جزيرة العرب؛ بل قد تُشارك فيها جنود الأرض كلها، وهي الحرب التي صوَّرها الصحابي الجليل العباس بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه على أنها الحرب للأحمر والأسود من الناس.
هذه هي الهجرة.. ليست هروبًا ولا فِرارًا؛ بل كانت استعدادًا ليوم عظيم، أو لأيام عظيمة؛ لذلك عظَّم الله جدًّا من أجر المهاجرين؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 58، 59].
أول من قدم المدينة من الصحابة
صدر الأمر النبوي لجميع المسلمين القادرين على الهجرة أن يهاجروا؛ لكن لم يبدأ هو صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلى المدينة، فلم يكن من همِّه صلى الله عليه وسلم أن ينجو بنفسه أولاً، أو أن يُؤَمِّنَ حاله، أو أن يُحافظ على أمواله، إنما كان كلُّ همِّه صلى الله عليه وسلم أن يطمئنَّ على حال المسلمين المهاجرين، فكان يتصرَّف كالرُّبَّان الذي لا يترك سفينته إلا بعد اطمئنانه على أمن كل الركاب؛ فالقيادة ليست نوعًا من الترف أو الرفاهية، إنما هي مسئولية وتضحية وأمانة.
قال الْبَرَاء رضي الله عنه وهو يصف تتابع قدوم المهاجرين: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، ثمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَبِلاَلٌ رضي الله عنهما [1].
وفي رواية قَالَ رضي الله عنه: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ، فَقَدِمَ بِلاَلٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، ثمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرسول الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] فِي سُوَرٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ [2].
الاهتمام بمسألة النية
ونستطيع أن نلاحظ ملامح مهمَّة لهجرة المسلمين من مكة إلى المدينة، وكان أبرز هذه الملامح الاهتمام بمسألة النِّيَّة؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" [3].
ومع أن الهجرة للزواج ليست محرَّمة، ومع أن الهجرة لإصابة الدنيا الحلال ليست محرَّمة كذلك؛ لكنها ليست كالهجرة لبناء أُمَّة إسلامية، فهيهات أن يكون الذي ترك كل ما يملك ابتغاء مرضات الله وسعيًا لإنشاء أُمَّة إسلامية، ورغبةً في تطبيق شرع الله تعالى في الأرض، كالذي عاش لحياته فقط، وإن كانت حياتُه حلالاً!
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "مَنْ هَاجَرَ يَبْتَغِي شَيْئًا فَهُوَ لَهُ". ثم قَالَ: "هَاجَرَ رَجُلٌ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا: أُمُّ قَيْسٍ، وَكَانَ يُسَمَّى مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ"[4].
وليس هناك سند صحيح يُؤَكِّد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد هذه القصة تحديدًا عندما تحدَّث عن هجرة رجل إلى امرأة ينكحها، ولا نعرف كذلك على وجه التحديد مَنْ هو الصحابي الذي فعل ذلك؛ لكن المعنى صار واضحًا؛ لأن قصة مهاجر أم قيس ثابتة وإن لم نعرف صاحبها، فبدا بجلاء أن النِّيَّة تُغَيِّر من ثواب العمل وقبوله، وليس المهاجر لله ورسوله صلى الله عليه وسلم كالمهاجر لأي شيء آخر.
شمول الهجرة
ومن الملامح المهمَّة كذلك في أمر هذه الهجرة الكاملة لكل المسلمين أنها لم تكن بهذا الشمول إلا بعد أن أُغلقت أبواب الدعوة تمامًا في مكة؛ فقد رأينا انغلاق هذه الأبواب تقريبًا منذ ثلاث سنوات؛ أي بعد موت أبي طالب وخديجة، ومنذ ذلك التاريخ والرسول صلى الله عليه وسلم يُخَطِّط للهجرة، وكان من الممكن أن يكون مكان الهجرة مختلفًا عن يثرب لو آمن وفد بني شيبان أو بني حنيفة أو بني عامر أو غيرهم؛ ولكن الله تعالى أراد أن تكون الهجرة إلى هذا المكان؛ لكن المهم هنا في هذه النقطة ملاحظة أن الهجرة لم تكن نوعًا من الكسل عن الدعوة في مكة، فلو كانت السبل للدعوة مفتوحة -ولو بصعوبة- لكان الأولى البقاء لأداء الواجب تجاه أهل البلد؛ ولكن هذا التوقُّف الكامل عن الدعوة كان هو السبب في البحث عن بديل عملي لنشر الدين.
الفرق بين الهجرة إلى المدينة والهجرة إلى الحبشة
ويمكن لنا أن نلاحظ فرقًا مهمًّا بين الهجرة إلى يثرب والهجرة إلى الحبشة؛ فالهجرة هنا كانت لجميع المسلمين على خلاف هجرة الحبشة، التي كانت لبعض الأفراد دون الآخرين، والسبب أن طبيعة المكان وظروفه تختلف من الحبشة إلى يثرب؛ فالمسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا يُريدون حفظ أنفسهم في مكان آمن حتى لا يُستأصل الإسلام بالكلية إذا تعرَّض المسلمون في مكة للإبادة، ولم يكن الغرض هو إقامة حكومة إسلامية في الحبشة؛ بل كان المسلمون مجرَّد لاجئين إلى ملك عادل، أمَّا الهجرة هنا فكان الغرض منها إقامة دولة إسلامية تكون يثرب هي المركز الرئيسي لها.
ولماذا تصلح يثرب لإقامة الدولة الإسلامية ولا تصلح الحبشة؟ إن هذا ليس راجعًا إلى عامل البعد عن مكة، أو اختلاف اللغة، أو اختلاف التقاليد فقط، وإن كانت هذه عوامل مهمَّة؛ ولكن الاختلاف الرئيسي-في نظري- هو أن الاعتماد في الحبشة كان على رجل واحد هو النجاشي الملك الذي لا يُظلم عنده أَحَدٌ، فإذا مات هذا الرجل أو خُلِع فإن المسلمين سيُصبحون في خطر عظيم، وقد كاد يحدث ذلك؛ وذلك عندما دارت حرب أهلية كاد النجاشي يفقد فيها ملكه، فما كان منه إلَّا أن يسَّر سبيل الهروب للمسلمين المهاجرين عنده؛ فقد كان لا يملك لهم شيئًا أكثر من ذلك. كان هذا هو الوضع في الحبشة، أمَّا في يثرب فالهجرة لم تكن تعتمد على رجل معين؛ بل تعتمد على شعب يثرب وجيشها، والجوُّ العام هناك صار محبًّا للإسلام، أو على الأقل أصبح قابلاً للفكرة الإسلامية؛ ومن ثَمَّ كانت الهجرة إلى هناك هجرة جماعية كاملة.
أن الهجرة لم تكن عشوائية
كما نلحظ -أيضًا- في هذه الهجرة الجديدة أنها لم تكن عشوائية؛ بل كانت -بأمر القيادة النبوية- إلى مكان محدَّد، وهذا الذي أدَّى إلى نجاح الفكرة، وقيام الأُمَّة، أمَّا أن يُهاجر فلان إلى مكان كذا، ويُهاجر آخر إلى مكان غيره، ويتفرَّق المسلمون، فهذا وإن كان يكتب نجاة مؤقَّتة للأفراد فإنه لا يُقيم دولة، وعلى المسلمين الفارِّين بدينهم من ظلم ما أن يفقهوا هذا الأمر جيدًا؛ فالهجرة النبوية إلى يثرب كانت هجرة منظَّمة مرتبة، أُعِدَّ لها بصبر وبحكمة، وبسياسة وفقه، والعشوائية ليست من أساليب التغيير في الإسلام.
[1] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، (3709).
[2] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، (3710). وقال ابن حجر: الْمُفَصَّل: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمُحْكَمُ، وَهُوَ مِنْ أَوَّلِ الْفَتْحِ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ فِي ابْتِدَائِهِ غَيْرُ ذَلِكَ أَقْوَالٌ تَزِيدُ عَلَى عَشَرَةٍ، وَسُمِّيَ الْمُفَصَّلِ لِكَثْرَةِ الْفَوَاصِلِ بِالْبَسْمَلَةِ وَبِغَيْرِهَا. انظر: ابن حجر: فتح الباري 1/167. وقال أيضًا: وَفِي الْمُرَادِ بِالْمُفَصَّلِ أَقْوَالٌ سَتَأْتِي فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ أَصَحُّهَا أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ ق إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ. انظر: فتح الباري 2/195، وقال كذلك: اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمُفَصَّلِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مُنْتَهَاهُ آخِرُ الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ مِنْ أَوَّلِ الصَّافَّاتِ أَوِ الْجَاثِيَةِ أَوِ الْقِتَالِ أَوِ الْفَتْحِ أَوِ الْحُجُرَاتِ أَوْ ق أَوِ الصَّفِّ أَوْ تَبَارَكَ أَوْ سَبِّحْ أَوِ الضُّحَى إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ أَقْوَالٌ أَكْثَرُهَا مُسْتَغْرَبٌ اقْتَصَرَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الْأَوَائِلِ سِوَى الْأَوَّلِ وَالرَّابِعِ وَحَكَى الْأَوَّلَ وَالسَّابِع وَالثَّامِن ابن أَبِي الصَّيْفِ الْيَمَنِيُّ، وَحَكَى الرَّابِعَ وَالثَّامِنَ الدِّزَّمَارِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ، وَحَكَى التَّاسِعَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي شَرْحِهِ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ الْعَاشِرَ، وَالرَّاجِحُ الْحُجُرَاتُ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَنَقَلَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ قَوْلًا شَاذًّا أَنَّ الْمُفَصَّلَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ. انظر: فتح الباري 2/249.
[3] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1) واللفظ له عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ». وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، (1907).
[4] الطبراني: المعجم الكبير (8559)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح. انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد 2/101.
الهجرة منهج حياة -أ.د. محمد سعيد حوى - الهجرة منهج حياة -أ.د. محمد سعيد حوى - الهجرة منهج حياة -أ.د. محمد سعيد حوى - الهجرة منهج حياة -أ.د. محمد سعيد حوى - الهجرة منهج حياة -أ.د. محمد سعيد حوى
خطبة الجمعة 16/ 10/ 2015م
2 محرَّم/ 1437هـ
#الهجرة منهج حياة -أ.د. محمد سعيد حوى
الهجرة منهج حياة، وجهاد ودولة وحضارة وأمة، وبناءٌ وعمل وحركةٌ واعية وتخطيط وأخذٌ بالأسباب، واستشراف لآفاق المستقبل، وفتح لمغلقات الواقع، وتجاوز لتحدياتٍ وآلام، وكسر لقيود ومحددات، وهي تضحية وعبودية في حقيقتها.
كما هي فرار إلى الله وهجرةٌ للسوء والمناهي، قال تعالى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ [الذاريات: 50]
قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْهِجْرَةُ» ، قَالَ: وَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: «أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ» جامع معمر بن راشد.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» صحيح البخاري
وهي هِجرةٌ وليست هَجرٌ، وفرق كبير بين الأمرين؛ فالهَجر تخلٍ وتنازل وترك، أما الهِجرة: فمن الفعل هاجر ففيها معنى المفاعلة فهي لمواجهة الباطل وإعادة البناء والاستعداد، وإعادة صياغة الحركة والعمل.
ولذلك فهي سنة الله في الأنبياء والدعاة وأصحاب المبادئ.
عن عائشة: ... يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ» ، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ) متفق عليه.
عندما نعيش مع الآيات والسيرة نفهم الهجرة كما ذكرتُ، فهي عز وقوة، لذلك كما قال عمر : لا يزال الإسلام عزيزاً منذ الهجرة، ولذا اختارها للتأريخ.
وهي ثبات وصبر، لا مساومة لا تنازل؛ فالإنسان يتخلى عن الموقع والجغرافيا مؤقتاً والممتلكات والماديات؛ تضحيةً لأجل الفكرة الصحيحة؛ لذلك جاء قوله تعالى: ﴿ وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 73]
ثم جاء بعدها ﴿ وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 76]، ولذلك فالمسلم ثابت على دينه ومبادئه، والهجرة أحد أبواب الأمل والعمل ومنهج حياة لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 41]
﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [النحل: 110]
تؤكد المعاني التي ذكرنا قوله تعالى: ﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [النساء: 100]
ويؤكد أن الهجرة فكرة وعمل وتخطيط واقعُ النبي وأن من آثارها بناء الدولة والأمةِ والإعداد للجهاد؛ لذلك لا يأتي ذكر الهجرة في القرآن إلا مرتبطاً بالجهاد، كقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ ﴾ [التوبة: 20]
ومن هنا فالهجرة ثقة بالله، ففي طريق الهجرة كان قوله تعالى: ﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾ [الحج: 15]
فالهجرة جهاد وعمل ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39]
والهجرة انتصارٌ لله ولرسوله، ﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ﴾ [التوبة: 40]
الهجرة طريق القدس والمقدسات فمن لم يهاجر متحققاً بحقائق الهجرة لا يستحق مقدسات، فلم يقل لموسى ومن معه من المؤمنين (ادخلوا الأرض المقدسة) إلا بعد أن امتثلوا لأمر الهجرة، لكن لما قالوا (اذهب أنت وربك فقاتلا) حُرموا منها، أما أصحاب محمد (اذهب أنت وربك إنا معكم مقاتلون)
الهجرة كما هي دولة وأمة وحضارة، فهي إخاء ومسجد وتربية وتثبيت ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ﴾ [النساء: 66]
وهي امتحانٌ أعظم في حقائق الإيمان لمن يكون الولاء؟ لله، للدين، للمبادئ، أم للمتعلقات الشخصية والأرضية؟
ولذلك عندما حدثتنا آيات الأنفال عن الهجرة ربطتها بالولاء ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [الأنفال: 72-73]
أخيراً: قِــــف مع ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]
فعندما تتحق الأمة بالهجرة فثبتت على مبادئها يُحدِثُ الله في عدوك مالم يكن يخطر ببالك، ليكون ذلك طريق نصرٍ وعزٍ للمؤمنين.
ولا يتصور مجتمع إلا بمهاجرين وأنصار ليتكامل البناء ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [الأنفال: 72]
فهي اختبارٌ للإنسانية اليوم كيف تتعامل مع المضطهدين والمظلومين والمكلومين، فهي إنسانيةٌ وقيمٌ ومبادئ وولاء وبراء.
والهجرة حركة وثورة على الظلم، ورفض للواقع المريض والذليل، ورفض للاعتداء على كل مقدسٍ عندك، فكيف ما حققت هذه الثورة على الظلم والذلة والضعفة فأنت مهاجر، كذلك كان الأنبياء، وكذلك يجسد هذه الحقيقة أهلنا في فلسطين، وكل مجاهدٍ قام مجاهداً بحق كأهلنا في سوريا الذين يقفون في وجه الغزو الروسي والإيراني.
هل تكالب الدول على سوريا إرهاصات بين يدي «الملاحم»؟
هل تكالب الدول على سوريا إرهاصات بين يدي «الملاحم»؟ - هل تكالب الدول على سوريا إرهاصات بين يدي «الملاحم»؟ - هل تكالب الدول على سوريا إرهاصات بين يدي «الملاحم»؟ - هل تكالب الدول على سوريا إرهاصات بين يدي «الملاحم»؟ - هل تكالب الدول على سوريا إرهاصات بين يدي «الملاحم»؟
هل تكالب الدول على سوريا إرهاصات بين يدي «الملاحم»؟
"أرض الملاحم"، "يوم الملحمة"، "الملحمة الكبرى"، "فسطاط المسلمين"، "الأعماق"، "دابق"، "الروم"، "بنو الأصفر"... عبارات ومفردات يشيع استخدامها في خطاب اتجاهات إسلامية متعددة، داخل سوريا وخارجها.
وتعكس تلك الاستخدامات مدى حضور النصوص الدينية في تأسيس رؤى تلك الاتجاهات والجماعات، وبناء مواقفها من الأحداث الجارية، وهي في غالب الأحيان تتصف بالوثوقية باعتبارها تستند إلى أحاديث نبوية، تبشر بأحداث ووقائع مستقبلية لا بد من وقوعها وتحققها بحسب تلك القراءات والتأويلات.
لكن كثيرا من تلك النصوص الثابتة الصحيحة التي يستندون إليها، لم تحدد زمانا لوقوع تلك الأحداث، وتحتمل أفهاما وتأويلات متعددة، فكيف تتجرأ اتجاهات إسلامية على إنزالها على أحداث ووقائع بعينها، مع أن في الأحاديث نفسها من القرائن والدلائل ما يدل على استبعاد إنزالها على تلك الوقائع؟
يرفض أستاذ الحديث النبوي وعلومه في جامعة مؤتة الأردنية، الدكتور محمد سعيد حوّى، ذلك المسلك، واصفا أصحابه بالاندفاع والتسرع، مع عدم تمكنهم ورسوخ أقدامهم في العلم الشرعي، وجرأتهم على تأويل النصوص النبوية بتأويلات خاطئة، وإنزالها على أحداث ووقائع لا تنطبق عليها تلك الأحاديث بأي حال أبدا.
وتساءل الدكتور حوّى: "ما علاقة دابق والأعماق الواردة في بعض الروايات بما يجري الآن؟ فرواية مسلم للحديث تقول (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق (موضعان قريبان من حلب).. فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ)، متسائلا: "فأين هم الروم الذين نزلوا بالأعماق ودابق؟ وأين هو الجيش الذي خرج من المدينة لقتالهم؟".
وأضاف: "الرواية تتحدث عن أن الثلث المتبقي من جيش المسلمين بعد قتالهم للروم، (يفتتحون قسطنطينية) وتقول الرواية بالنص (فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون وذلك باطل)".
وتابع حوى سرد الرواية ومناقشة المستدلين بها قائلا: "الرواية قطعا لا تنطبق على زماننا، فهي تقول: (فإذا جاؤوا الشام خرج (أي الدجال) فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فأمهم، فإذا رآه عدو الله، ذاب كما يذوب الماء في الملح)، فهذه أحداث من الواضح أنها تقع في سياق أمارات الساعة وأشراطها الكبرى". طبقا لحوى.
وجوابا عن سؤال حول "يوم الملحمة" المذكور في روايات حديثية، قال حوى إن "نص الرواية كما عند أبي داود في سننه إن (فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام) ظاهر في أنها ملحمة تقع في سياق أشراط الساعة الكبرى، وليست حادثا عابرا يقع هكذا".
واستدل برواية أخرى عند أبي داود وغيره ونصها "عمران بيت المقدس خراب يَثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح قسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال"، موضحا أن "هذه الأحداث لا تكون إلا في آخر الزمان، ولا علاقة لها بزماننا، وقد فصلت ذلك في كتابي (مستقبل الصراع على الأرض المقدسة)".
الحالة السورية تمهد للملاحم الكبرى
في السياق ذاته، أوضح الداعية والباحث الشرعي، الدكتور جمال الباشا، أن التكلف في إسقاط أحاديث الفتن والملاحم وإنزالها على واقع معين، مسلك قديم ومتجدد، خاصة في ادّعاء المهدوية عبر مراحل تاريخية مختلفة، وغير ذلك من التأويلات البعيدة والمتكلفة في إنزال تلك الأحاديث على وقائع محددة.
لكن الدكتور الباشا قرأ في الحالة السورية الراهنة أمرا مختلفا من حيث إرهاصاتها ومقدماتها، إذ ثمة إشارات رصدها وتابعها توحي بمجموعها أن ما ورد في أحاديث "الغوطة ودمشق ويوم الملحمة" قد اقترب زمانها.
ودلل الباشا على رؤيته تلك بأن النظام السوري بقبضته الأمنية الحديدية كان يلاحق الأنفاس، ويرصد كل الفعاليات والنشاطات، لكنه اليوم لا يملك السيطرة على أكثر من 18 بالمئة من الجغرافيا السورية، وفي الوقت نفسه تسارعت الأحداث، وتنامت الحركات الجهادية وتكاثرت، وهو ما يهيئ الأسباب ويمهد الأجواء لقيام تلك الملاحم الكبرى.
وحول مدى قوة تلك الإشارات التي تدفعه لاعتبار أن ما يجري يمكن اعتباره بمثابة إرهاصات ومقدمات بين يدي تلك الملاحم الكبرى؛ قال الباشا إنه يرى أن "ثمة معطيات تقوي ذلك، وقرائن قوية تعززه، فمثلا حديث (يتبع الدجال سبعون ألفا من يهود أصبهان)، قبل خمسين سنة لم يكن في أصفهان عشرة ألاف يهودي، الآن تعدادهم ثمانين ألفا، وهذا معطى واقعي لا تكلف فيه"، بحسب الباشا.
وفي ظل سُنة التدافع بين الأمم، ألا يمكن اعتبار المعارك الجارية الآن في سوريا من الأحداث التي تندرج في دائرة الصراعات التاريخية كمثيلاتها من الأحداث السابقة؟ وفقا للدكتور الباشا، فإن ما يحدث في سوريا باستحضار ما ورد في الأحاديث (الغوطة ودمشق والملحمة) لم يحدث في ظروف وحالات مشابهة من قبل، ما يضفي عليه صفة استثنائية، يضاف إلى ذلك اجتماع الأمم المختلفة وتكالبها، باعتبارها منطقة مركزية، بالغة الحساسية، يعطيها خصوصية أخرى.
العقلية السننية تحاصر التأويلات الفاسدة
ويخطر سؤال: كيف يمكن تفسير تعلق اتجاهات إسلامية واسعة وعريضة بذلك اللون من القراءات التأويلية الدينية، التي تستسهل إنزال النصوص الدينية العارية عن تحديد زمان معين، وإسقاطها على وقائع بعينها، وتشكيل رؤاها ومواقفها بناء على تلك التأويلات والإسقاطات؟
وأجاب الباحث في الفكر السياسي والإسلامي، الدكتور أسامة عكنان، أن "الفكر الديني الإسلامي خضع لمؤثرات كثيرة عبر مراحله التاريخية المتتابعة، وأن كثيرا من الأحاديث المروية في فضائل أناس وأزمنة وأمكنة، هي لمن يدقق في سياقاتها وحيثياتها جاءت لخدمة فئات معينة، وأزمنة وأمكنة دون غيرها".
وأوضح عكنان أن "للصراعات السياسية التاريخية تأثيرات قوية في وضع الأحاديث واختلاق المرويات، وأن تكاثرها دفع العقل المسلم للتعلق دائما بالأسباب الغيبية لإحداث التغيير المنشود، والإصلاح المرجو، ولو عدنا إلى النص القرآني بتأويله العقلاني لرأينا أنه يرسم مسارا منضبطا للتفكير العقلاني، والعمل المنتج المتولد من رحم العقلية السننية، والمتقيد بالقوانين والنواميس الكونية".
وتساءل: "أليس التعلق بتلك المبشرات يدخل المسلم في حالة مقيتة من الهمود واللافاعلية انتظارا لما سيقذفه عالم الغيب كي تتحقق تلك المبشرات الواردة في الروايات؟"، داعيا إلى فهم الدين فهما عقلانيا موضوعيا، بالاستناد إلى نصوص القرآن الكريم، بعيدا عن التفسيرات والتأويلات التراثية السائدة والحاكمة.
يشار في هذا السياق إلى أن العلماء عادة ما يتحرجون ويتحوطون من إنزال أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الواقع، ولا يجزمون بذلك، ويوجهون المسلمين إلى الفهم الصحيح، ويحفزونهم إلى العمل البشري المنتج بعيدا عن التواكل والتكاسل وانطفاء الفاعلية.
الداعية السعودي، عبد الرحمن السحيم، في جواب عن سؤال مشابه قال: "العلماء الكبار كانوا يتحوطون ولا يقولون عن واقع معين أنه هو المقصود بشيء من الأحاديث النبوية التي فيها إخبار عن المستقبل، كما لا نستطيع الجزم بأن ما يحدث في سوريا مثلا هو مقدمة الملاحم، ولا أنه هو سببها"..
وقفات عسكرية.. سورة العاديات - وقفات عسكرية.. سورة العاديات - وقفات عسكرية.. سورة العاديات - وقفات عسكرية.. سورة العاديات - وقفات عسكرية.. سورة العاديات
وقفات عسكرية.. سورة العاديات
على بصيرة
د. إيهاب برهم
يقسم الحق سبحانه وتعالى في سورة العاديات معظما شأن خمسة أمور كلها متعلقة بالخيل وبمهاراتها في القتال والغزو، ومعلوم قيمة الخيل وقدرتها وميزتها في النزال وملاقاة العدو عبر الأزمان حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيها: «الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» (رواه مسلم)، فقد خصها بشرف عظيم وخير وفير من دون بقية ما يركب من المخلوقات، كما نص الحق في كتابه العزيز على دورها في الإعداد وإرهاب العدو «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» (الأنفال: 60).
في سورة العاديات يقول الحق سبحانه: «وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا. فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا. فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا. فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا. إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ..» (العاديات: 1- 6). والمقسم عليه هو: إن الإنسان لربه لكفور جحود.
والعجيب في الآيات السابقة أن الله سبحانه لم يقسم بالخيل بجمالها وشكلها وخلقها.. وإنما ربط القسم في حركات ملفتة مؤثرة لها دور في القتال والجهاد تكاد تكون استراتيجيات عسكرية هامة، يمكن اتباعها والسير حذوها عبر الزمان والمكان والميدان مع اختلاف في المعطيات، بيان ذلك: أقسم الله بالخيل حين:
- تعدو وتسرع فيخرج منها صوت النفس الناتج عن السرعة، وهو الضبح. فالإشارة هنا لأمرين مهمين معا هما السرعة والصوت. ومعلوم أثر السرعة الواضح في العسكرية، فهو يؤدي إلى امتلاك زمام الموقف والتحكم الفاعل في ميدان المعركة. لقد كان خالد بن الوليد رضي الله عنه كثيرا ما يطبق هذا في حروبه التي خاضها، حتى وصف بأنه «في أناة القط، ووثبة الأسد».
إن استراتيجيات الحسم العسكري اليوم تعتمد السرعة في التخطيط والهجوم لإصابة العدو بالشلل التام، بدلا من خوض معركة استنزاف يطول أمدها. كما أن السباق قائم على على أشده بين كبرى القوى فيمن يصنع ويطور الطائرات والآلات والمحركات والأسلحة الأكثر سرعة وفاعلية، والتي تحقق الهدف والضربات الخاطفة في أقصر وقت ممكن وتحدث عنصر المفاجأة في زمن قياسي. مع مراعاة خفة الحركة والمرونة.
- توري النار بحوافرها، فمن شدة عدوها وانطلاقتها وقوة ضرب أرجلها الأرض تكاد تشعل نارا وشرارا ولهيبا من احتكاك الحوافر بالأرض الصلبة. فالتلميح هنا بالنار، وهو عماد الآلات القتالية اليوم وأساس في عملها، فما من آلة هجومية أو دفاعية أو محرك في وقتنا أو ذخائر ذكية إلا وتعتمد على النار والشرر والقدح والليزر.. بل إن كثيرا مما يقذف من معدات قتالية ومدافع تعتمد التدمير بالحرق.
- تغير في سبيل الله صباحا في وقت البكور علانية على العدو، فتفاجئه وتباغته حالة غفلته وتوجه له ضربات مركزة، مما يحدث له صدمة تربكه وتمنعه من الصمود والدفاع وتضطره للاستسلام، وهو ما يسمى اليوم بالحرب الخاطفة. ولقد كان نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام يتبع هذه الاستراتيجية في حربه مع العدو، فقد ثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن علية، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضي الله عنه قال: صبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش، رجعوا وهم يقولون: محمد والله، محمد والخميس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين»، ورواه البخاري من حديث مالك، عن حميد، عن أنس.
- ترفع بالوادي نقعا من حوافرها، أي الغبار أو التراب، وهو ناتج عن السرعة والقوة في العدو، إضافة للكثرة في الهجوم المباغت مع الإحاطة والسيطرة. ولعل الإشارة إلى الغبار والنقع يفيد - والله أعلم -: إلى أهمية الخداع في الهجوم السريع المباغت والسرية فيه، ليتم عنصر المفاجأة على أكمل وجه ممكن، فيربك العدو ويحقق الهدف المطلوب.
- تتوسط جمع العدو فتفرقه وتشتته وتتمكن من الاستحواذ على الميدان والهيمنة عليه وتوجه ضربات قاتلة في تجمعات العدو وقوته الرئيسية المحورية، وتحيط بالعدو مثيرة الرعب والفزع في صفوفهم، فهي تعرف هدفها وقصدها، وتعرف كيف تصل إليه.
إن مجيء سورة مكية - في فترة لم يكن فيها ثمة جهاد - وبهذا النسق، تقسم على مثل هكذا أمور، مع الإشارة لمكانتها في الغلبة والسيطرة و إخضاع العدو وقهره مع المرونة وخفة الحركة والمناورة الذكية، لهو خير دليل على اهتمام القرآن واعتنائه بالتسابق للتسلح وحيازة الهيمنة والتفوق، وابتكار كل ما هو جديد وفعال في ميادين الحرب، ومواكبة التطور العسكري والتقني، وامتلاك قدرات قتالية فائقة على تعبئة وجاهزية كبيرة، ومضاعفة الجهود وتكريسها للأخذ بسنن النصر والتمكين والقوة، والأخذ بزمام المبادرة في الإعداد وإرهاب الخصم والاتباع الدقيق لاستراتيجيات حديثة دوما في مناجزة أهل الظلم والعدوان والبغي.
لاشك أَن البديهيات العسكرية تحتم حماية أَمْثَال هَذِه الفتحة ليؤمن الْجَيْش طَرِيقه إِذا اضْطر إِلَى الْخُرُوج من هَذَا الْوَادي المحاصر بشواهق الْجبَال. وَلَكِن يبدوا أَن قوات الرّوم كَانَت مغرورة بكثرتها الهائلة، مزهوة بالنصر الَّذِي أحرزته على خَالِد بن سعيد وَمن مَعَه من قوات الْمُسلمين، كَمَا يَبْدُو أَن هَذَا النَّصْر أنساهم أبسط التخطيط العسكري فِي مثل هَذَا الْموقف.
ازْدَادَ حماس الْخَلِيفَة لفتح الشام بعد مَا أصَاب خَالِد بن سعيد وجنده من الْهَزِيمَة والفرار، فندب أعظم قواده للذهاب إِلَى بِلَاد الشَّام، فَأمَّر عمرو بن العاص على فرقة من الْجَيْش وَأمره أَن يتَّجه بهَا إِلَى فلسطين، واستدعى يزيد بن أبي سفيان وولاه على جَيش لجب، فيهم سهيل بن عمرو وَأَمْثَاله من أهل مَكَّة، وألحقه بِجَيْش آخر بقيادة أَخِيه معاوية بن أبي سفيان، وَوجه شرحبيل بن حسنة ليقود جمَاعَة من جَيش خَالِد بن سعيد، وَندب الْخَلِيفَة جَيْشًا عَظِيما وأمَّر عَلَيْهِ أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح وَعين لكل جَيش طَرِيقه، وَأمره أَن يسلكه حَتَّى يصل إِلَى مقره. فَأخذ عَمْرو بن الْعَاصِ طَرِيق المعرقة. وسلك أَبُو عُبَيْدَة بن الجراح الطَّرِيق نَفسه، وَأخذ يزِيد بن أبي سُفْيَان طَرِيق التبوكية وسلكه مَعَه شُرَحْبِيل بن حَسَنَة، وَتوجه الْأُمَرَاء إِلَى الشَّام، فَلَمَّا وصلوها نزل أَبُو عُبَيْدَة الْجَابِيَة، وَنزل يزِيد البلقاء، وَنزل شُرَحْبِيل الْأُرْدُن، وَنزل عَمْرو بن الْعَاصِ العربة [1].
هِرقل ينصح قومه
علم الرّوم بِدُخُول الجيوش الإسلامية أَرضهم، فَكَتَبُوا إِلَى هرقل، وَكَانَ بالقدس فَقَالَ هِرقل: "أرى أَن تصالحوا الْمُسلمين، فو الله لِأَن تصالحوهم على نصف مَا يحصل من الشَّام وَيبقى لكم نصفه مَعَ بِلَاد الرّوم أحب إِلَيْكُم من أَن يغلبوكم على الشَّام وَنصف بِلَاد الرّوم".
وأغضبت هَذِه النَّصِيحَة قواد الرّوم، وظنوا أَن الإمبراطور قد وَهن وَضعف وسيسلم الْبِلَاد للغزاة الفاتحين، وَالْحق أَن هِرقل قد ضعف أَمَام غضبة قواده، وعزم على قتال الْمُسلمين مَعَ يقينه بالهزيمة، وَجمع هِرقل الثائرين، وَتوجه بهم إِلَى حمص، وَهُنَاكَ أعد جَيْشًا ضخم الْعَدَد كثير الْعُدَد، وقسمه أَرْبَعَة أَقسَام، وَجعل كل قسم مِنْهُ يُقَابل فرقة من جَيش الْمُسلمين ليوهنهم ويشغلهم عَن مناصرة إخْوَانهمْ.
عدد الْجَيْش
بلغ جَيش الْمُسلمين ثَلَاثِينَ ألفًا أَو تقل قَلِيلا، وَأما جَيش الرّوم فقد بلغ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعين ألفًا.
الْخَلِيفَة الصديق يدرس أَسبَاب تَأَخّر النَّصْر
وَاسْتَشَارَ الْخَلِيفَة أبو بكر الصديق أَصْحَابه ذَوي الرَّأْي، وقلب الْأَمر على كل وجوهه، فاهتدى إِلَى أَن ضعف الْمُسلمين ناتج إِلَى ضعف القيادة، ذَلِك لِأَن الْأُمَرَاء الَّذين بَعثهمْ الْخَلِيفَة إِلَى الشَّام لَيْسَ فيهم من يصلح فِي نظر الْخَلِيفَة لخوض هَذِه المعركة الرهيبة، فَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح مَعَ قدرته العسكرية الفائقة إِلَّا أَنه رَقِيق الْقلب لَا يقدم على الحسم، وَابْن الْعَاصِ مَعَ دهائه وَحسن حيلته يهاب الْإِقْدَام على عدوه، وَعِكْرِمَة مَعَ إقدامه وحنكته غير أَنه تنقصه دقة التَّقْدِير للمواقف، وَبَقِيَّة القواد لم يشتركوا من قبل فِي مثل هَذِه المعارك الْكَبِيرَة.
وَهُنَاكَ أَمر آخر يَنْبَغِي للخليفة أَن يقدره وَلَا يغفله، ذَلِكُم هُوَ تَسَاوِي القواد فِي الْقُدْرَة، فَلَيْسَ فيهم من يقرونَ لَهُ بالتفوق أَو العبقرية الَّتِي يتَمَيَّز بهَا عَلَيْهِم حَتَّى يجتمعوا عَلَيْهِ. وَمن أجل هَذَا فكر الْخَلِيفَة كثيرا فِي الْأَمر وَطَالَ تفكيره فَالْأَمْر لَيْسَ بالهين الْيَسِير، وَإِنَّمَا هِيَ معارك فاصلة لابد أَن تحسم فِي الشَّام كَمَا حسمت فِي العراق. واهتدى الْخَلِيفَة رَضِي الله عَنهُ إِلَى الْحل، فَقَالَ لمجلس الشورى: "وَالله لأنسين الورم وساوس الشَّيْطَان بِخَالِد بن الْوَلِيد" [2].
خَالِد يتَوَجَّه إِلَى الشَّام ويَدْعُو إِلَى تَوْحِيد القيادة
كتب الْخَلِيفَة إِلَى خالد بن الوليد يَأْمُرهُ بِأَن يسْتَخْلف على الْعراق، وَيتَّجه بخيرة جنده إِلَى الشَّام، وصدع خَالِد بِأَمْر الْخَلِيفَة واتجه إِلَى الشَّام فِي تِسْعَة آلَاف مقَاتل من خيرة الْجند. وَنظر خَالِد إِلَى الْمُسلمين فَوَجَدَهُمْ متساندين كل جمَاعَة على رَأسهَا قَائِد لَيْسَ لَهَا أَمِير وَاحِد يجمعهُمْ، وَرَأى رَضِي الله عَنهُ بعبقريته العسكرية أَن هَذَا الْحَال لَا يُؤَدِّي إِلَى النَّصْر، فَخَطب فِي الْمُسلمين، فَحَمدَ الله، وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ:
"إِن هَذَا يَوْم من أَيَّام الله، لَا يَنْبَغِي فِيهِ الْفَخر وَلَا الْبَغي، أَخْلصُوا جهادكم، وأريدوا الله بأعمالكم، فَإِن هَذَا يَوْم لَهُ مَا بعده، وَلَا تقاتلوا قوما على نظام وتعبية وَأَنْتُم متساندون، فَإِن ذَلِك لَا يحل وَلَا يَنْبَغِي، وَإِن من وراءكم لَو يعلم علمكُم حَال بَيْنكُم وَبَين هَذَا، فاعملوا فِيمَا لم تؤمروا بِهِ بِالَّذِي ترَوْنَ أَنه الرَّأْي من واليكم ومحبتكم".
قَالُوا: فهات فَمَا الرَّأْي؟ قَالَ:
"إِن أَبَا بكر لم يبعثنا إِلَّا وَهُوَ يرى أننا سنتياسر وَلَو علم بِالَّذِي كَانَ وَيكون لما جمعكم، إِن الَّذِي أَنْتُم فِيهِ أَشد على الْمُسلمين مِمَّا قد غشيهم وأنفع للْمُشْرِكين من أمدادهم، وَقد علمت أَن الدُّنْيَا فرقت بَيْنكُم، فَالله الله، فقد أفرد كل رجل مِنْكُم بِبَلَد من الْبلدَانِ لَا ينتقصه مِنْهُ أَن دَان لأحد من أُمَرَاء الْجنُود وَلَا يزِيدهُ عَلَيْهِ أَن دانوا لَهُ، إِن تأمير بَعْضكُم لَا ينقصكم عِنْد الله، وَلَا عِنْد خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هلموا فَإِن هَؤُلَاءِ تهيئوا، وَهَذَا يَوْم لَهُ مَا بعده، إِن رددناهم إِلَى خندقهم الْيَوْم لم نزل نردهم، وَإِن هزمونا لم نفلح بعْدهَا، فَهَلُمُّوا فلنتعاور الْإِمَارَة فَلْيَكُن عَلَيْهَا بَعْضنَا الْيَوْم، وَالْآخر غَدا، وَالْآخر بعد غدٍ حَتَّى يتأمر كلكُمْ، ودعوني إِلَيْكُم الْيَوْم".
فأمَّروه، وهم يرَوْنَ أَنَّهَا كخرجاتهم، وَأَن الْأَمر أطول مِمَّا صَارُوا إِلَيْهِ [3].
كَانَت لكلمة خَالِد تِلْكَ أعظم الْأَثر فِي نفوس الْمُسلمين من تحرض القسيسين والرهبان فِي نفوس الرّوم، وَلَئِن ظلّ هَؤُلَاءِ يعبئون تِلْكَ التعبئة الروحية مُدَّة شهر كَامِل، فَإِن نُفُوسهم لم يكن فِيهَا من الْيَقِين وَحسن الثِّقَة فِي وعد الله كَمَا كَانَ فِي نفوس الْمُسلمين، وَلذَلِك أثمرت كلمة خَالِد الَّتِي لم تستغرق دقيقتين مَا لم تثمره مواعظ الرهبان والقسيسين لمُدَّة شهر، لِأَن النُّفُوس المؤمنة بِالْحَقِّ تكون دَائِما مهيأةً لاستقبال التَّوْجِيه وَالْمَوْعِظَة، سريعة التأثر بِمَا يلقى عَلَيْهَا إِذا ذكرت بوعد الله عز وَجل، حَسَنَة الثِّقَة فِيمَا عِنْده.
على أننا نرى فِي كلمة خَالِد رَضِي الله عَنهُ من الْإِخْلَاص والحث عَلَيْهِ، وعظيم الِاعْتِمَاد على الله مَا لَا يُمكن أَن يخيب صَاحبه، زد على ذَلِك بعد نظر خَالِد، وإدراكه لما حوله من أبعاد المعركة وَقدرته العسكرية الَّتِي تجْعَل أَصْحَابه يدينون لَهُ من غير مُنَازع، كل ذَلِك جعلهم يَجْتَمعُونَ على قيادته بعد أَن كَانُوا متساندين لَا يدين أحد لأحد، وَلَا يرى أحد أَن أحدا أَحَق بالإمرة مِنْهُ.
خطة خَالِد لمواجهة الرّوم
اجْتمع الْمُسلمُونَ على خَالِد بعد أَن مكث شهرا على اليرموك لَيْسَ بَينه وَبَين الرّوم قتال، واقترح خَالِد بعد أَن آلت إِلَيْهِ القيادة الْعَامَّة لجيش الْمُسلمين أَن يقسم الْجَيْش إِلَى كراديس (فرق)، كل فرقة من ألف رجل، وَجعل على كل كرْدُوس رجلا مِمَّن اشتهروا بالشجاعة والإقدام، أَمْثَال القعقاع بن عمرو وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وأضرابهم، وَأسْندَ قيادة الْقلب إِلَى أبي عُبَيْدَة بن الْجراح، وقيادة الميمنة إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ وشرحبيل بن حَسَنَة، وقيادة الميسرة إِلَى يزِيد بن أبي سُفْيَان. وَقَالَ لأَصْحَابه: "إِن عَدوكُمْ كثير، وَلَيْسَ تعبية أَكثر فِي رَأْي الْعين من الكراديس".
حاول خَالِد بذلك أَن ينسي الْمُسلمين كَثْرَة الرّوم المخيفة، وَأَن يظْهر الْمُسلمين فِي حَالَة تدخل الرعب والفزع فِي عدوهم، وَلكنه لم يلبث أَن سمع رجلا يَقُول: "مَا أَكثر الرّوم وَأَقل الْمُسلمين!"، فَغَضب خَالِد لما سمع وَصَاح مغضبًا: "بل مَا أقل الرّوم وَأكْثر الْمُسلمين، إِنَّمَا تكْثر الْجنُود بالنصر، وتقل بالخذلان، وَالله لَوَدِدْت أَن الْأَشْقَر -يَعْنِي فرسه- برَاء من توجِّيه وَأَنَّهُمْ أَضْعَف فِي الْعدَد". وَكَانَ فرسه قد حفي من مَشْيه بالمفازة (بادية الشَّام) [4]. وخشي خَالِد أَن تسري كلمة الرجل فِي صُفُوف الْمُسلمين فتوهنهم، وتضعف مقاومتهم، فَعجل بالمعركة ليشغل الْمُسلمين بهَا، بَدَلا من أَن يشغلوا عَنْهَا بِالنّظرِ فِي عَددهمْ وَعدد عدوهم.
خالد يوزع الأدوار
لم ينس خَالِد أَن يخْتَار من جُنُوده من يتَوَلَّى أُمُور الْمُسلمين، فَبعد أَن نظَّم الكراديس وَاخْتَارَ لَهَا مهرَة القواد، عين أبا الدرداء قَاضِيا، وَأَبا سُفْيَان واعظًا، وَجعل على الطَّلَائِع قباث بن أَشْيَم، وعَلى الأقباض عبد الله بن مسعود، وَكَانَ الْقَارئ المقداد، يَقُول الطبري: "وَمن السّنة الَّتِي سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد بدر أَن تقْرَأ سُورَة الْجِهَاد عِنْد اللِّقَاء -وَهِي الْأَنْفَال- وَلم يزل النَّاس بعد ذَلِك على ذَلِك".
إِسْلَام قَائِد من قواد الرّوم
وَفِي الْوَقْت نَفسه خرج جرجة من صُفُوف الرّوم حَتَّى وقف بَين الصفين، ونادى: "ليخرج إِلَيّ خَالِد"، فَخرج خَالِد إِلَيْهِ، وأناب أَبَا عُبَيْدَة عَنهُ، والتقى الرّجلَانِ بَين الصفين، وَسَأَلَ جرجة خَالِد عَن سَبَب تَسْمِيَته سيف الله، فَأخْبرهُ خَالِد بِأَن الرَّسُول هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ بذلك وَدَار بَين الرجلَيْن حَدِيث طَوِيل أسلم جرجة على أَثَره، وَتبع خَالِدا إِلَى خيمته ليعلمه الْإِسْلَام.
موقف عِكْرِمَة من هجوم الرّوم
ظن الرّوم أَن جرجة خمل على الْمُسلمين، وَأَنه فِي حَاجَة إِلَى المدد، فحملوا على الْمُسلمين حَملَة أزالتهم عَن مواقفهم، وَثَبت لَهُم عِكْرِمَة بن أبي جهل والْحَارث بن هِشَام، وَكَانَا على حامية فسطاط خَالِد، وَلما رأى عِكْرِمَة تراجع الْمُسلمين قَالَ: "قَاتَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل موطن، وأفر مِنْكُم الْيَوْم"، ثمَّ نَادَى فِي الْمُسلمين: "من يُبَايع على الْمَوْت؟" فَبَايعهُ عَمه الْحَارِث بن هِشَام وَضِرَار بن الْأَزْوَر ومعهما أَرْبَعمِائَة من أبطال الْمُسلمين.
خَالِد يُدِير المعركة
وواجه خَالِد مسيرَة الرّوم الَّتِي حملت على ميمنة الْمُسلمين، فَقتل مِنْهُم سِتَّة آلَاف، والتفت إِلَي صَاحبه وَقَالَ: "وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لم يبْق عِنْدهم من الصَّبْر وَالْجَلد إِلَّا مَا رَأَيْتُمْ، وَإِنِّي لأرجو أَن يمنحكم الله أكتافهم"، ثمَّ اعْتَرَضَهُمْ فَحمل بِمِائَة فَارس على مائَة ألف مِنْهُم، فَلم يكد يصل إِلَيْهِم حَتَّى انفض جمعهم، وَحمل عَلَيْهِم الْمُسلمُونَ حَملَة صَادِقَة، فانكشفوا لَا يلوون على شَيْء وتبعهم الْمُسلمُونَ يقتلُون وَيَأْسِرُونَ.
وَجعل الَّذين سلسلوا أنفسهم لِئَلَّا يَفروا يتساقطون فِي الواقوصة كَمَا يتساقط الْفراش فِي النَّار، وَكلما سقط رجل من مَجْمُوعَة سَقَطت مَعَه بأكملها حَتَّى سقط فِيهَا، وَقُتل عِنْدهَا مائَة ألف وَعِشْرُونَ ألفا، ثَمَانُون ألف مقترن وَأَرْبَعُونَ ألف مُطلق، سوى من قتل فِي المعركة من الْخَيل وَالرجل، وَأخر النَّاس صَلَاة العشائين حَتَّى اسْتَقر الْفَتْح [6].
وأمعن الْمُسلمُونَ فِي قتل الرّوم، وظلوا يُقَاتلُون حَتَّى أَصْبحُوا، وَدخل خَالِد رواق تذارق أخي هِرقل، فَلَمَّا أَصْبحُوا وَقد انْتَهَت المعركة أُتِي خَالِد بِعِكْرِمَةَ بن أبي جهل جريحًا فَوضع رَأسه على فَخذه، وبعمرو بن عِكْرِمَة فَجعل رَأسه على سَاقه، وَمسح وجهيهما، وَأخذ يقطر فِي حلقيهما المَاء حَتَّى اسْتشْهدُوا، وَقَالَ: "زعم ابْن حنتمة -يَعْنِي عمر- أننا لَا نستشهد".
وَقَاتل نسَاء الْمُسلمين فِي هَذَا الْيَوْم، وَقتلُوا عددا كَبِيرا من الرّوم، وَكن يضربن من انهزم من الْمُسلمين وَيَقُلْنَ: "أَيْن تذهبون وتدعوننا للعلوج؟!"، وعندئذ يرجع المنهزمون، وَكَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ من المنهزمين وَمَعَهُ أَرْبَعَة نفر حَتَّى بلغُوا النِّسَاء، فَلَمَّا زجرنهم رجعُوا إِلَى الْقِتَال [7].
دفع الشُّبْهَة
وَكَانَ يزِيد بن أبي سُفْيَان من الَّذين ثبتوا وَلم يَفروا، وَقَاتل قتالًا شَدِيدا، لِأَن أَبَاهُ مر بِهِ، وَذكره بِمَا يجب عَلَيْهِ وعَلى أَمْثَاله من الْأُمَرَاء، وَأمره بِالصبرِ والثبات، ورغبه فِيمَا عِنْد الله من الْأجر والمثوبة، فَأجَاب يزِيد، أفعل إِن شَاءَ الله.
وَهَذِه الرِّوَايَة ترد رِوَايَة ابن الأثير الَّتِي رَوَاهَا عَن عبد الله بن الزبير، وفيهَا يتهم أَبَا سُفْيَان ورجالًا من مَكَّة يسميهم مهاجرة الْفَتْح، بِأَنَّهُم تنحوا عَن الميدان، وظلوا بَعيدا يتربصون بِالْمُسْلِمين فَإِذا ركب الرّوم الْمُسلمين قَالُوا: إيه بني الْأَصْفَر، وَإِذا غلب الْمُسلمُونَ يَقُولُونَ: وَيْح بني الْأَصْفَر. تدل هَذِه الرِّوَايَة على تجنب أبي سُفْيَان المعركة، وَأَنه لم يشْتَرك فِيهَا، وَلَكِن ابْن الْأَثِير نَفسه يذكر مَا يكذب ذَلِك، حَيْثُ يرْوى بعْدهَا مُبَاشرَة وَفِي الصَّحِيفَة نَفسهَا أَن عين أبي سُفْيَان قد أُصِيبَت فِي المعركة، وَذَلِكَ أَمر مجمع عَلَيْهِ من المؤرخين، فَكيف يكون أَبُو سُفْيَان بَعيدا عَن ميدان المعركة يتربص بِالْمُسْلِمين، وَكَيف يُصِيب سهم فِي عينه فيفقؤها وينتزع السهْم من عينه أَبُو حثْمَة.
ويروي ابن كثير عَن سعيد بن المسيب عَن أَبِيه قَالَ: هدأت الْأَصْوَات يَوْم اليرموك فسمعنا صَوتا يكَاد يمْلَأ المعسكر يَقُول: يَا نصر الله اقْترب، الثَّبَات الثَّبَات يَا معشر الْمُسلمين، قَالَ: فَنَظَرْنَا فَإِذا هُوَ أَبُو سُفْيَان تَحت راية ابْنه يزِيد [8].
أَيْن كَانَ أَبُو سُفْيَان وَهُوَ يُنَادي نصر الله؟ وَهُوَ يطْلب الثَّبَات من الْمُسلمين؟ هَل كَانَ يطْلب الثَّبَات وَهُوَ هارب من الميدان؟ وَهل يَلِيق بِرَجُل كَأبي سُفْيَان أحد زعماء قُرَيْش أَن يطْلب الثَّبَات من الْمُسلمين ويفر هُوَ خَارج المعركة؟ وَمن الَّذِي يَصِيح بِالْمُسْلِمين ليثبتوا ثمَّ يُرى بعد ذَلِك بَعيدا عَن الميدان؟.
أغلب الظَّن أَن الرِّوَايَة مكذوبة على أبي سُفْيَان، فقد أجمع المؤرخون على أَنه كَانَ واعظ الْجَيْش، وروى عَنهُ المؤرخون كَلِمَات فِي الحض على الْقِتَال والحث على الثَّبَات تثير إعجاب كل من قَرَأَهَا أَو سمع بهَا.
نتائج معركة اليرموك وآثارها
وفر المنهزمون من اليرموك حَتَّى بلغُوا دمشق، وَأما هِرقل فَإِنَّهُ لما بلغه خبر اليرموك وَكَانَ بحمص تَركهَا وَولى عَلَيْهَا رجلا وَجعلهَا بَينه وَبَين الْمُسلمين، وودع سوريا الْوَدَاع الْأَخير. وَتوجه الْمُسلمُونَ بعد ذَلِك إِلَى الْأُرْدُن، وطهرها مِمَّا بَقِي فِيهَا من جنود الرّوم، ثمَّ تابعوهم إِلَى دمشق حَيْثُ حاصروهم هُنَاكَ.
وَبلغ عدد الشُّهَدَاء من الْمُسلمين ثَلَاثَة آلَاف شَهِيد بَينهم كثير من كبار الصحابة مثل سعيد بن الْحَرْب بن قيس السَّهْمِي، ونعيم النحام، وَالنضير بن الْحَارِث، وَأَبُو الرّوم عُمَيْر بن هِشَام أَخُو مصعب بن عمير. وَكَانَ فِي جنود هَذِه المعركة ألف صَحَابِيّ مِنْهُم مائَة مِمَّن شهد بَدْرًا.
وغنم الْمُسلمُونَ كل مَا كَانَ فِي معسكر الرّوم، وَكَانَ شَيْئا عَظِيما، حَتَّى خص الْفَارِس من النَّفْل ألف وَخَمْسمِائة دِرْهَم أَو ألف وَخَمْسَة دَرَاهِم. وَكَانَت الموقعة الفاصلة عِنْد اليرموك فِي شهر جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الثَّالِثَة عشرَة من الْهِجْرَة بعد أَن مكث الْمُسلمُونَ قرَابَة أَرْبَعَة أشهر لَا ينالون من الرّوم، وَلَا ينَال مِنْهُم [9].
وَلما انْتَهَت المعركة، وطارد الْمُسلمُونَ الرّوم حَتَّى حاصروهم فِي دمشق أظهر خَالِد الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ الْبَرِيد، فَإِذا هُوَ نعي للخليفة، وعزل لخَالِد من الْإِمَارَة وتولية لأبي عُبَيْدَة بن الْجراح إِمَارَة النَّاس، وعندئذ قَالَ خَالِد رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ يعلن وَفَاة الْخَلِيفَة وتولية عمر: "الْحَمد لله الَّذِي قضى على أبي بكر بِالْمَوْتِ، وَكَانَ أحب إِلَىَّ من عمر، وَالْحَمْد لله الَّذِي ولي عمر، وَكَانَ أبْغض إِلَى من أبي بكر، وألزمني حبه" [10].
تحقيق وَفَاة الصّديق
وَنحن نلاحظ خلافًا فِي تَارِيخ وَفَاة الصّديق رَضِي الله عَنهُ يَنْبَغِي أَن يُحَقّق، فالطبري وَابْن الْأَثِير وَابْن كثير والسيوطي والبلاذري كلهم مجمعون على أَن الْوَفَاة كَانَت فِي جُمَادَى الْآخِرَة وَهَذَا أَمر لَا خلاف فِيهِ بَين المؤرخين. وكما اتّفق المؤرخون على الشَّهْر الَّذِي توفّي فِيهِ الْخَلِيفَة، فهم كَذَلِك متفقون على أَن الْوَفَاة كَانَت فِي السّنة الثَّالِثَة عشرَة من الْهِجْرَة.
وَيَأْتِي الْخلاف بعد ذَلِك فِي الْيَوْم الَّذِي حصلت فِيهِ الْوَفَاة، وَالرِّوَايَة الَّتِي تكَاد تحظى بِإِجْمَاع المؤرخين أَنه رَضِي الله عَنهُ اغْتسل فِي يَوْم شَدِيد الْبرد، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الِاثْنَيْنِ لسبع خلون من جُمَادَى الْآخِرَة، فَحم على أثر ذَلِك خَمْسَة عشر يَوْمًا، وَتُوفِّي لَيْلَة الثُّلَاثَاء لثمان بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة.
ولكننا نرى أَن الْبَرِيد قد وصل والمسلمون فِي اليرموك والمعركة دَائِرَة بَينهم وَبَين الرّوم، والمؤرخون أنفسهم يرَوْنَ أَن معركة اليرموك انْتَهَت فِي جُمَادَى الْآخِرَة كَذَلِك، فَمَتَى يصل الْبَرِيد من الْمَدِينَة إِلَى الشَّام؟ وَفِي كم يَوْم يقطع الْمسَافَة؟؟
إِن الْبَرِيد مهما كَانَت سرعته لَا يُمكن أَن يقطع هَذِه الْمسَافَة فِي أقل من عشرَة أَيَّام، وَلَو توفى الْخَلِيفَة لثمان بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة لتحتم أَن تكون المعركة قد امتدت إِلَى شهر رَجَب.
وَلِهَذَا فَإِنِّي أرجح أَن تكون وَفَاة الصّديق فِي النّصْف من جُمَادَى الْآخِرَة قبل انْتِهَاء المعركة بِعشْرَة أَيَّام كَمَا ذكر الطَّبَرِيّ حَيْثُ يَقُول: "وَمرض أَبُو بكر رَحمَه الله فِي جُمَادَى الأولى وَتُوفِّي لِلنِّصْفِ من جُمَادَى الْآخِرَة، قبل الْفَتْح بِعشْرَة أَيَّام". وَهَذِه الْأَيَّام الْعشْرَة يُمكن أَن يصل الْبَرِيد فِيهَا من الْمَدِينَة المنورة إِلَى الشَّام حَيْثُ تَدور المعركة [11].
[1] ابن الأثير: الكامل، 2/ 406.
[2] ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 5.
[3] الطبري: تاريخ الرسول والملوك، 3/ 395 - 396) ، ابْن الْأَثِير: الكامل، 2/ 411.
[4] ابْن الْأَثِير: الكامل، 2/ 411 - 412.
[5] الطبري: تاريخ الرسول والملوك، 3/ 397. ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 9.
[6] الطبري: تاريخ الرسول والملوك، 3/ 400.
[7] ابن الأثير: الكامل، 2/ 414. ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 13 - 14.
[8] الطبري: تاريخ الرسول والملوك، 3/ 401. ابن الأثير: الكامل، 2/ 414. ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 13 - 14.
[9] الطبري: تاريخ الرسول والملوك، 3/ 400. ابن الأثير: الكامل، 2/ 410 - 414.
[10] ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 14.
[11] الطبري: تاريخ الرسول والملوك، 3/ 419. ابن الأثير: الكامل، 2/ 418. ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 18. السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص81.
مؤتة.. أرض الشهداء - مؤتة.. أرض الشهداء - مؤتة.. أرض الشهداء - مؤتة.. أرض الشهداء - مؤتة.. أرض الشهداء
مؤتة.. أرض الشهداء
أحمد ابودلو
إنّها مؤتة.. أرض الشهداء والدماء النقية، وهناك اختلطت حبات التراب بنجيع الشهداء الأخيار، وتواصلت المسيرة من الأبناء البررة، وامتد الحب وتوارثت الأجيال نقاء الأرض وصفاءها، وبقيت بصماتها عبر الزمن الذي شهد لها أنّها في قلوب أبنائها وفي عيون أهلها.
نعم هي مؤتة.. الأرض والتاريخ والدماء، فإلى هناك حيث يأخذنا الآسر؛ حيث ندري ولا ندري كيف احتضنت هذا الجمال وهذا الحب الأزلي، فلها ألف حكاية وحكاية، والتاريخ دائمًا هو الذي ينقلنا حيث لا نريد، فالأردن مليء بالمواقع التي تثيرك، فكل المواقع والآثار لها وقع خاص بها ولها حكاية تسرّك، فلا بدّ من كشف السر المدفون في أعماقك الذي جعلك تهيم فيها حبًّا وهيامًا، يجب أن تبوح لها بسرّك لكي تبادلك البوح في بعض سرّها وبعض نصف الحقيقة، وتحبك بأقل ما أحببتها، أو تمنحك بعض الحب عند حاجتها، أو عند كرهها للآخر، فالمكان تمامًا كالمعشوق الذي لا يفارقك خياله أو ظله المتجذر فيك، فكيف إذا كانت هذه هي مؤتة التاريخ والشهداء والعلم والإنسان الطيب.. آه أيتها الرائعة المتجذرة فينا كحد السيف لا نقدر إلا أن نبقى على اندهاشنا عندما نغادر جمالها وناسها مرددين:
يا مؤتة الأحرار يا رجع الصـدى
يا موئل الأبـرار يـا نبع الفـدا
عهدًا ستـبقي للعروبة محــتدا
والـله لا يـنسى أبي المــحتدا
أقسمت بالرحمن بالشعب الأبـي
بالثـورة الكبرى تبـناها أبــي
أقسمت بالأرض الطهور وبالذرى
أن لا يقـر على ثراهـا مـعتدي
تلك الأرض التي ارتوت بدماء الشهداء؛ زيد وعبد الله وجعفر، أرض المجد والكبرياء العربية عبر التاريخ العربي الحافل بالأمجاد المثخنة بالجراح والمعطرة بالدماء..
فهناك في سهل مؤتة جرت أول معركة خاضها المسلمون خارج الجزيرة العربية، فكانت غزوة مؤتة ولا تزال من أهم الغزوات في التاريخ الإسلامي التي خاضها المسلمون خارج الجزيرة العربية، وهي من أهم المعارك التي حدثت على أرض الأردن الطاهرة، كما كانت أول معركة يشارك فيها القائد خالد بن الوليد بعد إسلامه الذي أدخل مبدأ «الانسحاب التكتيكي» حتى يؤمن سلامة القوات بخطة خلاص محكمة، وكانت أول معركة يستشهد فيها قادتها الثلاثة كما أبلغهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قبل المعركة.
مؤتة.. دخول المكان
نستأذن الجنوب وجبال المؤابيين عبر وادي الموجب لندخل الكرك الحبيبة؛ حيث القلعة المهيبة التي بناها الصليبيون في القرن الثاني عشر الميلادي، تحيط بالمدينة بأكملها والتي تظل شرفاتها في انحدار سحيق نحو البحر الميت.
ومن المدينة المؤابية المحاطة في الصحراء والجبال والأغوار والشواطئ الجنوبية للبحر الميت الذي مات في الزمن الغابر الحي في زمنها، نواصل المسير جنوبًا؛ حيث حملنا أمانة السلام على أرواح الشهداء ومدينتهم وأهلها، وعلى الطريق تتناثر بقايا «المشهد» حتى نصل مدينتنا، مدينة الشهداء ورائحة «المزار» المعطرة تناديك لمرقد الشهداء هناك؛ حيث كانت في ضيافتهم، وما بين المزار ومؤتة التربة المعطرة بدمائهم، ويشهد على ذلك الجامع المهيب ذو المئذنتين والقبتين في أطراف البلدة مذكرة التاريخ المليء بمعاني البطولة والتضحية والفداء بمعركتها الشهيرة التي انتهت بحنكة خالد بن الوليد، وصانت دماء المسلمين الذين قدموا أنفسهم في سبيل السلام.
مؤتة.. الأرض والتاريخ
الأردن كان جزءًا من بلاد الشام وملتقى للطرق المتجهة غربًا إلى البحر الأبيض ومصر وشمال إفريقيا، وجنوبًا إلى شبه الجزيرة العربية والبحر الأحمر، وشرقًا للعراق والخليج، وشمالاً لتركيا وسورية، واحتل الأردن بحكم موقعه منذ القدم مكانة مرموقة في الحضارة الإنسانية التي تأثر بها.
ومن أبرز الملامح التاريخية التي تدل على مكانة الأردن من ذلك التاريخ، تردد ذكر منطقة جنوب الأردن في النقوش الفرعونية القديمة، واشتهرت بصلتها الوثيقة بحوادث العهد القديم، وقامت فيها ممالك من أهمها مملكة أدوم وامتدت لجنوب وادي الحسا، وكذلك هناك مملكة موآب التي كانت من أهم الممالك في شرقي الأردن؛ حيث امتدت من وادي الموجب شمالاً وحتى وادي الحسا جنوبًا، وأيضًا هناك مملكة عمون في شمال الأردن.
وكذلك شهدت منطقة الجنوب حركة العبرانيين عند خروجهم من مصر باتجاه فلسطين مرورًا بسيناء ومدين، فوقفت شعوب المنطقة في وجههم ومنعت دخولهم من أراضيهم، وفي مرحلة لاحقة تطور الصراع بين الطرفين بسبب أطماع العبرانيين التوسعية عبر نهر الأردن شرقًا وقد انتصر العمونيون عليهم وتحكموا بهم مدة 18 عامًا.
وقبل نهاية القرن الثامن قبل الميلاد احتل الآشوريون سورية ومن ضمنها شرق الأردن، وبقيت المنطقة تحت حكمهم حتى 629 قبل الميلاد، وفي عام 586 قبل الميلاد حكم البابليون بلاد الشام، واستطاع الفرس عام 539 ق.م القضاء على البابليين وفرض السيطرة على المنطقة.
ومع مجيء العرب الأنباط من شمال الجزيرة وإقامة دولتهم في البتراء في القرن السادس قبل الميلاد، بسطوا نفوذهم إلى دمشق شمالاً وجنوب فلسطين غربًا واتخذوا غزة ميناءً لهم، وبذلك أصبحت البتراء مركزًا تجاريًّا مهمًّا في المنطقة واستمرت دولة الأنباط قوية حتى بداية القرن الأول قبل الميلاد.
وفي عام 64 ق.م جاء الرومان لاحتلال بلاد الشام، وصار الأردن جزءًا من إمبراطوريتهم التي تركت بصمات ما زالت باقية في أكثر المدن الأردنية، وبعد ذلك أصبح الأردن جزءًا من مملكة الغساسنة العربية التابعة للإمبراطورية البيزنطية.
وفي عام 636م دخل الأردن في العهد الإسلامي وقامت على ثراه معارك بين المسلمين والبيزنطيين (اليرموك ومؤتة)، هؤلاء القادة الذين ضحوا في سبيل الإسلام هم خير دليل على تضحيات الأجداد لحماية البلاد والإسلام.
وازداد الأردن أهمية في العهد الأموي، فبطون الكتب مليئة بالحكايات والأسرار التاريخية عن المنطقة، والقصور المترامية في الصحراء شواهد على التاريخ، وشهدت المنطقة (الجنوب) ولادة أول حركة سريّة في التاريخ الإسلامي، فمن الحميمة أطاح العباسيون بأبناء عمهم الأمويين وبقيت المدن الأردنية حلقة الوصل التجاري بين بلاد الحجاز ومصر والشام بعدما انتقلت الخلافة إلى بغداد.
ومن هنا فالأردن مكان الانطلاق للأمة العربية ومن جزيرتها، ففي العام الثامن من الهجرة أرسل النبي عليه الصلاة والسلام جيشًا صغيرًا ليؤدب به الغساسنة الذين قتلوا حامل كتابه، واصطدم بجيش الروم الجرار في قرية مؤتة جنوب الكرك، وهناك استشهد القواد الثلاثة بعد أن ضربوا أروع الأمثلة في الصبر والثبات والتضحية، وبذلك أصبحت مؤتة مفتاح التاريخ الإسلامي.
وتقع بلدة مؤتة إلى الجنوب من مدينة المؤابيين «الكرك» بحوالي 12كم، حيث تشاهد من بعيد وسط سهل فسيح أمام هذه البلدة التي استشهد فوقها أبطال الإسلام، وتبعد المزار عن مؤتة 3كم جنوبًا، وكلاهما على الطريق التي تربط عمان بالطفيلة ومعان.
وفي المزار؛ حيث يرقد الشهداء الثلاثة أقيم مسجد واسع بثلاث قباب خضراء، ومئذنتين شاهقتين، وفي الإيوان الشرقي لمدخل المسجد أقامت وزارة الأوقاف متحفًا إسلاميًّا يضم العديد من القطع الفخارية والمخلفات المادية والنقود الإسلامية.
مؤتة المعركة
قال أبو هريرة: "شهدت مؤتة، فلما رأينا المشركين رأينا ما لا قبل لنا به من العدد، والسلاح، والكراع، والديباج، والحرير، والذهب، فبرق بصري؛ فقال لي ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة، ما لك؟ كأنك ترى جموعًا كثيرة. قلت: نعم، قال: إنّك لم تشهد بدرًا معنا، إننا لم ننصر بالكثرة".
هناك على أرضها دارت معركة «مؤتة» بين الروم والمسلمين في العام الثامن للهجرة وسببها أن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسل الحارث بن عمير الأزدي إلى والي بصرى الشام، فقتله شرحبيل بن عمرو الغساني سيد مؤتة، وهو في الطريق، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك سرية إلى «ذات أطلاح برئاسة عمرو بن كعب الغفاري وعدد رجالها خمسة عشر رجلاً»، وفي هذا المكان الذي يقع بين الكرك والطفيلة دعا رجال السرية أهله الى الإسلام فأبوا أن يجيبوا بل قتلوهم جميعًا، ونجا عمرو متحاملاً حتى وصل المدينة، ويذكر الطبري أنّ سكان ذات أطلاح هم قبيلة من قضاعة ورئيسهم يدعى سدوس.
وأشفق الرسول عليه السلام من عقبى السكوت على كلتا الفعلتين، خاصة أنّه وصل له استعدادات الروم العسكرية وبعض القبائل العربية (بهراء وقضاعة ولخم وجذام وأهل البلقاء)، كل هذه الأسباب حملت النبي صلى الله عليه وسلم على تجريد حملة غايتها الثأر للقتلى وتأديب المعتدي واختبار قوة الأعداء ومدى استعدادهم والتعرف على أسباب تجمعهم على أطراف الأردن المتاخمة للحجاز.
وفي شهر جمادي الأولى من السنة الثانية للهجرة (أيلول 629م) جرد الرسول الكريم جيشًا بلغ عدده ثلاثة آلاف وأمر عليهم زيد بن حارثة.
وقال: «إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب فعبد الله بن رواحة على الناس»، فلما قتلوا أخذ الراية خالد بن الوليد.
نقل المسلمون شهداءهم من أرض المعركة (المشهد) إلى مكان عرف فيما بعد بـ«المزار» وأخذ خالد في إنقاذ الجيش الإسلامي الذي لا قدرة له على مواجهة جيش الروم وحلفائهم العرب، فبادر بتغيير المواقع لجيشه (خطة إنقاذ) حتى يوهم الروم بأن المدد قد جاء وانطلت الخطة عليهم، وأنقذ خالد ما تبقى من الجيش عائدًا للمدينة، وقد صاح الناس فيهم يا فرار.. يا فرار.. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الغنيمة في رجوعهم إلينا سالمين من موت كان محتمًا عليهم، بل إنّهم الكرار إن شاء الله، وسمى خالد بن الوليد لحنكته العسكرية «سيف الله المسلول»، وعندما علم أن تسعة أسياف تكسرت بيديه وهو يقاتل.
ومن نتائج المعركة كان لعودة الجيش إلى المدنية وقع شديد على نفوس المسلمين حتى خرج أهل المدينة لملاقاة الجيش وهم يقولون: يا فرار.. أفررتم في سبيل الله؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى.
وقد كان من نتائج المعركة ما يلي: استشهاد اثني عشر مقاتلاً من المسلمين بما فيهم القادة الثلاثة، تخليص جيش المسلمين من معركة غير متكافئة، دخول القبائل العربية في شمال الجزيرة في الإسلام ونشره، كانت المعركة فرصة للمسلمين للاحتكاك مع جيوش خارجية لأول مرة.
مؤتة.. الدروس المستفادة
برز من خلال هذه المعركة منذ بداية الحملة وحتى عودة الجيش إلى المدنية بعض المواقف والدروس المستفادة، ومنها رفع الروح المعنوية والتصميم على الهدف؛ حيث صمم الجيش على المضي في التقدم لملاقاة الروم رغم الأعداد الكبيرة للجيوش المعادية، والمرونة والخدعة؛ حيث ظهرت في الخطة التي طبقها خالد واستطاع خداع الروم دون أن يعرفوا نواياه الحقيقية، والشجاعة وقوة الشخصية، وظهرت في استبسال القادة الثلاثة الذين قاتلوا قتالاً مشرفًا، وفي القائد الرابع وهو خالد بن الوليد وحنكته العسكرية، وكذلك الطاعة والنظام، وتتمثل في طاعة الجيش حسب وصية النبي صلى الله عليه وسلم في تسلسل القيادة، ثم وصيته في القتال وعدم التعرض للشيوخ والأطفال والنساء.
وفي النهاية لقد كانت غزوة مؤتة صفحة مشرقة في تاريخنا العسكري الإسلامي، وتركت في نفوس الروم أثرًا من ملاقاة المسلمين، فلم يحاول الروم ولا أتباعهم من العرب أن يتعرضوا للمسلمين، وبقيت الدولة الإسلامية مهابة وعظيمة لأنّها تستند إلى رجال عظماء ضحوا بأرواحهم في سبيل نشر هذا الدين في مشارق الأرض ومغاربها.
العبقرية العسكرية في شخصية خالد بن الوليد - العبقرية العسكرية في شخصية خالد بن الوليد - العبقرية العسكرية في شخصية خالد بن الوليد - العبقرية العسكرية في شخصية خالد بن الوليد - العبقرية العسكرية في شخصية خالد بن الوليد
العبقرية العسكرية في شخصية خالد بن الوليد
قصة الإسلام
لقد حفَل التاريخ الإنساني بالكثير من الأسماء والشخصيَّات التي سَطرت على صفحات الزمن بحروف من نور قصصًا للبطولة النادرة والعبقريَّة الفذة، ولعل القائد الإسلامي خالد بن الوليد من ألمع تلك الشخصيَّات التي سطعت في سماء العبقريَّة العسكرية، والذي استطاع في سنوات قليلة مستعينًا بالله أولاً، ثم بفضل الحُنكة العسكرية الفذَّة والخبرة التكتيكية الفريدة أن يَدُك حصون الفرس والروم، وهما أعظم دولتَين في ذلك الوقت، وأن ينشر الإسلام عزيزًا مهابًا على أرض الجزيرة العربية وفي بلاد العراق والشام.
ولا عجب إذًا أن يقول فيه الخليفة الأول للمسلمين وهو أبو بكر الصديق: "والله لأُنِسينَّ الرومَ وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"، وقال عنه أيضًا: "لقد عجزت النساء أن يَلِدن مثل خالد"، ولقد سمَّاه المسلمون: (سيف الله المسلول)؛ بعد أن قال له الرسول صلى الله عليه وسلم يوم دخوله الإسلام: "أنت سيف من سيوف الله، سلَّه على المشركين".
عبقرية خالد بن الوليد في مؤتة
وفي غزوة مؤتة في العام الثامن للهجرة، وبعد أن حاصَر الجيشُ الرومي المؤلَّف من مائة ألف جندي الجيشَ المسلم المؤلَّف من ثلاثة آلاف جندي، وبعد مقتل ثلاثة قادة من قواد الحملة، وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبدالله بن رواحة، وإزاء هذا الموقف العصيب والبالغ الحساسية من الوِجهة العسكرية أخذ الرايةَ خالد بن الوليد، وبأسلوب تكتيكي استطاع أن يَنسحِب بالجيش مؤمِّنًا لهم سُبُل السلامة، ومخفِّفًا عنهم وقْعَ الهزيمة، ومؤكِّدًا للروم أنه بالرغم من كثرة عددهم وعدتهم وقوة تنظيمهم، فقد تمكَّن من سحب الجيش سالمًا؛ ليتأهَّب لملاقاتهم في مرات قادمة.
عبقرية خالد بن الوليد في حروب الردة
وبعد انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى وتولي الصديق أبي بكر الخلافة، والتي استمرَّت حوالي ثلاثين شهرًا، هي عند الله خيرٌ من ثلاثين قرنًا، كانت الردة هي أول ما واجَهه من مشاكل، حيث اضطرب أمر الكثيرين من العرب، فارتد منهم من كان قريب العهد بالإسلام، وامتنَع بعضهم عن الزكاة، وإزاء ذلك فقد عزم الصدِّيق على قتال المرتدين حتى يعود الإسلام إلى ما كان عليه في الجزيرة العربيَّة. وكان لخالد بن الوليد سيف الله المسلول دورُه في إخماد هذه الفتنة، واستعادة هيبة الإسلام في صدور المتشكِّكين.
عبقرية خالد بن الوليد في فتوحات العراق
وبعد أن اطمأن الخليفة الصدِّيق إلى الجبهة الداخلية، تَطلَّع إلى تأمين حدود دولته الناشئة، خاصة تلك المتاخمة لدولتَي الفرس والروم، والتي باتتا تَستعِدان لمهاجمة الدولة الإسلامية، والقضاء على قوَّتها المتنامية في مهدها، وكانت خطته تتلخَّص في تَقدُّم القائد البطل خالد بن الوليد بجيشه البالغ عشرة آلاف مقاتل إلى جنوب العراق، ويتقدَّم القائد المغوار المثنى بن حارثة الشيباني نحو الحيرة، ويتقدَّم عياض بن غنم بالزحف نحو دومة الجندل ثم يَنعطِف نحو الحيرة، ويتقدَّم سعيد بن العاص بجيشه الذي يبلغ سبعة آلاف مقاتل نحو الحدود الفلسطينيَّة؛ لشغل الروم ومَن والاهم من العرب عن التدخل، وتعطيل التقدم في أراضي الفرس.
وقد نجح خالد بن الوليد في التقدم في جنوب العراق وتَمكَّن من فتح مدينة الحيرة، ولكن اعتراضًا حدث لجيش عياض بن غنم من جانب جيوش الغساسنة ومَن والاهم من العرب؛ مما اضطر خالد إلى نجدته وفكِّ الحصار عنه في الشمال، ثم عاد ثانية إلى جنوب العراق.
عبقرية خالد بن الوليد في فتوحات الشام
وعندما عَلِم خليفة المسلمين أبو بكر الصديق باضطراب الحدود على الروم، وبأن هرقل عظيم الروم قد جمع مائتين وأربعين ألف مقاتل للهجوم على المدينة، فماذا يفعل أبو بكر هل يَعقِد صلحًا أو يطلب هدنة مع هرقل؟ لا وألف لا، بل اجتمع أبو بكر مع مستشاريه، وأعلن النفير العام في الأراضي الحجازية والنجدية واليمنية، ومن ثَمَّ بادرت جموع المتطوعين بالتوافد نحو المدنية المنورة من جميع تلك الأنحاء.
وعندما اكتمل الحشد كوَّن الصِّديقُ أربع فِرق هجوميَّة، تتوجَّه إلى بلاد الشام بقيادة أربعة من قواد المسلمين، هم: يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وعندما وصل نبأ الجيوش العربية الإسلامية للروم، أَعَد هرقل ملك الروم جيشًا جرارًا، يَزيد على المائة والعشرين ألفًا ليُواجِه الفرق الإسلامية كلاًّ على حدة، وبعد التشاور رأى القوَّاد المسلمون ضرورة توحُّدهم في جيش واحد على ضفة نهر اليرموك، وقد أيَّدهم في ذلك الخليفة أبو بكر.
ولما علِم الروم بتحركات المسلمين، اضطروا للتوحد أيضًا في جيش واحد بمحاذاة الجيوش الإسلامية على أرض اليرموك، وظلَّ الجيشان في حالة تحفُّز وترقُّب قرابة الشهرين؛ حتى خاف القواد المسلمون من فتور حماس الجند المسلمين ونفاد صبرهم، وقد تربَّص بهم الأعداء الذين يفوقونهم عددًا وعُدَّة، وكان الرأي هو طلب المدد من الخليفة الصديق.
ولما وصلت الرسالة إلى الخليفة، وبعد استشارة مستشاريه رأى أن الموقف يتطلَّب تحويل القائد الصنديد خالد بن الوليد مع بعض جيشه من العراق إلى الشام، وبالفعل كتب إليه شارحًا له حالة اللاحرب واللاسِلم التي تسيطر على الجيشين، وأن هذا الوضع لا يَحسِمه إلا قائد مُحنَّك مثل خالد، وأمره أن يقسم جيشه نصفين، فيترك النصف الأول بالعراق، وتحت إمرة لواء الإسلام المثنى بن حارثة، ويسير بالنصف الثاني نحو اليرموك؛ ليكون مددًا لجيوش المسلمين هناك، وبهذا التقسيم يضمن استمرار العمليات العسكرية بالعراق، ويَحسِم الموقف على الجبهة الشامية.
عبقرية خالد العسكرية في المسير من العراق إلى الشام
وبالفعل جهَّز خالد بن الوليد جيشه المكوَّن من الكتائب القوية مع بعض القادة المتميزين، مِثل القعقاع بن عمرو التميمي وضرار بن الخطاب وضرار بن الأزور وعاصم بن عمرو، وتألَّف الجيش من حوالي عشرة آلاف مقاتل، ولقد ظهرت عبقرية خالد العسكرية في اختيار الطريق إلى وادي اليرموك، فلقد اختار طريقًا وعرًا صحراويًّا غير واضح المعالم، تَندُر فيه مصادر المياه؛ لأنه كان حريصًا على أن يرتاد الطريق الخالي من الحاميات الموالية للروم غير الآهل بالمارة أو السكان؛ وذلك من أجل الإبقاء على سرية المدد، واستخدام عنصر المباغتة من الخلف لجيش العدو ومحدِثًا لهم الهلع والارتباك، ولقد خطب خالد في جيشه ليهوِّن عليهم مصاعب الطريق قائلاً لهم: "أيها المسلمون، لا تسمحوا للضعف أن يَدُب فيكم، ولا للوَهْن أن يُسيطر عليكم، واعلموا أن المعونة تأتي من الله على قدْرِ النيَّة، وأن الأجر والثواب على قدر المشقة، وأن المسلم ينبغي له ألا يَكترِث بشيء مهما عَظُم ما دام الله في عونه".
وقد لبَّى الجنود نداء خالد قائلين له: أيها الأمير، أنت رجل قد جمع الله لك الخير، فافعل ما بدا لك وسِر بنا على بركة الله، وكان الطريق المختار هو طريق قراقره سوى، أرك، تدمر، القريتين، حوارين، مرج راهط، بصرى، وادي اليرموك، وقد استشار خالد دليلَه رافع بن عميرة في مشكلة المياه، فأشار عليه بأن على الجنود أن يحملوا ما استطاعوا من الماء معهم، أما الخيل فسوف يكون لها مصدر آخر من مصادر الشرب؛ فقد جاؤوا بعشرين من أعظم الجمال وأكثرها سِمنة، فمنعوها الماء حتى أَجهدها الظمأ، ثم عرضوا عليها الماء مرة ومرتين، حتى ارتوت وملأت أكراشها، ثم قُطِعت شفاهها؛ لئلا تجتر فتحوَّلت بطون الإبل بذلك إلى مستودعات هائلة للمياه، فإذا عطشت الخيل نُحِرت الإبل، فتشرب الخيل ما في بطون الإبل من الماء، ويأكل الجنود لحومها حتى يتقووا على جهد الطريق، ومضى الجيش المسلم يَخترِق الفيافي والصحراء مفضلاً السير في الليل والصباح الباكر، حيث الجو المعتدل من أجل توفير المستطاع من الماء، وأثناء الطريق كانت خبرة الدليل الجغرافي واضحة في مساعدة الجنود على ورود مصادر المياه، ليتزودوا منها أثناء تَرحالهم.
عبقرية خالد بن الوليد في معركة اليرموك
وما أن وصلت جيوش خالد إلى أرض اليرموك، حتى اجتمع خالد بن الوليد في مكان اسمه أجنادين مع أركان حرب الجيش الإسلامي المرابط بالشام، وهم يزيد بن أبي سفيان وأبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وعقَد معهم جلسة طارئة في غرفة العمليات العسكرية، قال فيها لإخوانه: إن عدد جنود العدو حوالي مائتين وأربعين ألفًا، وعدد جنودنا ستة وأربعون ألفًا، ولكن القرآن الكريم يقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. والنصر في الحروب لم يكن أبدًا لمن كَثُر عدده، بل كان لمن آمن بما يُقاتِل من أجله، وصدق النية، وصمَّم على النصر، وأعدَّ للأمر عدته.
وبعد أن أخذ خالد رأي كل أمير من أمراء الجيوش المسلمة، استقرَّ الرأي على أن تتوحَّد الجيوش الإسلامية تحت إمرة أمير واحد، خاصة بعد أن علم خالد بأن الجيوش الرومية قد توحَّدت تحت إمرة تيودورك، فأصبح من غير الحكمة أن تُقاتِل الجيوش الإسلامية المتفرِّقة جيشًا واحدًا منظَّمًا، وبحكمة بالغة وحتى لا يدع للشيطان مدخلاً في نفس أي من الأمراء فقد اقترح خالد بن الوليد أن تكون الإمارة الموحَّدة بالتناوب بين جميع الأمراء بحيث يكون لخالد بن الوليد اليوم الأول، ثم يتولَّى الأمراء الآخرون، كل حسب دوره، وقد وافَق الجميع على هذا الاقتراح.
ومن ثَمَّ شرع خالد بن الوليد في إعداد خُطَّة المعركة، وهو صاحب التجارب الناجحة في خوض حروب عديدة خارج الجزيرة العربية، وله خبرة بأساليب الدول الكبرى في المعارك، ويَمتلِك القدرة على التصرف السليم في المواقف الحرجة، والذي يؤدي دائمًا إلى تحقيق النصر.
وكانت الخطة الموضوعة تقضي بتقسيم الجيش العربي المسلم إلى ستة وأربعين كردوسًا، كل كردوس يتألَّف من ألف رجل يتأمَّرهم أمير من أولي البأس، ثم قسَّم الجيش إلى قلب وميمنة وميسرة، فأما القلب فيتكوَّن من خمسة عشر كردوسًا، تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح، وأما الميمنة فتتألَّف من خمسة عشر كردوسًا، تحت إمرة عمرو بن العاص، ويُعاوِنه شرحبيل بن حسنة، وأما الميسرة، فتتكوَّن من عشرة كراديس بقيادة يزيد بن أبي سفيان، وأما بقية الكراديس فتكون احتياطًا في الساقة تحت قيادة عكرمة، وبهذا التنظيم البديع أظهر خالد بن الوليد براعته العسكرية التي جعلت الجيش العربي المسلم يبدو أكثر عددًا، وأخفَّ حركة، وأكثر مرونة، وأقدر على الحركة بما يتلاءم مع سير المعركة.
أما خالد بن الوليد، فسيتولَّى القيادة من القلب، وستَصدر أوامر مباشرة إلى قواد القطع الرئيسية: القلب والجناحين والساقة، وقبل أن يبدأ الهجوم المُنتظَر من الروم جرت حملة تشجيعيَّة على الجبهة العربية الإسلامية، كان هدفُها الحث على الجِهاد والصبر وقوة الإرادة.
وكانت خطة خالد العسكرية هي انتظار الروم حتى يبدؤوا زحفَهم المتوقَّع، فإذا اقتحم فرسانهم خطوط المسلمين، أفسحوا لهم الطريق وتركوها تتوغَّل خلف خطوط الجيش الإسلامي، حيث تُقابِلها قوَّة احتياطية من فرسان المسلمين تُقابِلها وتقضي عليها، وبهذا تَحرِم مشاة الروم من فرسانها، وتتفرَّغ قوات المسلمين لملاقاة هؤلاء المشاة، وقد اختار خالد بن الوليد مواقع حصينة بحيث تكون المدينة المنوَّرة خلفهم ليحتَفِظ بخطوط الإمدادات، بينما كان الروم يُرابِطون في موقع محصور بين سهل فسيح في منحنى نهر اليرموك، ومن خلفهم منخفض سحيق اسمه (واقوصة) تحيط به من ثلاث نواحٍ جبال بالغة الارتفاع، ولما قَدِم الروم إلى هذا المكان، تخطَّى جيش المسلمين النهرَ إلى الضفة اليمنى منه، فأصبح الروم محصورين بين الجبال ومن أمامهم الجيش الإسلامي.
وفي فجر يوم الثامن والعشرين من شهر جمادى الأولى عام 13هـ بدأ الزحف الرومي، واخترق فرسان الروم خطوط المسلمين حسب خطة خالد؛ حيث أَعدَّ لهم قوَّةً احتياطيَّة من الفرسان، وحمل المسلمون على الروم حملة صادقة، وانقضَّ الفرسان المسلمون على فلول الروم كالصقور الغاضبة، فمن لم تحصده السيوف ابتلعه نهر اليرموك غريقًا، أو لاذ بالفرار باجتياز الخندق نحو الساحة؛ حيث طاردهم فرسان العرب، فقتلوا منهم الكثيرين، وقد كان هناك عدد كثير من مشاة الروم مقرنين في سلاسل كل عشرة في سلسلة واحدة، وقد أثقلت هذه السلاسل حركتَهم، خصوصًا إذا قُتِل أو جرح واحد منهم، وقد استمرَّت المعركة يومًا واحدًا، استطاع فيها الجيش العربي المسلم أن يسيطر على ساحة القتال، وهربت فرسان تيودورك وباتت مُشاته مكشوفة من دون حماية، فأصدر الأوامر لهم بالتقهقر إلى خلف الخندق، بيد أن خالد حال دون ذلك؛ حيث انقضَّ عليهم بفرسانه ومشاته فسحقهم بقوة.
وفي إحصاء للخسائر فقد كان عدد القتلى والجرحى من المسلمين حوالي ثلاثة آلاف، ولكن بالنسبة للجيش الرومي فقد كانت الخسائر كبيرة يَصعُب حصرها، وقد أبلغ المسؤولون عن الإحصاء خالد بن الوليد أن ثمانين ألفًا من الروم سقطوا في الواقوصة خلف الخندق، كما قُتِل قائدهم العام تيودورك أخو هرقل، وهنا قال خالد بن الوليد: "الحمد الله الذي نصر عباده المؤمنين".
وفي أثناء المعركة حملت الرسل القادمة من المدينة أنباء وفاة أبي بكر الصديق خليفة المسلمين، ومبايعة المؤمنين عمر بن الخطاب ليكون الخليفة الثاني، ومع هذه الرسل جاء خطاب من عمر بن الخطاب إلى قيادة الجيش المُحارِب في اليرموك يقضي بعزل خالد بن الوليد، وتولية أبي عبيدة بن الجراح قائدًا عامًّا للجيوش الإسلامية باليرموك، وقد أخفى خالد هذه الرسالة خوفًا على أفراد الجيش من الاضطراب، فلما انتهت المعركة بالنصر المبين دفع خالد بالرسالة إلى أبي عبيدة بكل تواضُع وإيثار، قائلاً له: "وأما الآن، فإنك أنت أميري وقائدي، وأنا لك الجندي الأمين، سلني أُطِعك".
خالد بن الوليد .. البطل الإنسان
فما أكرمَ هذا الإنسانَ وهذا البطل! الذي عرف حدوده كبشر، وأنجز ما أنجز من بطولات وهو يخشى الله تعالى وحده لا شريك له، إن اسم البطل خالد بن الوليد قد دُوِّن في سجلات التاريخ البشري بمآثره في معركة اليرموك وغيرها، وذكراه تتصدَّر في قدرته على التخطيط والتنفيذ لمعركة غيَّرت وجه التاريخ، وحطَّمتْ أسطورة الدولة الكبرى التي لا تُقهَر، وارتفعت بالمقابل الدولة الإسلامية الشابَّة، واتَّسعت، فأصبحت إمبراطورية أضاءت الحضارة بنور علومها لعشرة قرون متتالية.
وبعد معركة اليرموك أرسل خالد بن الوليد إنذارًا حربيًّا شديد اللهجة إلى كسرى عظيم الفرس، وقال له: "أَسلِم تَسلَم، وإلا فقد جئتك بقوم يحرصون على الموت كما تَحرِصون أنتم على الحياة"، فلما وقع الإنذار في يد كسرى ارتعدت أعصابه، وأرسل إلى إمبراطور الصين يطلب منه المددَ والنجدة، فردَّ عليه قائلاً: "يا كسرى، لا قِبَل لي بقوم لو أرادوا خلْع الجبال لخلعوها، رجال خافوا الله فخوَّف الله منهم كل شيء".
ثم انظر ماذا ترك هذا البطل خالد بن الوليد عند موته، إنه لم يترك إلا سيفَه الذي كان يُقاتِل به في سبيل الله، وفرسَه الذي كان يركبه غازيًا في سبيل الله، ثم ها هو يبكي على فراش الموت قائلاً: "هأنذا أموت على فراشي، وما في جسدي قيد شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طَعْنة رمح أو رمية سَهْم في سبيل الله، أموت كالبعير، وكنت أتمنَّى أن أموت شهيدًا في سبيل الله، فلا نامت أعين الجبناء".
دروس عشرة من همة نملة - دروس عشرة من همة نملة - دروس عشرة من همة نملة - دروس عشرة من همة نملة - دروس عشرة من همة نملة
دروس عشرة من همة نملة
عادل عبدالهادي هندي
يزداد عجبي كلما قرأت في قصة هذه النملة العجيبة كواحدة من مجتمع النمل المنظم البارع في الإتقان والعمل والنهضة والتقدم، -نملة نبي الله سيلمان عليه السلام- وهي تنصح قومها لمّا رأت ما سيأتي عليهم بالسوء -في ظنها وحساباتها- أو على الأقل سيعطلهم عن كثير من العمل والخير الذي يريدونه فكان ما كان من أمرها.
لقد منح الله سليمان نعمة فهم كلمات ولغات أقوام كثيرة غير البشر، ومنهم النمل، فمرَّ ذات يوم على واد النمل أو قرية النمل، وكان يرافقه جيشا عرمرمًا قويًّا فتيًّا، فلمّا رأت نملة من بين واد النمل ما شغل بني جنسها وألهاهم عن أعمالهم وعن ذكرهم لربهم، وقيامهم بمهامهم، صرخت فيهم ونادت: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} ثم علّلت لماذا؟ قائلةً: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ}.
وفي هذا الخطاب النملي إلى النمل، وفي حركة النملة لإنقاذ مجتمعها دروس وعبر كثيرة، أركز على بعض منها في جوانب النهضة الثلاثة [العمل والإنتاج - التربية - الدعوة]، لعل من أهمها ما يأتي -وهو ما يمكن أن يستفيد منه المسلمون؛ كدروس إدارية وتنموية ونهضوية وفكرية وإيجابية، ولا حرج فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق وأجدر بها-:
أولا: إتقان العمل؛ إذا كان العمل قيمة فإن إتقانه أقيم وأروع من العمل ذاته، فلا قيمة للعمل بدون إتقان له، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105]، هذه نملة قامت بإتقان عملها على وجه يرضي خالقها مراقبة إياه، محاولة الوصول بقومها إلى احترام الوقت وتقديره وإتقان المهام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه".
ثانيا: التيقظ والانتباه؛ الأصل ألا يُلْدَغ المؤمن من جحر مرتين، ولكن للأسف كم من المسلمين اليوم من يُلْدَغُون مرارا وتكرارا من جهات وأعمال وأشخاص ولا يتيقظون.
ورحم الله ابن القيم؛ حين جعل من أوائل درجات السالكين إلى الله: التيقظ. فأما نملتنا هذه فقد تيقظت وأيقظت وانتبهت ونبّهت، وهو شأن يجب أن يقتدى به؛ وأن يتعلمه المسلمون؛ خاصة في زمان العزة والكرامة والربيع العربي: لا يجوز أن يضحك على المسلمين مرة أخرى أو أن يتركوا زمام أمرهم لغيرهم يتسلط عليهم ويستولي على عقولهم، إنها دعوة لليقظة والتيقظ في كل شأن من شئون الحياة.
ثالثا: الهمَّة والإرادة الفتيّة؛ كثيرًا ما نشكو في الأعمال والوظائف والمهن من كسل بعض الموظفين عن أعمالهم، مما أخرنا كثيرا في الإنتاج حتى صرنا وللأسف نستورد كل شيء تقريبا؛ لدرجة أن كل شيء مكتوب عليه: صنع في الصين أو في غيرها، وكذلك في المجال التربوي والدعوي؛ ففي جانب التربية: مَن مِن الآباء والأمهات من يكون لديه همّة عالية وإرادة فتيّة في تعلم وسائل وطرق تربية الأبناء والخروج بهم من مأزق الشهوات والانحرافات، وكذا في جانب الدعوة: أين همّة الدعاة، الذين يشعرون بمسئوليتهم نحو دينهم وأمتهم من أن يطوروا من أنفسهم ويتواكبوا مع الأحداث بما يرفع عنهم الحرج أمام الله.
رابعا: تغليب المصلحة العامة على الخاصة؛ إن قائد القوم لا بد أن يكون أولهم في العمل بما يقول، فهذا أبو بكر يكشف عن بطنه لرسول الله يومًا وقد ربط حجرًا على بطنه من الجوع، وكذلك عمر بن الخطاب، فكشف لهم رسول الله عن ثلاثة أحجار يربطها على بطنه، هذا هو القائد وهذا هو الحكيم في إدارة الأمور، وهذا هو الداعية في دعوته، ها هي نملة خافت على مجتمعها وغلبت المصلحة العامة على الخاصة -كان من الممكن أن تصمت ولا تهتم ولكنها ناصحة فتية وقوية بهمتها، ولها رسالة لا تتأخر عن خدمتها- فليتعلم القادة اليوم والسياسيون والزعماء بتغليب مصالح الأوطان العامة على مصالحهم الشخصية مهما كان حجمها ومقدارها؛ فالله رقيب وحسيب!!.
خامسًا: التضحية وإنكار الذات؛ لا يهمك أن ينسب إليك عمل ما أو أي فكرة كانت!!؛ المهم هل أقيم العمل واستفاد به الناس؟، هذا مبدأ تحركت به النملة في دعوتها وخطابها وبهمتها: ضحت بوقتها وجهدها وما أوتيت به من قوة؛ من أجل مجتمعها وأمتها، لم تهتم بذاتها كثيرا، حتى أن الإشارة جاءت في القرآن الكريم إشارة واضحة إلى أنها نملة، كما قال القرآن: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ} نملة منكرة الذات والشخصية، المهم: المجتمع.
فياليت قومي يعلمون بأهمية العمل للأمة والمجتمع والأوطان بدون اهتمام ذاتي بشأن رفعة الذات على الآخرين أو أن يشار إليه بالبنان، المهم أن الله يعلمه، كما كان الأولون: صدقوا الله فصدقهم الله!!.
سادسا: النظام وتقسيم العمل؛ ما أجمل النظام!! لا أقصد به نظام دولة ما، ولكن أقصد به نظام العمل وتقسيمه بصورة تليق بالمجتمع والأمة وتدفع إلى النهضة والتقدم والإنجاز.
لعل من قرأ عن عالم النمل قد اكتشف أن النمل يعد أروع عالم منظم في الكون، بالإضافة إلى الطيور في السماء والبهائم في الأرض والنحل في بيوته، وهكذا نكتشف أن الكون كله منظم ويسير وفق خطط منظمة مرتبة، لكن للأسف هذا الإنسان المكرم إلا من رحم ربي يكره النظام وترتيب الأدوار، مع أن حاجة الإنسان لذلك أهم وأخطر.
فليتعلم عالّم البشر من عالَمِ النّمل طريق أداء الأعمال وتقسيم الأدوار وتوظيف الطاقات على وجه نهضوي بارع.
سابعا: الحنكة في إدارة الأزمات؛ بالتأكيد الأمة تتأزم أحوالها بين حين وآخر، وتتعد الأزمات والكرب بها، وليست المشكلة في وجود الأزمات فطبيعة الحياة أنها فترة أزمة، لكن المشكلة الأكبر في عدم الحنكة في إدارة الأزمات، النملة أدارت الأزمة بصورة صحيحة غير مستفزة لقومها ولا للجيش الذي يمر من أمامها: ما قالت أن الجيش سيتعمد أن يحطمكم، أو أنه جاء هنا لإهلاككم، ولكنها نسبت الغفلة إلى قومها فليفعل الآخرون ما يفعلوا المهم أنت: ماذا تفعل تجاه ما يقوم به الآخرون، فقالت النملة: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} فانتبهوا يا قوم، وكان بحمد الله تذكرتهم بأهمية الانشغال بالله عن أي شيء آخر.
ثامنا: المبادرة والإيجابية والجديّة؛ لطالما تاهت الأمة في رحاب سلبية مهينة أوردتها المهالك، فترات طوال، غير أن مع ربيع الثورات العربية بدأت الأمة بفضل من الله وحده بخلع رداء السلبية وارتدت من جديد ثوب الإيجابية، وهو ما يمكن أنت نتعلمه من شأن هذه النملة والتي لم تقل:
(وأنا مالي – هو أنا اللي هغير الكون – هما أحرار؛ المهم أنا – ما ليش دعوة – عيش جبان تمت مستور...... إلى آخر ما نسمع من كلمات السلبية)!! لا بل تحركت وكانت صاحبة همة عالية وإيجابية فذة لم يرى الكون لها مثيل في عالم الحشرات!!.
فليتعلم بنو الإنسان من هذه الإيجابية ولا تكن النملة أفضل منك أخي المسلم وأختي المسلمة: كن إيجابيا في خدمة أمتك ومجتمعك الذي فيه تحيا وتعيش وقدم اليوم ما ينفعك للغد.
تاسعا: الإنجاز العالي؛ هذا الإنجاز الذي أنجزته النملة بخطابها وهمتها جعل سليمان النبي يتبسم ضاحكًا فرحًا لأسباب عدة؛ من أهمها: شكر نعمة الله الذي منحه فهم اللغات واللهجات، وكذا همة هذه النملة الصغيرة نحو مجتمعها بما ينقص مجتمع البشر أحيانا، لأنها قصة ستخلد وقد علم ذلك والمؤمنون من كل أمة سيعرفون عظمة هذا العالم العجيب –النمل- بما يدفعهم دفعا نحو الاعتراف بقدرة الله الخالق الرزاق.
إنجاز ليس له مثيل في الدعوة!! إنجاز تحركت أمة بسبب!! إنجاز يدفع فينا روح الإنجاز والعمل على النهضة!! إنجازنا يا إخواني يحتاج إلى إنجاز، فأنجزوا أعمالكم وراقبوا ربكم وهو من سيحاسبكم على أوقاتكم وجهودكم وأعمالكم.
عاشرًا: الشعور والإحساس بالمسئولية؛ كثيرون أولائك الذين يعيشون في الدنيا بلا أهداف ولا غايات، وهؤلاء تجدهم في كل قطر ومصر، لكن أكثر منهم بإذن الله الذي يشعرون بالمسئولية ويملؤهم الحزن على أحوال أممهم ويسعون جادين نحو القيام بما هو مفروض عليهم؛ سواء مفروض شرعًا، أو فرضوه هم على أنفسهم؛ من منطلق الإحساس بالمسئولية.
إننا بحاجة ماسة هذه الأيام أن يحيا كل مسئول في أي مكان هذا المعنى الإحساس بالمسئولية؛ فإذا أحس الأب أو الأم بمسئوليته تجاه أبنائه ما فرّط في واجبه في التربية السليمة لهم، وإذا أحس الداعية بمسئوليته ما نام عن دعوته، ولا غمضت عيناه إلا وهو يفكر في حلم الأمة الأكبر من أستاذية العالم وسيادة الإسلام، وإذا أحس الحاكم في أي مكان بخطورة المسئولية نحو شعبه ووطنه راجع نفسه أهو ظالم أم لا؟ أهو قائم بالحق والعدل أم لا؟ أهو مراقب ربه أم لا؟ أهو يخاف الله أم لا؟ أو حريص على بلده أم على نفسه فحسب؟ وهكذا لو تحركنا جميعا بهذا المعنى: ما نام موظف في دائرة عمله، ولا تباطأ مسئول عن مسئوليته، وصدق رسولنا الحبيب: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"..
وبهذه الخطة الإدارية وبتلك العناصر التنموية يمكن أن تتقدم الأمم، وتنجز كثيرًا من أعمالها بدون خسائر ولا تضييع وقت أو طاقات أو إهدار مال، كل ما في الأمر: أن نعمل سويا ونتعاون ونجتهد في تحقيق الأهداف، ننظر للأفق الرحب والفضاء الواسع، وننطلق من نقطة بداية إلى نقطة نهاية –وإن كان للمؤمن نقطة بداية لكن ليست له نقطة نهاية؛ فالموعد مع النعيم المقيم الدائم الذي لا ينقطع- فلنعمل ونجد ونجتهد ولا نتوانى أو نتباطأ عن نهضة أمتنا.
خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن - خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن - خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن - خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن - خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) رواه ابن ماجه والبيهقي وصححه الالباني في الصحيحية (106)
ما ابأس الحياة عندما يستهين الناس بآثامهم ومعاصيهم، وما أضيق الدنيا كل الدنيا عندما تصير معصية الرب العظيم سبحانه شيئا متداولا مستساغا !
إن مسيرة الكون والحياة كلها قائمة على طاعة الله ورضاه، وكل تقصير في جانبه سبحانه من قبل خلقه يؤثر سلبا في تلك المسيرة.
فالطاعة تفيض بركة وكرامة على صاحبها ومحيطه من الأحياء والجمادات، والمعصية كذلك بالعكس، حتى إنها لتؤثر في أخلاق الناس والدواب.
وتصور معي مجتمعا قد اتخذ قراره في مصادمة قوانين الكون، فاستهان بغضب ربه العزيز الحكيم، وأغفل سخطه سبحانه، فلم يبال به، وأعان على الذنب والمجاهرة به، هل ينتظر إلا أنواعا مختلفة من الخراب والتراجع والتدهور ؟
إننا ولبعدنا عن المعاني الشرعية الربانية نعاني معاناة كثيرة من مصائب وآلام مختلفة فنبحث عن أسبابها المادية كل بحث، ونغفل عن أسبابها الإيمانية تمام الغفلة، حتى إننا لنسمي الملاحظ لها موهوما أو خياليا !
قال ابن القيم: "اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات وقلت الخيرات وهزلت الوحوش وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد أدلهم ظلامه، فاعدلوا عن هذا السبيل (سبيل المعاصي) بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " الفوائد
روى الإمام أحمد عن جبير بن نفير عن أبيه قال: (لما فتحت قبرص فرق أهلها فبكى بعضهم على بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله في الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمةُ قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى)
ثم أنظر إلى هذا الحديث العظيم الذي صدرنا به المقال، ويتضمن أوصافاً خمسة أو خصالاً خمس، إذا وقعت فيها الأمة، أتاها العذاب من الله سبحانه وتعالى معجلاً في الدنيا، بخلاف ما ينتظرها في الآخرة من الوعيد.
فالأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: " لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا"
فهو تحذير صريح من ارتكاب الفاحشة من الزنا واللواط وإتيان المحارم وكل تلك البلايا التي انتشرت في البلاد حتى اشتكى منها الحجر والشجر والدواب.
ولننظر كم من مرض قد استجد لم نكن نعرفه، وكم من اشكال جديدة للطاعون والأوجاع قد أصيب بها الناس.
وأما الثانية: فهي قوله:" ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم"
فهو تحذير صريح ايضا من فساد الناس، وفساد الكيل والميزان، ولا شك أن به إشارة لفساد الحقوق الضائعة بين الناس كما يحصل، فيغتني الخسيس ويتكسب بخسته وانحطاط أخلاقه، في حين يفتقر الخلوق لأنه لايستطيع ممارسة الفساد.
وهنا يحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من التلاعب بالمكيال والميزان، الذي توعّد الله فاعله بالويل والهلاك، قال تعالى: {ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} (المطففين: 1-3)، فإذا انتشر ذلك في الأمة، فإنها تعاقب بعقوبات ثلاث: أولها: منع المطر أو ندرته، وثانيها: شدة المؤونة، ويكون ذلك بغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وضيق العيش، وثالثها: أن يسلط الله عليهم الجور وفرض الضرائب وغيره من العنت.
وأما الخصلة الثالثة فهي قوله: " ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا"
هذا المجتمع الذي انتشر فيه نسيان حق الله سبحانه، يتوقع منه الغفلة عن الزكاة ايضا، وهي حق الفقير، ويشير النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا إلى أن منع الزكاة وعدم إخراجها أو التحايل على ذلك، تكون عقوبته العاجلة هي منع القطر عنهم، وهذا قد يوضح سبب الجدب الذي ضرب أطنابه في الأرض.
وأما الخصلة الرابعة، فهي قوله:" ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم"
وفيها تحذير من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته من نقض العهد والميثاق، وعاقبة ذلك أن الله يسلط عليهم عدوًّا من غير المسلمين، فيسومهم العذاب بأشكاله وطرقه.
والخامسة، قوله صلى الله عليه وسلم:" وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" أي: إذا لم يحكموا بحكم الله سبحانه وتعالى، ويأخذون الخير من كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا جعل الله الشقاق والعداوة والتنافر بينهم.
إن أمتنا لن يجمعها سوى كلمة التوحيد، ولن يوحدها إلا الإسلام، ولن يصلحها إلا العودة إلى دينها والتوبة إلى ربها، والاستمساك بمنهاجها، والتطهر من دنس الذنوب والآثام، وعندئذ يبدأ نبات العزة ينبت في ارضها وينزل غيث البركة من سمائها.
اللياقات الست - (1) اللياقة الروحية
أحمد البراء الأميري
تعريفها:
المراد باللياقة الرُّوحية هنا: أن يصلَ الإنسان إلى مرحلة يشعُرُ فيها أنه يحب اللهَ تعالى، وأن الله تعالى يحبه، وهذا الأمرُ قد دلَّ عليه بإجمال قولُه سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]؛ فالعبد يمكنُ أن يحب اللهَ تعالى، والله تعالى يحبُّه إذا اتبع الرسولَ صلى الله عليه وسلم وأطاعه.
تحصيلها:
ليس لتحصيل اللياقة الرُّوحية دواءٌ يستعمله المريض مرتين: صباحًا ومساءً ليتم له الشِّفاء، ولا تمرينات رياضية يقوم بها الإنسانُ نصف ساعة في اليوم.. إنها عمليةٌ مستمرة لا تنتهي إلا بانتهاء الإنسانِ!
إن عمليةَ (التَّزكية) التي أشار إليها القرآنُ الكريم بقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10]، عملية (التَّزكية) هذه هي التي تسِير بصاحبها إلى تحصيلِ اللياقة الرُّوحية، وسوف نتحدَّث عنها بشيء من التفصيل عند الكلام على اللياقة النفسية.
طرقها:
هناك طُرق متعدِّدة للوصول إلى اللياقةِ الروحية، نذكر أهمها باختصار:
[1]- الإخلاص:
الإخلاص هو الأساسُ الذي يُبنى عليه كلُّ عمل، فإذا انعدَم انهار العملُ من أصله؛ قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5].
وفيما يلي أحاديثُ تبيِّنُ أهمية الإخلاصِ الذي موضعه النِّية، والنية محلُّها القلوب، ولا يطَّلع عليها إلا علامُ الغيوب، وليس الغرض من إيرادِ هذه الأحاديث قراءتَها؛ إذ القراءة وحدها لا تُجدي كثيرًا، بل المراد: تأمُّلها، وتدبُّرها، وتكرار قراءتها حتى تنغرس في العقلِ الباطن، ثم تظهَر آثارها في تفكيرِ الإنسان وسلوكه.
• عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمالُ بالنِّيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسولِه، فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه لدنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكِحُها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه» (البخاري ومسلم).
• عن جابر بن عبدالله الأنصاريِّ رضي الله عنهما قال: كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ فقال: «إن بالمدينة لَرِجالاً ما سِرْتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا شَرِكوكم في الأجر، حبَسهم المرضُ» (رواه مسلم).
• عن أبي العباس عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب رضي الله عنهما، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربِّه تبارك وتعالى قال: «إن اللهَ كتَب الحسناتِ والسيئات، ثم بيَّن ذلك؛ فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها، كتَبها الله تبارك وتعالى عنده حسنةً كاملة، وإن همَّ بها فعمِلها كتَبها الله عشرَ حسناتٍ، إلى سبعِمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة فلم يعمَلْها كتَبها الله عنده حسنةً كاملة، وإن همَّ بها فعمِلها، كتبها الله سيئةً واحدة» (البخاري ومسلم)، وفي الحديث دليلٌ ناصع على أهميةِ النية المرتبطة بالإخلاص أوثقَ ارتباط.
[2]- الانتهاء عن المعاصي:
المعاصي: نوعان؛ معاصي الحواس: كالكذب، والسرقة، وشُرب الخمر، وأكلِ الربا، ومعاصي القلوب: كالحقد، والحسَد، والكِبْر، وسوء الظن بالمسلمين، وكلاهما خطَرٌ على صاحبه، قد يورِدُه المهالك، وقد تكونُ معاصي القلب أخطَرَ من معاصي الجوارح.
"ولا شك أن ضررَ المعاصي في القلوب كضررِ السُّموم في الأبدان، على اختلاف درجاتِها في الضرر".
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقَّراتِ الذنوب؛ فإنما مَثَل محقَّرات الذنوب كقومٍ نزَلوا بطنَ وادٍ، فجاء ذا بعُودٍ، وجاء ذا بعُودٍ، حتى أنضَجوا خُبزتَهم، وإن محقَّراتِ الذُّنوب متى يُؤخَذْ بها صاحبُها تُهلِكْه» (أحمد).
وقال: «إن العبدَ إذا أخطأ خطيئة نُكِتَتْ في قلبه نكتة، فإذا هو نزَع واستغفر وتاب، صُقِل قلبه، وإن عاد زِيدَ فيها حتى تعلوَ قلبه، وهو الرانُ الذي ذكَره الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]» [1].
"وللمعاصي من الآثارِ القبيحة المذمومة المضرّة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلَمُه إلا الله، منها: وحشةٌ يجدها العاصي في قلبِه بينه وبين الله تعالى، ووحشةٌ بينه وبين الناس، وظُلْمة يجدها في قلبِه، يحسُّ بها كما يحسُّ بظُلمة الليل" [2].
قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "إن للحسنةِ ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسَعة في الرزق، وقوَّة في البدن، ومحبَّةً في قلوب الخَلْق، وإن للسيئة سوادًا في الوجهِ، وظلمةً في القبر والقلب، ووهنًا في البدنِ، ونقصًا في الرِّزق، وبغضةً في قلوب الخَلْق" [3].
[3]- التطوع في العباداتِ بعد أداء الفرائض:
جاء في الحديثِ القدسي قولُه سبحانه وتعالى: «... وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه...» [4].
فأحبُّ ما يُتقرَّب به إلى الله عز وجل: أداءُ فرائضه على اختلافِ أنواعها؛ البدنيَّة: كالصلاة والصيام، والمالية: كالزكاةِ، وما يجمَعُ بينهما: كالحجِّ والجهاد، والقلبيَّة: كذِكْر الله تعالى، واللِّسانية القلبية: كتلاوةِ القُرآن.
ويدخُل في الفروض ما كان تركًا؛ كالامتناع عن السَّرقة، والزِّنا، والخمر، والغِيبة، والحسَد..., وما إلى ذلك.
والمهم جدًّا في الأعمال كلها على وجه العموم -ومنها العبادة- رُوحُها وحقيقتُها قبل ظواهرِها؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظُرُ إلى أجسادكم، ولا إلى صورِكم، ولكن ينظُرُ إلى قلوبِكم وأعمالكم» (البخاري ومسلم)، ويا ليتَنا جميعًا نحرصُ على أن تكون عباداتُنا مقبولةً كحرصِنا على أدائها!
ونأخذ مثالًا واحدًا على ما يسمَّى (الآداب الباطنة) في فريضةِ الزكاة:
قال في مختصر منهاج القاصدين [5] اعلم أن على مريدِ الآخرة في زكاته وظائفَ:
الأولى: أن يفهَمَ أن من مقاصدِ الزكاة: إخراجَ المال المحبوب عند العبد، ومداواة داء البُخل، وشُكْر نعمة المال؛ إذ إن شكرَ النعمة يكون من جِنسها.
الوظيفة الثانية: الإسرار بإخراجها؛ لكونِه أبعدَ عن الرياء، وأصونَ للفقير من الإذلال.
الوظيفة الثالثة: ألا يفسدَها بالمنِّ والأذى؛ فإن المعطيَ لو حقَّق النظر لرأى الفقير محسنًا إليه بقَبولها، الذي هو سببٌ لحصوله على الأجرِ العظيم مِن الله تعالى.
الوظيفة الرابعة: أن يستصغرَ العطيَّة؛ إذ ما أصغَرَ ما يعطي بالنسبةِ إلى ما أعطاه اللهُ سبحانه، ومنَّ عليه به.
الوظيفة الخامسة: أن ينتقيَ من ماله:
أ- أحَلَّهُ.
ب- وأجودَه.
ج- وأحبَّه إليه.
فهو في الحقيقة يقدِّمُ لنفسِه؛ لأن ما يقدِّمه سيلقاه غدًا يومَ القيامة.
الوظيفة السادسة: أن يعطيَ زكاتَه لمن تزكو بهم، فيخصَّ بها أهلَ التقوى، والعِلم، والصلاح، والذين يُخفون فقرَهم وحاجتهم عن الناس، والمرضى، والمُعسِرين، والأرحام.
ومن الأمثلة على أعمال الخير والتطوع في العبادات ما جاء في الحديث:
• عن عبدالله بن سلاَم رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناسُ، أفشوا السلامَ، وأطعِموا الطعام، وصلُّوا بالليلِ والناس نيامٌ، تدخلوا الجنة بسلام» (رواه الترمذيُّ).
• وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أيقَظ الرجلُ أهلَه من الليل، فصلَّيا ركعتينِ جميعًا، كُتِبا في الذاكرينَ والذاكرات» (أبو داود).
[4]- تلاوة القرآنِ مع التدبر:
المقصد الأولُ من تلاوة القرآن الكريم هو الفهم والتدبُّر اللازمان للعملِ به؛ قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
ومن علامات التدبر:
• التأثير والانفعال بالآيات الكريمات حسَب موضوعِها وسياقها، فيفرَحُ القارئُ عندما يتلو آيات التبشير والرَّجاء، ويحزَنُ ويبكي عند آياتِ الترهيب والوعيد، وهكذا تتغيَّرُ حاله ومشاعره، ويعرض نفسَه على الآيات التي تذكُرُ صفاتِ المؤمنين ليستكملَ ما ينقصه منها، وعلى الآيات التي تذكر صفاتِ المنافقين والكافرين ليبتعدَ عنها.
• وإذا قرأ آيةَ نعيم دعا الله أن يكونَ من أهله، وإذا تلا آيةَ عذاب تعوَّذ بالله منه، وعند وَصْف الجنة يطير قلبُه شوقًا إليها، وعند ذِكْر النار ترتعد فرائصُه خوفًا منها.
• ومن علاماتِ التدبُّر الشُّعور بأن القارئَ نفسه هو المخاطبُ بالآيات، وهو الذي وجِّهت إليه التكاليف، فيعيش هذا الشعور، ومما يُعِين على التدبُّرِ أن يتلوَ المرءُ السورة، أو الصفحة، أو الآيات بتأَنٍّ، وخشوع، وانفعال، وألا يكون همُّه نهايةَ السورة أو خاتمة الجزء، ولا كم صفحة قرأ، وكم حَسنة جمَع.
• ومما يعين على التدبُّر: استحضار الأجر والثواب العظيم على هذا الجهد الضئيلِ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «من قرَأ حرفًا مِن كتاب الله، فله به حَسَنة، والحَسَنة بعَشْر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (الترمذي).
• وقوله: «خيرُكم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمه» (البخاري).
• وقوله: «اقرَؤوا القرآنَ؛ فإنه يأتي يومَ القيامة شفيعًا لأصحابه» (مسلم).
• ومما يُعِين على التدبُّر: تفريغ النَّفس من شواغلها، وتلبية طلباتها قبل الإقبالِ على القراءة؛ لأن الحاجاتِ تلحُّ على النفس، والخواطر ترِدُ على الذهن، ولا بد من صرفِها، فلا يكون قارئ القرآن في أثناء قراءته جائعًا، أو عطِشًا، أو في برد شديد، أو حرٍّ شديد، أو في مكانٍ ينظُرُ فيه للغادين والرَّائحين، أو مشغول الأحاسيس بأمرٍ متوقَّع.
• ويمكن للقارئِ -مثلًا- أن يخصصَ ربع ساعة للنظر والتأمُّل في آيةٍ واحدة، أو مجموعة من الآيات (الأفضل ألا تزيد على صفحة واحدة)، يكرِّر تلاوتها، ويحاول تركيزَ ذِهنه في معانيها، فتكون قراءتها عبادة، وتدبُّره عبادة، وينالُه من بركة القرآن بقدرِ إخلاصه ومجاهدته لنفسه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
•ومن الطُّرق المجرَّبة التي تعين على التأمل، أن تكتبَ آية، أو شطر آية، بخطٍّ كبير، وتوضع في مكانٍ لائق بحيث تقعُ عليها العين، وكلما رآها من وضعها كرَّرها مرات عدة مع التركيز على معانيها، ويختار من الآيات ما يناسِبُ حاله؛ فإذا كان في حيرةٍ من أمره لا يدري ماذا يفعل كتب -مثلًا- قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
• وإن كان في عُسرٍ وشِدة مادية ومعنوية كتَب قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5].
• وإن كان مريضًا يرجو الشفاءَ كتب: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].
• وإن كان في قلقٍ واضطراب كتب: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
[5]- الذِّكر:
المراد من الذِّكر حضورُ القلب، فينبغي أن يكون هو مقصودَ الذاكر، فيحرص عليه، ويتدبَّر ما يذكُر، ويتفكر في معناه؛ فالتدبُّر في الذِّكر مطلوب كما هو مطلوب في تلاوة القرآن؛ لأن المقصودَ لا يتحقق من غير تدبُّر.
وأفضلُ الذِّكر ما اشترَك فيه القلبُ واللسان، وكان من الأذكار النبوية، ووعى الذَّاكر معانيَه ومقاصدَه.
والدعاء ذِكر، وقد يكون الذِّكر دعاءً، وقد لا يكون؛ قال الإمام النوويُّ رحمه الله في كتاب الأذكارِ -ولعله أفضلُ ما أُلِّف في موضوعه-: أجمَع العلماءُ على استحباب الذِّكر بعد الصلاة، وفي الصحيحين: "إن رَفْع الصوت بالذِّكر حين ينصرف الناسُ من المكتوبة كان على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ومن الأذكار المتَّفق على صحتها قولُ الذاكر:
• "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، و"لا إله إلا اللهُ وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، و"لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله".
وفيما يلي بعضُ الأحاديث النبوية الشريفةِ التي ورَدت في الذِّكر:
• قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقعُدُ قوم يذكرون اللهَ عز وجل إلا حفَّتْهم الملائكةُ، وغشِيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينةُ، وذكَرهم اللهُ فيمن عنده» (مسلم والترمذي).
• قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكَرني؛ فإن ذكَرني في نفسِه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكَرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأ خيرٍ منهم...» (البخاري ومسلم).
ومن أهمِّ فوائد الذِّكر: شعورُ الذاكر بالسَّكينة والطُّمأنينة، والهدوء النفسي، وهو من الأمور التي يشكو أكثرُ الناس من فقدانِها الذي ينجُم عنه القلقُ والأرَق والتوتُّر والاكتئاب؛ قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] [6].
[6]- التوبة:
• قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون»؛ أي: إن الناس جميعًا كثيرو الخطأ والذنوب، وهذه الأخطاءُ والذنوب ينبغي أن تقابلَها كثرةُ التوبة، والأَوْبة، والرجوع، والاستغفار، ومما ورد في التوبة أيضًا ما رُويَ:
• عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «للهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدِكم كان على راحلته بأرضٍ فلاةٍ، فانفلتت منه وعليها طعامُه وشرابه فأيِس منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلِّها، وقد أيِس من راحلته، فينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخَذ بخطامها، ثم قال مِن شدة الفرح: اللهم أنتَ عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدة الفرَح» (البخاري ومسلم).
• وعن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللهَ عز وجل يبسُط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلعَ الشمسُ من مغربها» (رواه مسلم).
• وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللهَ يقبَلُ توبة العبدِ ما لم يُغرغِرْ» أي: ما لم تبلغ رُوحُه حلقومَه؛ (رواه الترمذي وابن ماجه).
• وعن عبدِالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «التائبُ من الذَّنب كمَن لا ذنبَ له» (ابن ماجه)، «والمستغفر من الذَّنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزئِ بربِّه» (البيهقي).
• وعن أنس بن مالك، وابن مسعود رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الندمُ توبةٌ» (رواه الحاكم وابنُ حبَّان).
[7]- البكاء من خشية الله:
الضَّحِك والبكاء من أسرارِ النَّفس الإنسانية التي أودَعها الله تعالى فيها، ذكَرهما سبحانه في كتابه الكريم وهو يعدِّد بعضَ آياته الدالةِ على كمال قدرته عز وجل فقال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43]، وللبكاء والضحك من الفوائد النفسية والجسمية ما لا يزال العلمُ الحديث يكشِف عن جديده كل يوم.
والبكاء من خشية الله تعالى من صفات الأنبياءِ الكرام عليم السلام، ومن اقتدى بهم من المهديِّين الأبرار، الذين وصَفهم ربنا بقوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]، وقوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:109].
وجاءت السنَّة المشرفة فبيَّنت (قولًا وعملًا) هذه المعانيَ القرآنية، من ذلك:
• ما رواه ابنُ عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عينانِ لا تمسهما النارُ: عين بكَتْ من خشية الله، وعين باتت تحرُسُ في سبيل الله» (الترمذي).
• وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سبعةٌ يظلُّهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله»، وذكَر منهم: «ورجل ذكَر الله خاليًا ففاضت عيناه» (البخاري ومسلم وغيرهما).
• وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلِجُ النار رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعود اللبنُ في الضرع» (رواه أحمد، والترمذي، والنسائي).
فلا غروَ أن يكون البكاء خوفًا من عقابِ الله، وشوقًا إلى لقائه من أهم الوسائلِ لتحقيق اللياقة الرُّوحية.
[8]- الزهد في الدنيا:
• يقال: زهد في الشيء: أعرَض عنه وتركه، وزهد في الدنيا: ترَك حلالها مخافةَ حسابه، وترك حرامَها مخافة عقابه.
• عن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حُلْوة خَضِرة، وإن الله تعالى مستخلِفُكم فيها، فينظر كيف تعمَلون؛ فاتقوا الدنيا واتقوا النساءَ» (رواه مسلم).
• وعن أنَسٍ رضي الله عنه، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتبع الميتَ ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنانِ، ويبقى واحد؛ يرجع أهلُه وماله، ويبقى عمله» (متفق عليه).
• وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخَذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمَنكبي فقال: «كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ، أو عابر سبيل» (البخاري).
• وعن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلَح من أسلم، ورُزِق كَفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه» (مسلم)، والكَفاف: الذي ليس فيه زيادةٌ عن الكفاية.
• وفي حديث أبي الدرداءِ رضي الله عنه: «.... يا أيها الناسُ، هلمُّوا إلى ربكم؛ فإن ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثُر وألهى» (أحمد والحاكم وابن حبَّان).
• وعن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أحبَّ دنياه أضرَّ بآخرته، ومن أحبَّ آخرتَه أضرَّ بدنياه؛ فآثِروا ما يبقى على ما يفنى» (أحمد والحاكم وغيرهما).
[9]- الجوع وخشونة العيش:
• عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «ما شبِع آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن خبز شعيرٍ يومين متتابعينِ حتى قُبِض» (متفق عليه).
• وعن أنس رضي الله عنه قال: «لم يأكلِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على خوانٍ حتى مات، وما أكَل خبزًا مرقَّقًا حتى مات» (رواه البخاري).
• عن النعمانِ بن بشير رضي الله عنهما قال: "لقد رأيتُ نبيَّكم صلى الله عليه وسلم وما يجِد من الدَّقَل ما يملأ به بطنَه"؛ (رواه مسلم).
[10]- ذكر الموت وقِصر الأمل:
• قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
• عن أبَيِّ بن كعب رضي الله عنه: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهَب ثُلُث الليل، قام فقال: «يا أيها الناسُ، اذكروا الله، جاءت الرَّاجفة، تَتْبَعها الرادفة، جاء الموتُ بما فيه، جاء الموت بما فيه» (رواه الترمذي).
• وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أكثِروا ذِكْرَ هاذمِ اللَّذَّات»، يعني: الموتَ؛ (رواه الترمذيُّ)، وهاذم: قاطع.
[11]- بين الخوف والرجاء:
إذا كان الإنسانُ ينتظر شيئًا محبوبًا سُمِّي انتظاره رجاءً، وإن كان الشيء مكروهًا سُمِّي خوفًا، والخوف ليس عكس الرجاء، بل عكس الرجاءِ اليأسُ، أما الخوف فهو رفيقُ الرجاء؛ ولذلك قيل: الرجاءُ والخوف جَناحانِ، بهما يطير العبد إلى كل مقامٍ محمود.
وقد ورَدَت في كلٍّ من الرجاء والخوف آياتٌ وأحاديثُ:
فمن الآياتِ الواردة في الرجاء قولُه تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
ومن الأحاديث قولُه صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيدِه، لو لم تُذنِبوا لذهَب اللهُ بكم، ولجاء بقومٍ يُذنِبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم» (رواه مسلم).
أما في الخوف، فكلُّ ما ورَد في القرآن الكريم والحديث الشريف مِن وصفِ جهنَّم وأهوال يوم القيامة، فهو شاهدٌ يستحقُّ التأمُّل والتدبُّر.
والإنسانُ يخاف اللهَ تعالى على قَدْرِ علمِه به؛ قال سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا أعرَفُكم بالله وأشدُّكم له خشيةً» (الإمام أحمد).
والخوف ثلاثةُ أنواع: زائد، ومعتدل، وناقص؛ فالزائد يسبِّبُ اليأس، والقُنوط، والمرض، والناقص لا يمنَعُ صاحبَه من المعاصي، والمعتدل هو الذي يدعو صاحبَه إلى العمل الصالح الذي ينفَعُه وينفع الناس في الدنيا والآخرة، ويكفُّه عن الأذى والمحرَّمات والمعاصي.
فإن قيل: أيهما أفضل: الخوف أم الرجاء؟
قلنا: هذا كقوله: أيهما أفضل الخبز أم الماء؟
وجوابه: الخبزُ للجائع أفضل، والماء للعطشان أفضل، ولا بدَّ منهما معًا، فإن كان الإنسانُ متجرِّئًا على المعصيةِ فالخوف أفضلُ له، وإن كان في حالةِ ضعف، ويأس، ومرض، وخوف، فالرجاءُ أفضل له؛ ولهذا قال سيدنا عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "إنما العالِم الذي لا يقنِّط الناسَ من رحمة الله، ولا يؤمِّنُهم مَكْرَ الله".
___________________
[1]- أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
[2]- ابن القيم، الجواب الكافي: [97].
[3]- انظر مختصر منهاج القاصدين، [228-223].
[4]- رواه البخاري (6502).
[5]- لابن قدامة: [38] ط1 مؤسسة الرسالة، بتصرف.
[6]- وفي [ص98] كلامٌ مهمٌّ عن الذِّكر.
من هو آق سنقر ؟
إنه آق سنقر الحاجب التركماني! وكما هو واضح من اسمه فهو من قبائل الأتراك، من قبيلة تُعرف باسم ساب يو، وهي قبيلة تمتَّعت بمكانة رفيعة عند السلاجقة الأتراك[1].
وكان آق سنقر من أصحاب السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان، وهو السلطان العظيم الذي امتدَّت حدود دولته من الصين شرقًا إلى آسيا الصغرى غربًا[2]، وكان عادلاً حسن السيرة؛ ولذلك لم يكن يُقَرِّب منه إلاَّ الصالحين، ويكفي أن وزيره الأول كان نظام الملك، وهو من أعظم الوزراء في الإسلام، وحاجبه كان آق سنقر والد عماد الدين زنكي، فهذا من أدلَّة صلاح السلطان ملكشاه الذي يَسَّر له الله عز وجل البطانةَ الصالحة.
وكان آق سنقر مقرَّبًا بدرجة كبيرة إلى قلب السلطان ملكشاه لدرجة أنه أنعم عليه بلقب عجيب، وهو «قسيم الدولة»، ومعنى اللقب أن يقتسم معه إدارة الدولة وشئونها، وهي منزلة رفيعة جدًّ[3].
ملكشاه بن الب أرسلان يدخل حلب بعد مقتل سليمان بن قتلمش:
ثم كانت هناك أحداث صعبة تمرُّ بها بلاد الشام؛ حيث كانت تُمَزِّقها صراعات سياسية خطيرة، خاصَّة منطقة حلب حيث كان يتنازع السيطرة عليها ثلاث قوى رئيسية: أمَّا القوة الأولى فهي قوَّة مسلم بن قريش العقيليّ صاحب الموصل وحلب[4]
وأمَّا القوَّة الثانية فهي قوَّة تتش بن ألب أرسلان أمير دمشق، وهو أخو السلطان ملكشاه، ولكنه -كما ذكرنا قبل ذلك- كان خبيثًا فاسدًا، وكذلك صار أولاده من بعده؛ وهم: رضوان ودقاق. وأمَّا القوَّة الثالثة فهي قوَّة سليمان بن قتلمش مؤسِّس إمارة سلاجقة الروم ووالد قلج أرسلان الأول؛ الذي مرَّ ذكره في بدايات قصة الحروب الصليبية.
وكنتيجة مأساويَّة لهذا الصراع قُتل مسلم بن قريش على يد سليمان بن قتلمش، وأصبح الطريق إلى حلب مفتوحًا لسليمان، ولكن أهلها رفضوا تسليم المدينة له، وأرسلوا إلى السلطان العادل ملكشاه ليتسلَّم مدينة حلب، فوافق السلطان ملكشاه، وجاء بجيشه [5]، لكن في هذه الأثناء قُتل سليمان بن قتلمش على يد تتش بن ألب أرسلان[6]، وانطلق تتش ليستولي على حلب، غير أنه وصلها مع وصول جيش أخيه ملكشاه، ووجد تتش أنه لا طاقة له بهذا الجيش العملاق، فانسحب وترك المدينة لملكشاه[7].
«حلب» وبداية جديدة:
ملكشاه بن ألب أرسلان يولى آق سنقر مدينة حلب (شوال 479هـ= يناير 1087م)
كان الوضع في حلب سيِّئًا للغاية نتيجة الصراعات الدموية التي دارت في المنطقة؛ فلم يجد السلطان ملكشاه حلاًّ لإصلاح أوضاعها إلاَّ بتسليم إدارتها إلى الرجل الذي يثق في قدراته وأخلاقه وورعه، وهو قسيم الدولة آق سنقر الحاجب، وكان ذلك في شهر (شوال 479هـ= يناير 1087م)، وهكذا بدأ الحكم السلجوقي لمدينة حلب، بل وأعطاه إلى جوار حلب عدَّة مدن في المنطقة منها حماة ومَنْبِج واللاذقية[8].
حلب وتدهور أوضاعها قبل تسلم آق سنقر لها:
تسلَّم آق سنقر الحاجب -رحمه الله- المدينة وهي في حالة مزرية من الفوضى والاضطراب بفعل الصراعات الكثيرة التي كانت بين حكَّام وأمراء المنطقة؛ مما جعل الحكام الذين تولَّوْا حكمها لا يلتفتون أبدًا إلى أمورها الداخلية، أو إلى حياتها الاقتصادية، فتراجعت واردات البلاد، وفُرضت ضرائب باهظة على السكان، ونتيجة لغلاء الأسعار انتشر اللصوص في المدينة، وعُدِمَ الأمن؛ ومن ثَمَّ تعطلت الحركة التِّجارية، كما تراجعت الزراعة، وهذا كله -لا شكَّ- أثَّر سلبًا في كل قطاعات المجتمع[9].
ومع هذا التدهور الرهيب في كل مناحي الحياة فإن آق سنقر بدأ يُمارس عمله بنشاط، ساعيًا بكل طاقته لإصلاح الأمور كلها، وكانت نظرته شمولية، فلم يهتم بجانب على حساب آخر، بل تناول الأحوال جملة واحدة.
آق سنقر والإصلاحات الأمنية فى حلب:
اهتم آق سنقر بداية بالحالة الأمنية الخطيرة التي كانت تُعاني منها حلب، فأقام الحدود الشرعية، وطارد اللصوص وقُطَّاع الطريق، وقضى عليهم، وتخلَّص من المتطرِّفين في الفساد.
وإضافةً إلى هذه السياسة التي تعتمد على وجود شرطة قوية عادلة تُدافع عن الحقوق، وتستخدم سلطتها في حماية الناس بدلاً من التسلُّط عليهم، إضافةً لهذه الشرطة فإن آق سنقر لجأ إلى سياسة أخرى عجيبة آتت ثمارًا رائعة وفي وقتٍ محدود؛ ذلك أنه أقرَّ مبدأ المسئولية الجماعية لكل قرية أو قِطَاع في المدينة؛ مما يعني أنه في حالة إذا هُوجمت قافلة أو إنسان، فإن أهل القرية يتحمَّلون مسئولية الدفاع عنه، وإذا سُرقت أمواله، فإنهم يجتمعون معًا لتعويضه عما سُرق؛ ومن ثَمَّ أصبحت مهمَّة الحفاظ على الأمن هو مهمَّة الجميع[10]، ولا يمكن أن يشكَّ الناس في لص أو عصابة مجرمين دون الإخبار عنها؛ لأن المسئولية أصبحت جماعية وليست فردية، وهذا له مرجع في الشريعة، حيث مبدأ «العاقلة»، بمعنى أن أفراد العائلة الواحدة أو القبيلة الواحدة، أو القرية الواحدة يتعاقلون فيما بينهم، أي يتعاونون فيما بينهم لجمع الدِّيَة المطلوبة من أحدهم، أو سداد الدين عنه، وبذلك تعود الحقوق لأصحابها مهما كانت كبيرة.
آق سنقر وانتشار الأمن والأمان فى حلب:
ونتيجة لسياسة آق سنقر البارعة ونتيجة للاستخدام الصحيح لجهاز الشرطة في الإمارة، عمَّ الأمن والأمان في كل الربوع وفي غضون أشهر قليلة، وانعكس ذلك -ولا شكَّ- على حركة التجارة والزراعة، وانعكس على حركة الأموال والبضائع؛ ومن ثَمَّ تحسَّن الاقتصاد بشكل ملموس وانخفضت الأسعار، وتوفَّرت المنتجات، وصار لحلب شأن عظيم بين الإمارات المجاورة[11].
ولا بُدَّ أن نُؤَكِّد هنا أن آق سنقر -رحمه الله- كان حريصًا تمامًا على إقامة الحدود الشرعية، مع أن الكثيرين قد يعتقدون أنها ستترك مجتمعًا مشوَّهًا نتيجة قطع أيدي السارقين، وقتل القاتلين، ورجم الزناة المحصنين، وجلد الزناة غير المحصنين، وجلد شاربي الخمر؛ قد يعتقد البعض أن المجتمع في حلب أصبح مشوَّهًا نتيجة تطبيق الحدود في وجود الكثير من المفسدين والمجرمين! لكن واقع الأمر أن هذا لم يحدث؛ لقد كان تطبيق الشريعة مع مجرم أو اثنين رادعًا لبقية المجرمين، ولم تَنْقِلْ لنا المصادر أن عددًا كبيرًا قد عُوقب بهذه الحدود، إنما نقلت أن الأغلب الأعمَّ من المجرمين ارتدع عن جرائمه، وصدق الله عز وجل إذ يقول: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179]، فأصبحت حياة حلب وأمنها وعزِّها وتحسُّن اقتصادها وعلوّ شأنها في تطبيق القصاص، وفي الالتزام بالحدود الشرعية، وفي التطبيق الحرفيِّ لكتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونتيجة هذا الأمن المتناهي نادى آق سنقر في أهل حلب بأمر عجيب جدًّا، وهو أن لا يرفع أحد متاعه من الطريق إذا أراد أن يذهب إلى مكان بعيد ثم يعود، بل يتركه دون حراسة، وهو ضامن له ألا يُسرق!
لقد كان أمنًا عجيبًا تحدَّث عنه الناس هنا وهناك.
آق سنقر ونشر الأمن والامان فى حلب:
ومما يُروى في هذا الصدد قصَّة عجيبة، وهي أن آق سنقر كان قد مرَّ بقرية من قرى حلب، فوجد أحد الفلاحين -وكان لا يعرف آق سنقر- قد فرغ من عمله في حقله، ويستعدُّ لحمل أداة من أدوات الزراعة على دابَّته ليحملها إلى القرية، وكانت هذه الآلة مغلَّفة بالجلد، فقال له آق سنقر: ألم تسمع مناداة قسيم الدولة بأن لا يرفع أحدٌ متاعًا ولا شيئًا من موضعه؟ بمعنى أنه يضمن لك حفظه من السرقة. فقال الفلاح: حفظ الله قسيم الدولة، وقد أُمِّنَّا في أيامه، وما نرفع هذه الآلة خوفًا عليها من السرقة، لكن هنا حيوان يقال له ابن آوَى (حيوان مثل الذئب) تأتي إلى هذه الآلة فتأكل الجلد الذي عليه، فنحن نحفظه منها ونرفعه لذلك. فعندما عاد قسيم الدولة إلى حلب أمر الصيَّادين فتتبعوا هذه الحيوانات في كل الإمارة، فصادوها حتى أفنوه[12]!
لقد كان أمنًا يخرج عن حدِّ الواقع إلى الخيال!
آق سنقر واسهاماته فى المجال العمرانى فى حلب:
ولم يكن إسهام آق سنقر في إنتشار الأمن والامان فقط، بل نجد إسهاماته العمرانية ما يُثبت أنه كان قائدًا متوازنًا مهتمًّا بكل التفاصيل في إمارته، وقد جدَّد -رحمه الله- منارة مسجد حلب الجامع، وما زال اسمه منقوشًا عليها إلى اليوم[13].
آق سنقر واسهاماته فى المجال العسكرى فى حلب :
وأمَّا في المجال العسكري، فكان قسيم الدولة -رحمه الله- منظّمًا إلى أبعد درجة، وكان له جيش نظاميٌّ معظمه من التركمان، وكان له -أيضًا- جيش احتياطي مكوَّن من العرب والتركمان، وكانت القوَّات الاحتياطية تبلغ عشرين ألف مقاتل[14].
وصار قسيم الدولة آق سنقر -رحمه الله- حديث الناس كلهم أجمعين! وأحبَّه أهل حلب حبًّا جمًّا، بل شُغِف بأخباره عامَّة المسلمين.
آق سنقر و أقوال بعض المؤرخين:
يقول المؤرخ ابن القلانسي في ذيل تاريخ دمشق عن آق سنقر: «وأحسن فيهم السيرة، وبسط العدل في أهليها، وحمى السابلة (الطريق المسلوك) للمتردِّدين فيها، وأقام الهيبة، وأنصف الرعية، وتتبَّع المفسدين فأبادهم، وقصد أهل الشرِّ فأبعدهم، وحصل له بذلك من الصيت، وحُسن الذكر، وتضاعف الثناء والشكر، فعمرت السابلة للمتردِّدين من السفار، وزاد ارتفاع البلد بالواردين بالبضائع من جميع الجهات والأقطار»[15].
وقال ابن الأثير في حقه: «وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسةً لرعيته، وحفظًا لهم، وكانت بلاده بين رخص عام وعدل شامل وأمن واسع»[16].
وقال ابن كثير: «كان قسيم الدولة من أحسن الملوك سيرةً، وأجودهم سريرة، وكانت الرعية في أمن وعدل ورخص»[17].
كانت هذه هي حياة قسيم الدولة آق سنقر رحمه الله.
تتش بن ألب أرسلان وحقده علي اق سنقر:
ومع هذه الروعة فإنَّ هذه الحياة لم تكن تُرضي الجميع! بل كان هناك مَنْ يُنكر عليه خيره، ومن يكره فضله، ومن يحقد عليه لأجل صلاحه وورعه! وعلى رأس هؤلاء كان تتش بن ألب أرسلان أخو السلطان ملكشاه، وكان تتش يطمع في بسط سيطرته على الشام بكاملها، وفي وجود مثل هذا الحاكم العادل في حلب فإنَّ ذلك سيصعب عليه؛ فالناس يحبونه، وكذلك السلطان ملكشاه.
فماذا يفعل تتش؟!
لقد كان تتش ذكيًّا في شرِّه! فبدأ في السعي لضمِّ كل الإمارات الشامية باستثناء حلب؛ لأنه يعلم أن ملكشاه يحبُّ آق سنقر، فلا داعي لاستثارة السلطان عليه، ثم إنه أثار حملة السلطان لمساعدته بأن ذكر له أن بقية الإمارات الشامية واقعة تحت تهديد النفوذ العبيديِّ، فأمر السلطان ملكشاه أمراء الشام بما فيهم آق سنقر أن يساعدوا تتش في حروبه ضدَّ العبيديين[18].
لكن قسيم الدولة كان يُدرك أطماع تتش الانفصالية، وكان في الوقت نفسه عظيم الوفاء للسلطان ملكشاه، لكنه لم يستطع أن يطعن في تتش لكونه أخَا ملكشاه، وهذا دفعه لمساعدة تتش بغير حماسة[19]؛ مما أوغر صدر تتش عليه أكثر وأكثر، بل وراسل أخاه السلطان ملكشاه في أمر قسيم الدولة.
أراد السلطان ملكشاه أن يحلَّ الأزمة برفق؛ فهو لا يُريد أن يُغضب كلا الطرفين؛ ومن ثَمَّ فقد استدعى كل أمراء الشام بما فيهم آق سنقر وتتش إلى مقرِّه في فارس ليتباحثوا في أمر الشام، وهناك قام تتش بصراحة باتهام آق سنقر بعدم الإخلاص للسلاجقة، وهذا دفع آق سنقر لأن يدافع عن نفسه؛ بل واتهم تتش بالكذب، ومن العجب أن السلطان ملكشاه أقرَّ آق سنقر على رأيه، ورفض عزله، وأوصى أخاه تتش بعدم التعرُّض له[20]!
وكان هذا اللقاء في (رمضان 484هـ)، أي بعد خمس سنوات من ولاية آق سنقر على حلب، لكن في السنة التالية حدث أمر مفجع وهو
وفاة ملكشاه بن ألب أرسلان في (شوال 485هـ= نوفمبر 1092م)، وتولَّى بَرْكيَارُوق ابنه الأكبر الولاية على السلطنة السلجوقية الكبرى:
وفاة السلطان ملكشاه في (شوال 485هـ= نوفمبر 1092م)، وتولَّى بَرْكيَارُوق ابنه الأكبر الولاية على السلطنة السلجوقية الكبرى[21]، وهذا أغضب تتش الذي كان يطمع في هذا المنصب الرفيع؛ ولذلك قرَّر تتش أن يتحرَّك بالقوَّة العسكرية لحرب ابن أخيه بَرْكيَارُوق، والسيطرة على السلطنة بالقوَّة!
ولكن تتش كان يخشى من وجود قوَّة آق سنقر خلف ظهره، وفي الوقت نفسه كان يُريد أن يستغلَّ قوَّته العسكرية الكبيرة في تحقيق مطامعه، فأمره أن يأتي على رأس جيشه ليُعاونه في حرب بَرْكيَارُوق بن ملكشاه!!
وقع قسيم الدولة آق سنقر في أزمة كبيرة؛ فهو يعلم أن قوَّة تتش أكبر بكثير من قوَّته، وهو في النهاية أخو ملكشاه السلطان المتوفَّى، وعمُّ السلطان الحالي بَرْكيَارُوق، لكن في الوقت نفسه هو على وفائه للسلطان العظيم ملكشاه، ويُريد أن يحفظه في ابنه، كما أنه يعلم أطماع تتش، ويعلم أنه ليس بالشخصية الجديرة بحكم المسلمين، فماذا يفعل؟!
مقتل آق سنقر:
حادثة قتل آق ٌ سنقر:
لقد فكَّر قسيم الدولة آق سنقرفي خطَّة خطيرة! قد يدفع ثمنها من حياته يومًا ما، لكن لم يجد أمامه حلاًّ آخر!
لقد قرَّر قسيم الدولة آق سنقرأن يخرج بجيشه مع تتش، ويوهمه أنه سيقاتل معه، فإذا التقى الجيشان، ترك قسيم الدولة جيش تتش وانضمَّ إلى جيش بَرْكيَارُوق[22]!
إنها خطة خطيرة ستقضي تمامًا على قسيم الدولة آق سنقر لو انتصر تتش! لكنَّ قسيم الدولة كان يرى أن الحقَّ مع بَرْكيَارُوق، ليس لأنه الوريث الشرعيُّ للحكم فقط، ولكن لكونه أصلح وأتقى ألف مرَّة من تتش؛ ولذلك ضحَّى بأمنه وحياته من أجل الدفاع عن هذا الحقِّ.
إنه نوعية فريدة حقًّا من الرجال!
ونفَّذ قسيم الدولة خطته، وفي سنة (486هـ) التقى جيش تتش مع جيش بَرْكيَارُوق في مدينة الرَّيِّ بفارس، وفعلاً انسحب آق سنقر بجيشه وانضمَّ إلى بَرْكيَارُوق، وفعل الشيء نفسه أمير الرها بوزان، وكان وفيًّا كذلك للسلطان الراحل ملكشاه، فاختلَّ توازن جيش تتش؛ ومن ثَمَّ انسحب مهزومًا من الرَّيِّ، وعاد إلى الشام بخُفَّي حُنَيْن، لكنه عاد بقلبٍ أشدَّ حقدًا على قسيم الدولة آق سنقر[23].
أعاد بَرْكيَارُوق قسيم الدولة آق سنقر إلى إمارة حلب تابعًا له، وذلك في ذي القعدة (486هـ)، وأمدَّه بقوات إضافية؛ لأنه كان يتوقَّع ضربة انتقامية وشيكة من تتش.
وسرعان ما جاءت هذه الضربة؛ فقد جمع تتش عدَّة جيوش، وتقدَّم صوب حلب لامتلاكها، وخرج له قسيم الدولة بعد أن استغاث ببعض الأمراء التابعين لبَرْكيَارُوق، لكنَّ الأمراء تأخَّرُوا في القدوم؛ مما جعل قسيم الدولة يُواجه تتش بجيشه وحده، وكانت الهزيمة المفجعة، وأُسِرَ آق سنقر، وقام تتش بقتله على الفور[24]!
كانت هذه المأساة في يوم السبت 9 من جمادى الأولى 487هـ= مايو 1094م، وهكذا انتهت فترة حكم آق سنقر -وهي ثمانية أعوام- لمدينة حلب، ويشهد الجميع أنها كانت من أزهى عصور حلب مطلقًا.
هذه هي قصة الرجل العظيم قسيم الدولة آق سنقر الحاجب!
هذه هي قصة الرجل الذي تربَّى في بيته عماد الدين زنكي!
آق سنقر في عيون المسلمين:
لقد قُتل قسيم الدولة آق سنقر، بينما لم يتجاوز ابنه عماد الدين زنكي عشر سنوات[25]!! لقد كان عماد الدين زنكي طفلاً صغيرًا، ولا بُدَّ أن كثيرًا من الناس أشفقوا عليه من الضياع، وكم من الأيتام ضاعوا ويضيعون! لكن عماد الدين زنكي لم يضِع، بل أعزَّه الله ونصره، ولم يمُتْ إلا وهو على رأس إمارة واسعة، وكان من أحبِّ خلق الله إلى قلوب العباد.
إن قسيم الدولة وإن كان لم يترك لابنه مالاً كثيرًا، ولا منصبًا رفيعًا؛ فإنه ترك له أشياء أخرى كثيرة أعظم كثيرًا من المال والسلطان.
ماذا ترك آق سنقر لإبنه عماد الدين زنكى ؟
- لقد ترك له أولاً رعاية الله عز وجل وحفظه، وكفى بهذه الرعاية ميراثًا! لقد كان قسيم الدولة ورعًا تقيًّا قائلاً للحقِّ دومًا، حتى قال عنه ابن العديم[26]:
«وكان قسيم الدولة شديد التقوى، عميق الإيمان»[27]. وهذه التقوى حفظت الابن الصغير الضعيف كما وعد الله عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}[النساء: 9].
وترك قسيم الدولة آق سنقرلابنه ثانيًا حبًّا عظيمًا للشريعة وآدابها، وتوقيرًا كاملاً لقوانينها وحدودها، ورأى عماد الدين زنكي بعينيه بركات تطبيق الشريعة، فما تركها قط.
وترك قسيم الدولةآق سنقر لابنه ثالثًا إعلاءً لقيمة العدل، حتى ترسَّخ ذلك في قلبه وكيانه، فكَرِه الظلم بكل صوره، وصار من أعدل حكام المسلمين كما كان أبوه.
وترك قسيم الدولةآق سنقر لابنه رابعًا رحمة فطرية على الرعية، حتى كان يُقَدِّم مصالحهم على مصالحه، ويعفو ويصفح لو كان الخطأ في حقِّه، ويرحم الضعفاء والفقراء، ويأخذ الحقَّ لأهله دون تجاوزٍ أو طغيان.
وترك قسيم الدولة آق سنقر لابنه خامسًا تواضعًا عظيمًا، جعله لا ينظر إلى بهرجة السلطان، وعظمة الكرسيِّ، بل كان دائمًا متواضعًا لله سبحانه وتعالى، يُدرك فضل الله عليه؛ ومن ثَمَّ لا يتكبَّر على خلق الله، ولا يُعْجَبُ بما يُحَقِّق من نصر أو تمكين.
وترك قسيم الدولة لابنه سادسًا مهارة إدارية وقيادية؛ جعلته قادرًا على تحريك الجموع وسياستهم، وجعلته محبًّا لفكرة الوَحْدَة والتجمُّع تحت راية واحدة.
وترك قسيم الدولةآق سنقر لابنه سابعًا حبًّا للجهاد وتعظيمًا له، فحياته كلها كانت جهادًا، وكذلك حياة ابنه؛ لقد علَّم ابنه كيف يكون مجاهدًا في سبيل الله لا في سبيل الملك والمال، كما عَلَّمه ركوب الخيل وفنون الفروسية، فقد كان قسيم الدولة من أمهر الناس قتالاً، ومن أعظمهم جهادًا.
وترك قسيم الدولة آق سنقرلابنه ثامنًا حبًّا في قلوب أهل حلب، فقد تعلَّقت قلوبهم جميعًا بهذا الحاكم العادل الرحيم، حتى قال ابن الأثير كلمة عجيبة تصف حبَّ الناس له، فقال: «توارث أهل حلب الرحمة عليه إلى آخر الدهر!». وقال ابن العديم كذلك: «وعامل أهل حلب من الجميل بما أحوجهم أن يتوارثوا الرحمة عليه إلى آخر الدهر!»[28]. أي أن كلَّ أبٍ يُوصِي أبناءه أن يتراحموا على قسيم الدولة، وهكذا إلى آخر الدهر! فأيُّ درجةٍ من الحبِّ كانت هذه الدرجة! ولا شكَّ أن هذا سيكون له مردود كبير على حياة عماد الدين زنكي.
وترك قسيم الدولة آق سنقرلابنه تاسعًا حبًّا واضحًا للسلاطين العادلين الأقوياء من السلاجقة، فقد كان ولاء قسيم الدولة لملكشاه، ولابنه بَرْكيَارُوق من بعده، وهذا أعطى وضوحَ رؤيةٍ كبير لعماد الدين زنكي، فلم ينبهر في حياته بلقبٍ أو شخص، إنما جعل ولاءه للسلطان العادل، ولم يتشتَّت بين القوى المختلفة، بل ظلَّ ثابتًا في اتجاه واحد، وهذا حقَّق له خيرًا كثيرًا في حياته.
وترك قسيم الدولة آق سنقرلابنه عاشرًا وأخيرًا مجموعة من الأصدقاء الأوفياء الذين أحبوه لله، لشخصه لا لسلطانه، فحفظوا ابنه اليتيم بعد موته، تمامًا كما فعل قسيم الدولة عندما حفظ ابن السلطان ملكشاه بعد موته؛ لأنه كان يحبُّ السلطان لله، وهكذا دائمًا يحدث؛ فالجزاء من جنس العمل، والله عز وجل يقول: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].
فتلك عشرة كاملة تركها قسيم الدولة لابنه الصغير عماد الدين زنكي! فمَنْ مِن المسلمين ترك لابنه مثلما ترك قسيم الدولة لابنه؟!
إن الناس تنشغل بترك المال والثروة، وتأمين الشقَّة والسيارة، وتوصية فلان وفلان، ولكنَّ القليل الذي يترك مثل الذي تركه قسيم الدولة رحمه الله، لكنَّ القليل -أيضًا- الذي يكون مثل عماد الدين زنكي، فاعتبروا يا أولي الأبصار!
[1] ابن العديم: بغية الطلب في تاريخ حلب 8/3844.
[2] ابن العبري: تاريخ مختصر الدول ص186.
[3] ابن الأثير: التاريخ الباهر ص4.
[4] ابن العديم: زبدة الحلب 2/91، 92.
[5] ابن العديم: زبدة الحلب 2/99، 100.
[6] النويري: نهاية الأرب 27/93.
[7] ابن واصل: مفرج الكروب 1/18.
[8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/443.
[9] مصطفى شاكر: دخول الترك الغز إلى الشام ص307، 314، 315. المؤتمر الدولي لتاريخ بلاد الشام الأول، عمان 1975م.
[10] ابن الأثير: الباهر ص15.
[11] سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان 8/244.
[12] ابن العديم: زبدة الحلب 2/104.
[13] ابن العديم: زبدة الحلب 2/105.
[14] ابن العديم: زبدة الحلب 2/104.
[15] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص196.
[16] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/495.
[17] ابن كثير: البداية والنهاية 12/147.
[18] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/477.
[19] سهيل زكار: مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية ص216.
[20] ابن العديم: بغية الطلب 4/1956.
[21] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/484.
[22] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/488.
[23] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/489، وابن العديم: زبدة الحلب 2/109، 110.
[24] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/494، 495، وابن واصل: مفرج الكروب 1/27.
[25] ابن الأثير: التاريخ الباهر ص15.
[26] ابن العديم (586-660 هـ=1192-1262م): كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي، الصاحب العلامة رئيس الشام، وكان محدثًا حافظًا مؤرخًا صادقًا فقيهًا مفتيًا منشئًا بليغًا كاتبًا مجودًا، درس وأفتى وصنَّف، وترسل عن الملوك، ولد بحلب، ورحل إلى دمشق وفلسطين والحجاز والعراق، وتوفي بالقاهرة، من كتبه: (بغية الطلب في تاريخ حلب). انظر ابن شاكر: فوات الوفيات 3/126-129، والذهبي: تاريخ الإسلام 14/938.
[27] ابن العديم: زبدة الحلب 2/105.
[28] ابن العديم: بغية الطلب فى تاريخ حل
الدكتورة كاري آن أوين الأمريكية اليهودية - الدكتورة كاري آن أوين الأمريكية اليهودية - الدكتورة كاري آن أوين الأمريكية اليهودية - الدكتورة كاري آن أوين الأمريكية اليهودية - الدكتورة كاري آن أوين الأمريكية اليهودية
الدكتورة كاري آن أوين الأمريكية اليهودية
قصة الإسلام
"أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، أعتقد أن هذه هي كلمات الشهادة، هكذا تقول الدكتورة كاري آن أوين، الأمريكية اليهودية السابقة، بعدما عادت إلى الإسلام، وتلك هي قصتها في اكتشافها للدين الصحيح.
يُعرف الخالق بالعديد من الأسماء، فدائمًا يُعرف بحكمته، كما أنه يحث على وجود التسامح والمحبة والرحمة في مجتمعن، كذا فإن لديه القدرة أن يهدينا من الحرب المتفشية في المجتمع الأمريكي إلى الاعتقاد بأن المجد والكرامة للإنسان بالتزامه تجاه خالقه، وهذا يوصف بنضوج الشخصية الروحية.
بدأت قصتي مع النطق بالشهادتين لدى إعجابي بالمخرج المسرحي توني ريتشاردسون، الذي توفي بسبب مرض الإيدز، حيث كان ريتشاردسون شخصية رائعة ومعروف مهنيًّا على مستوى العالم، وعندما التقيت به وراء الكواليس في مسرحية لوثر، وكان عمري 14.
وقد ترك لدى مشاهدتي للمسرحيات وسيلة لإيجاد درجات من المصالحة الروحية والعاطفية داخل نفسي وبيني وبين العالم، بدلاً من التصارع وقد استطعت التخلص من الصراعات النفسية في مسرحياتي.
وهكذا بدأت في قراءة المسرحيات ابتداء من سن 17، وكان لدي أمل دائمًا أن أكون يومًا مثل السيد ريتشاردسون وهو حلم طفولتي، ولأني لم أجد هذه المصالحة الروحية داخل المجتمع الأمريكي كما أرغب، فبدأت في النظر خارج إلى الثقافة الإسلامية للتوجيه المعنوي والأخلاقي، بعيدًا عن الغرب برمته.
لماذا الإسلام؟
لقد كان أجداد أمي من اليهود الأسبان الذين عاشوا بين المسلمين حتى قامت محاكم التفتيش بطرد الجالية اليهودية في 1492م، في ذاكرتي التاريخية، والتي أشعر من خلالها على مستوى عميق أن صوت المؤذن عميق مثل هدوء المحيط واستمالة السفن، والتأكيد على المحبة في مواجهة القمع والظلم.
شعرت بميلاد قصة داخلي، وبدأت الدراما عندما أخذت في الاطلاع على إنسانية وحنو الخليفة العثماني تجاه اللاجئين اليهود في الوقت الذي طرد فيه أجدادي، وقد هداني الله إلى التعلم ومعرفة الإسلام من شخصيات متنوعة مثل الإمام صديقي من الرابطة الإسلامية لجنوب خليج، وأختي الحبيبة ماريا عابدين، وهي أمريكية ومسلمة، وكاتب مجلة اقر، وقد كانت أول مقابلة لبحثي في متجر جزار للحوم الحلال بمقاطعة ميشين في سان فرانسيسكو، حيث تأثر فهمي للإسلام بعمق عند التقائي بأول سيدة مسلمة؛ حيث كانت ترتدي الحجاب، كما تصرفت بمنتهى اللطف ودماثة الخلق، وكانت تتقن الحديث بأربع لغات.
لقد كان لتألقها هذا -إضافةً إلى إبهارها إياي وتحررها من الغطرسة- بالغ التأثير على بدايات معرفتي كيف يمكن للإسلام أن يؤثر على السلوك البشري، ورويدًا وريدًا أحسست أنها ليست ميلاد قصة فحسب، ولكن مولد مسلم جديد.
ولم يوفر لي بحثي الكثير من الحقائق عن الإسلام فحسب، ولكنه قرر لدي أن الإسلام هو دين الحياة، فقد تعلمت كيف يرسخ الإسلام في نفوس المسلمين الشعور بالكرامة والرحمة التي ترقى بهم فوق سوق النخاسة الأمريكية للسباق الجنسي والعنف، كما تعلمت أن الرداء المتواضع، باعتباره حالة روحية، يمكن أن يرتقي بالسلوك البشري ويمنح كلاًّ من الرجل والمرأة شعورًا بقيمتهما الروحية الخاصة.
لم تكن لدي الإجابة عن كثير من التساؤلات عن الصراعات في الشرق الأوسط، سوى أني كنت أعرف ما قاله حبيبي رسول الله أن من كانت لديه إعاقة يعذر عليه الصلاة في نفس المواقف التي يؤديها الإنسان العادي، لكني أحببت الإسلام وعرفته من خلال سلوك وتصرفات وكلمات المسلمين والمسلمات الذين تعرفت إليهم في "أميلا" (عزم مسلمي أمريكا على التعليم والتفاعل)، وفي أماكن أخرى، حيث وجدت ملاذًا من الصراعات العاطفية.
شعوري عن الإسلام
أعجبني احترام الإسلام لتعليم الجنسين؛ وتوفير حقوق المرأة وكذلك الرجل في المجتمع، وحق ارتداء الملابس البسيطة وعدم التكلف، كم هو رائع أن تشعر بأن مليار ونصف من المسلمين يشاركونك هذا الإيمان وشكل الزواج ذو الطابع الواحد، إلى جانب قراري بالتخلي عن المخدرات والكحول.
داخل أي مجتمع لا بد من الضغط المستمر على أنفسنا بالتضحية بالغريزة الجامحة دون احترام لنتائج ذلك، أما الإسلام فيأمرنا أن تكون أنفسنا كبشر خلقهم الله لديهم القدرة على أداء المسئولية في علاقاتنا مع الآخرين، من خلال الصلاة والصدقة والتزام الوقار والاتزان والتعليم؛ لذا فإن اتبعنا طريق الإسلام، فنحن سنحصل على فرصة جيدة لتربية الأطفال ينبذون العنف والاستغلال الذي يسرق من الآباء والأطفال الأمان في المدارس والأحياء المجاورة، وفي كثير من الأحيان حياتهم.
لقد كان لمجتمع "أميلا" وأصدقاء آخرون بالغ التأثير لديَّ، ولا سيما في وقت بعض النزاعات على شبكة الإنترنت على موقع "أميلا"، والذي أكد لي أن الإسلام دين شامل، ويعلن أن مجتمعه رائع، حيث تجد فيه تأكيده منحة الله من الزواج، والوقار والاتزان وغيرها من أشكال المسئولية، كما يبين لنا الإسلام السبيل للخروج من الجحيم.
لهذا السبب؛ فإنه لا إله إلا الله، الخالق، وأن محمدً، والذي ما زالت رعايته وعنايته بضحايا الحرب والعنف تثير دمعي، هو رسول الله.
اكتشف صلاتك ! - اكتشف صلاتك ! - اكتشف صلاتك ! - اكتشف صلاتك ! - اكتشف صلاتك !
اكتشف صلاتك !
فريد الأنصاري
موقع قصة الاسلام
لو أدرك المسلمون اليوم ما معنى (الصلاة)؟ ما تركها واحد منهم، إلا من أصر على ضلاله وعماه، أو كزّ على كفره وزندقته!
تبصرة .. منزلة الصلاة
أما أنت يا صاح فاعلم أن السير إلى الله من غير مسلك الصلاة ضرب في التيه! كل أعمالك في الجهاد، والدعوة إلى الله، وما تستكثره من حركات وسياسات؛ راجعة إلى مدى سلامة هذا الأصل عندك؛ قصدًا، ووقتًا، وأداء، وإلا فعلى دينك السلام! {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].
إنك لن تذوق ما الإيمان وما الإسلام؛ حتى ترحل إلى الصلاة: تكتشف أسرارها، الممتدة إلى بحر الغيب المطلق؛ فترى عجبًا .. إن الصلاة أول ما يبادر إليه المحب أول ما يتذوق معنى المحبة؛ إذ يتعرف على جمال الله من خلال القرآن الكريم؛ ومن هنا أمره عز وجل بالصلاة؛ مباشرة بعد أمره تعالى بالتلاوة، على سبيل العطف المباشر، المشعر بالتساوي بين الفعلين، مما يوحي بانعدام الفرق الزمني بينهما؛ لما بين الاستجابتين من ارتباط وثيق، إن من تعرف على القرآن الكريم حقًّا لا يملك إلا أن يصلي، قال تعالى: {اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
ومن هنا كان أول عمل من العبادات قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان بالله وتوحيده- هو الصلاة، وهي أول عمل تعلمه من تطبيقات القرآن، وهذا أمر مهم جدًّا في معرفة ما يبتدأ به من أمر البلاغ. قال عليه الصلاة والسلام: "أتاني جبريل في أول ما أوحي إلي فعلمني الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه" [1]. ذلك أول العمل، كما هو ظاهر هذا الخطاب: "في أول ما أوحي إلي"، الوضوء والصلاة، ولهذا دلالة كبرى في معرفة البدايات والأصول العمليات، ولم يزل ذلك مرافقًا لعمل الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يزداد مع الأيام إلا ترسخًا في الدين، وما تنزل القرآن بعده إلا بما يؤكد أنه أساس الغايات، ومنتهى العبادات.
وتأمل كيف أن الله جل جلاله أفرد (إقام الصلاة) بالذكر -في بناء المنهج الإصلاحي- بعد ذكر التمسيك بالكتاب، مع أن الصلاة فرع عن التمسيك بالكتاب، وداخلة في معناه، فلولا أنها أساس، وأم من أمهات البلاغ القرآني، ومنطلق من منطلقات الصلاح والإصلاح؛ لما كان لها ذلك التفريد الفريد، قال عز من قائل: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170].
إن العلماء يجمعون على أن الوظيفة الوحيدة للإنسان في الكون هي عبادة الله، فكل حظوظه الدنيوية إنما هي منجرة بالتبع مع أصل العبادة، وإنما أتيح له أن ينال من حظه ما يعينه على وظيفته الأساس، وأصل ذلك ومستنده قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
إن خلاصة دين الإسلام عقيدةً وشريعةً: هي إخلاص العبادة لله الواحد القهار، والصلاة منه هي مفتاح كل شعيرة من شعائره، وروحها، وغايتها؛ زكاةً، وصيامًا، وحجًا، وجهادًا .. إلى آخر ما تفرع عن هذه وتلك من سائر أعمال البر، ولذلك كانت الصلوات الخمس -بعد الشهادتين- هي العنوان الجامع المانع لكل أعمال الإسلام. إذ كل ما سواها داخل في معناها. وليس عبثًا أن يعتبرها الرسول خير أعمال المسلم، قال صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا" وفي رواية: "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" [2].
ركَّعًا سجَّدًا
لقد جعل الله الصلاة هي آية المسلم، والعلامة الجميلة التي تميزه في مسيرة التاريخ النبوي، فهي الفصل الذي لا يعرف إلا به، والنور الذي لا يمشي إلا به، قال عز وجل: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].
وإنما اكتسبوا صِفَتَيْهم الأوليين: الجهادية: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}، والخلقية: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}؛ من كونهم رهبانًا بالليل، أي قوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}؛ لأن ذلك هو المعين الصافي الذي يتزود منه المسلم الصادق المجاهد الداعية إلى الله؛ بصدق التوجه والسير، من حيث إن قوله تعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}، فيه إشارة إلى أن ذلك هو دأبهم وحالهم المستمر في حركتهم التعبدية؛ إذ التعبير باسم الفاعل جمعًا: {رُكَّعًا سُجَّدًا}، في سياق الفعل المضارع: {تَرَاهُمْ}؛ يوحي بصورة حية لقافلة المؤمنين، وهم منخرطون في حركة الصلاة المتواترة، من غير فتور أو انقطاع، سيرًا مستمرًا حتى كان ذلك صفة ثابتة لهم، حيثما تراهم، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}.
أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة
ولذلك كان تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاةَ في حياة المسلم التعبدية بالنهر الجاري، قال: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من دَرَنِه شيء؟ قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهن الخطايا" (رواه مسلم). إن الإسلام في نهاية المطاف هو الصلاة، بالمعنى الذي سبق بيانه؛ وعلى هذا الوزان تُقَوَّم أعماله كلها يوم القيامة، وعلى ذلك يتحدد مصيره الأخير .. ! قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحاكم الحاسم: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة! فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر! وإن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم يكون سائر عمله على ذلك" [3].
وأوضح من هذا دلالة على ما نحن فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله" [4]، فليس عبثًا إذن أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في مراتب أعمال ابن آدم، على سبيل ترتيب الأولويات: "أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله" (متفق عليه)، إن الأمر جد، فتدبر! ثم أبصر!
الصلاة والكفر بالله
وما بقي لمسلم تَرَك الصلاةَ من إيمانه إلا ما لا يخلده في النار، لا ما ينقذه منها بإطلاق، قال صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (رواه مسلم)، وقال أيضًا: "بين الكفر والإيمان ترك الصلاة" [5]، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس بين العبد والشرك إلا ترك الصلاة فإذا تركها فقد أشرك" [6]، وهذه الأحاديث وما في معناها تقتضي أن المسلم التارك لصلاته قد شابه الكفار في صفاتهم، فكفر عملًا وإن سلم عقيدة؛ لأن المسلم إنما يتميز بصفة الصلاة التي هي عنوان إسلامه -كما بيناه قبل- فمن فَقَدَ عنوانه فَقَدَ هويته.
الصلاة فلاح المؤمنين
ولنعد إلى جمال القرآن الكريم، ذلك أن الله تعالى إذ يصف فلاح المؤمنين؛ يذكر الصلاة باعتبارها أول وسام نوري -بعد الإيمان- يشع من قلوبهم، وهو أمر يكاد يكون مطردًا في كل آي القرآن العظيم، يقول المولى الكريم في أول سورة البقرة: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 1 - 3].
ومن أجمل ما ورد في ذلك فاتحة سورة (المؤمنون)، إذ جعل الله أول صفاتهم الخشوع في الصلاة، وآخرها المحافظة على الصلاة، وكل أعمال الصلاح من فعل الخيرات وترك المنكرات؛ جعلها فيما بينهما، فاقرأ وتدبر .. واحفظها واحدة واحدة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11]. فالخير كله فاتحته الصلاة، والخير كله خاتمته الصلاة، والخير كله غايته الصلاة، والخير كله وسيلته الصلاة.
تبصرة: والصلاة تَرْكٌ كما هي فِعْلٌ
إن كنت تصلي حقًّا؛ فأنت تارك لكل منكر من الكبائر والموبقات! من مثل الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، وكذا تناول المحرمات من المطعومات والمشروبات، كأكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، وشرب الخمر أم الفواحش، وسائر المسكرات والمخدرات، والسقوط في المحرمات من المعاملات والملبوسات، كالكبر، والظلم، والغصب، وشهادة الزور، وأكل أموال الناس بالباطل، والقمار، وسائر المنكرات!
فتدبر كيف أن الله جل جلاله ذكر في سياق صفات الفلاح -مما أوردناه قبل من فواتح سورة (المؤمنون) - عددًا من الأفعال والتروك، كان جانب الترك فيها أكثر حضورًا، باللفظ أو بالمعنى، كما في (الإعراض عن اللغو)، و (حفظ الفروج) الذي هو في معنى النهي عن الزنى، والنهي عن كل مسالكه وأسبابه، و (رعي الأمانات والعهود)، الذي هو في معنى النهي عن الخيانات بشتى أنواعها، وهذا شيء مهم جدًّا، ذلك أن الصلاة كما ذكرنا ترك من التروك.
وجامع ذلك كله قول الله ذي الأسرار والأنوار: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]. هل أبصرت هذه الآية؟ أبصر إذن كيف أن الله تعالى أسند فعل النهي للصلاة نفسها! كأنها هي ذاتها شخص معنوي، في هيأة نبي مرسل يؤدي مهمته التبليغية، أو عبدٍ مصلح يقوم بوظيفته الإصلاحية!
أعد التلاوة وتدبر: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}عجيب! لأن معنى (أن تصلي): هو أن ترحل عن خطاياك إلى الله .. تخرج من دركات العادة إلى درجات العبادة، وهذا كلام يعبر عن حقائق لا يعلم مدى عمقها في النفس إلا الله! إذ تتحول الأذواق وتتبدل، يتغير طعم المنكر في قلبك فلا تستحليه. ويتبدل ذوق شهوات الحرام من الرغبة إلى الغضبة! وتصبح خلقًا آخر! أبصر ثم أبصر! فإن الصلاة تصنعك! نعم، إنها {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}. هل غلبتك الفاحشة ولم تستطع التخلص منها؟ هل أنت مدمن على خطيئة ما؟
دواؤك واحد: صَلِّ! تقول لي: إنني أصلي .. لا، لا! صلِّ! فإنك لا تصلي! {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}، صلِّ؛ تجد أن ما كان يأسرك من المحرمات بالأمس، ويملأ عليك قلبك نزوةً ورغبةً، فلا تستطيع التخلص منه؛ هو من أبغض الأشياء إليك اليوم! إن القرآن سيف قاطع، إذا قطع القول في حقيقةٍ فلا مراء بعدُ إلى يوم القيامة! ولقد قال الحقُّ كلمتَه، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32].
إن الصلاة سفر من الأرض إلى السماء؛ فأنى لمنازل السلام أن تصطدم بنوازل الحرام؟ أبدًا، لا شهود للدرجات في نتانة الدَّرَكات!
تبصرة .. الصلاة الصلاة حتى في الحرب
ومن أعجب العجب أن ألزم الله جل جلاله المسلمين بالصلاة إلزامًا؛ حتى في أحرج الظروف وأخطرها: الحرب .. قال جل جلاله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238 - 239]. فقوله سبحانه: {فَإنْ خِفْتُمْ} يعني في حال الحرب وانعدام السلم والأمن، سواء لحظة الاشتباك أو لحظة الترقب، وقوله: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}؛ أي فصلوا (صلاة الخوف) باصطلاح الفقهاء. وهي عندهم: الصلوات الخمس إذ تؤدى في ظروف الحرب. فتؤدى {رِجَالًا}، أي: على أرجلكم، واقفين أو سائرين، أو {رُكْبَانًا}، أي: راكبين خيولكم، أو دباباتكم، ومصفحاتكم.
فعجيب أمر هذه العبادة العظمى !! .. لا تبرأ ذمة المسلم منها حتى يؤديها، وقد جاء تأكيد ربطها بالوقت في ظروف الحرب كما قرأت؛ حتى لا يؤخرها مسلم عن وقتها الذي فرضها الله فيه، فالحرب، بل الاشتباك في المعركة، أي ما يسمى قديمًا بـ (المسايفة)؛ ليس عذرًا لتأخير الصلاة عن وقتها، بله أن يكون عذرًا لتركها. وإنما هو يؤثر فقط في شكل أدائها لا في إسقاطها، أو إخراجها عن وقتها، صلّ على أي حال كنت، وخذ حذرك! {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، في السلم وفي الحرب سواء!
تبصرة .. الصلاة الرباط الرباط
فإلى الذين يرابطون في أسواق التجارات، أو يرابطون في أسواق السياسات والنقابات، ويفرطون -أو يتكاسلون- في أداء الصلوات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا؛ إليكم المفهوم النبوي للرباط! .. قال صلى الله عليه وسلم في سياق التنبيه والترشيد: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة .. فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!" (رواه مسلم).
يا حسرةً على العباد! لو يدركون ما هذه الصلوات؟ ويا حسرة ثم يا حسرة! على نابتة من أبناء الحركات الإسلامية، تعددت بهم السبل من هنا وهناك، وتفرقت بهم الأهواء، وانغمسوا في التيه من كل صوب، وأضاعوا هذه الصلوات، خشوعَها ومواقيتَها وجمالَها؛ فصدق عليهم قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].
تبصرة: تدبر بذوقك
وإن للسياسة والرياسة لشهوة لو كنتم تعقلون، وإن لأشعة الإعلام، وزينة الكاميرات لشهوة لو كنتم تتفكرون. تلك آية فاصلة بين نوعين من الأجيال، بينهما ما بين النور والنار من دلالة، فللآية رهبة عظيمة لو تدبرتها، اقرأها ها هي ذي كاملة، فتدبر: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 58 - 60].
فتدبر .. ثم تدبر عسى أن تدرك بذوقك ما هذه الصلوات في الإسلام؛ فتبصرها، وتركب أوقاتها؛ لتدور بفلك العابدين سيرًا إلى الله العلي الكبير، فالصلاة هي العبادة التي تدخل من خلالها إلى نسق الكون، في صحبة الكائنات السائرات من النباتات إلى المجرات، لا فوضى ولا عصيان ولا تمرد، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، فأين أنت من المدار؟
ذلك نص البلاغ النبوي المستمد من وحي الله رب العالمين، فاختر لنفسك ما ينجيها إن كنت من العاقلين!
[1] رواه أحمد والدارقطني والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (76).
[2] رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم، والدارمي والبزار، والبيهقي والطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم: (952).
[3] رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (2020).
[4] رواه الطبراني في الأوسط، والضياء عن أنس. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (2573).
[5] رواه الترمذي بسند صحيح، انظر صحيح الجامع الصغير: (2849).
[6] رواه ابن ماجه بسند صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير: (5388).
ذاق طعم الإيمان من رضي - ذاق طعم الإيمان من رضي - ذاق طعم الإيمان من رضي - ذاق طعم الإيمان من رضي - ذاق طعم الإيمان من رضي
ذاق طعم الإيمان من رضي
للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : « ذَاقَ طَعْمَ الإيمانِ : مَنْ رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّدٍ رَسُولاً » رواه مسلم.
وقال -صلى الله عليه وسلم- : « مَنْ قَالَ حِيْنَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا. غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ » رواه مسلم.
وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين، وإليهما ينتهي. وقد تضمنا الرضى بربوبيته سبحانه، وألوهيته، والرضى برسوله والانقياد له، والرضى بدينه والتسليم له. ومن اجتمعت له هذه الأربعة: فهو الصديق حقا. وهي سهلة بالدعوى واللسان وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان، ولا سيّما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها من ذلك: تبين أن الرضى كان لسانه به ناطقا. فهو على لسانه لا على حاله.
فالرضى بإلهيته : يتضمن الرضى بمحبته وحده، وخوفه، ورجائه، والإنابة إليه، والتبتل إليه، وانجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليه، فعل الراضي بمحبوبه كل الرضى، وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له.
والرضى بربوبيته : يتضمن الرضى بتدبيره لعبده، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه، والاستعانة به، والثقة به، والاعتماد عليه، وأن يكون راضيا بكل ما يفعل به.
فالأول : يتضمن رضاه بما يؤمر به
والثاني : يتضمن رضاه بما يقدر عليه
"وكثير من الناس يرضى بالله ربا ولا يبغي ربا سواه، لكنه لا يرضى به وحده وليا وناصراً. بل يوالي من دونه أولياء. ظناً منه أنهم يقربونه إلى الله، وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك. وهذا عين الشرك. بل التوحيد: أن لا يتخذ من دونه أولياء. والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء.
وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله، وعباده المؤمنين فيه، فإن هذا من تمام الإيمان، ومن تمام موالاته. فموالاة أوليائه لون، واتخاذ الولي من دونه لون. ومن لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه فإن هذه المسألة أصل التوحيد وأساسه.
وكثير من الناس يبتغي غيره حكما يتحاكم إليه، ويخاصم إليه، ويرضى بحكمه. وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: أن لا يتخذ سواه رباً، ولا إلهاً، ولا غيره حكماً".
وأما الرضى بنبيه رسولا : فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه؛ بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة؛ لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم، وأحسن أحواله: أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور.
وأما الرضى بدينه : فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى : رضي كل الرضى، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليما، ولو كان مخالفاً لمراد نفسه، أو هواها، أو قول مقلده وشيخه وطائفته.
وههنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم. فإياك أن تستوحش من الاغتراب والتفرد، فإنه والله عين العزة والصحبة مع الله ورسوله، وروح الأنس به، والرضى به ربا، وبمحمد رسولا، وبالإسلام دينا.
بل الصادق كلما وجد مس الاغتراب، وذاق حلاوته، وتنَسَّم روحه قال: اللهم زدني اغتراباً ووحشةً من العالم، وأنسا بك. وكلما ذاق حلاوة هذا الاغتراب، وهذا التفرد: رأى الوحشة عين الأنس بالناس، والذل عين العز بهم، والجهل عين الوقوف مع آرائهم وزبالة أذهانهم، والانقطاع: عين التقيد برسومهم وأوضاعهم. فلم يؤثر بنصيبه من الله أحداً من الخلق، ولم يَبِعْ حظه من الله بموافقتهم فيما لا يُجدي عليه إلا الحرمان. وغايته: مودةَ بينهم في الحياة الدنيا. فإذا انقطعت الأسباب، وحَقَّت الحقائق، وبُعثِرَ ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور، وبُليت السرائر، ولم يجد من دون مولاه الحق من قوة ولا ناصر: تبين له حينئذ مواقع الربح والخسران، وما الذي يَخِفُّ أو يرجح به الميزان، والله المستعان، وعليه التكلان.