كاتب ناجت كلماته الوجدان، وحاكت تعابيره العواطف والأحاسيس،وخاطبت مخيلته العقول والقلوب، وصرخت كتاباته داخل جدار الخواطر والمشاعر الجيّاشة،وأبكت صوره الأفئدة العطشى الى بلوغ نشوة الإحساس، وأسكرت لوحاته النفوس التوّاقةالى فكّ قيود الواقع والإبحار في بحر الخيال والجمال، وعبرت إبداعاته المحيطاتوالبحار على متن سفينة الخلود ورست على شواطئ العالم كافة كما أنّها حلّقت في كلالأجواء بأجنحة السلام والمحبة، وأيقظت معانيه ضمائر الأثرياء والحكّام حيث أقامتهممن قبورهم المدفونة تحت ظلام الليل الحالك وظلم الشرّ الماكر، وسامرت روحه الإنسانمن كل جنس ولون ومكانة إجتماعية ودين وطائفة. هذا هو جبران خليل جبران، أديب ورسّاموفيلسوف لبناني، من أعظم الكتّاب المعاصرين. شهد له العالم ووقفت له الشعوب تقديراًلنبع عطائه الذي به أروى ظمأ الأجيال وما يزال. سيكون جبران خليل جبران موضوع بحثيبشكل عام وكتابيه "دمعة وإبتسامة" و"الأجنحة المتكسّرة" بشكل خاص، إذ سأحاول أن أجدالروابط بين شخصية وسيرة حياة جبران من جهة وكتابيه "دمعة وإبتسامة" و"الأجنحةالمتكسّرة" من جهة أخرى.
2- سيرة حياة جبران خليل جبران
ولد جبرانخليل جبران في السادس من كانون الثاني العام ١٨٨٣، من عائلة جران المارونية فيبشري، منطقة جبلية في شمال لبنان. والدته، كميلة رحمه، أنجبت جبران وهي في الثلاثينمن العمر من زوجها الثالث خليل جبران، الذي أثبت أنّه زوج غير مسؤول إذ قاد العائلةالى الفقر. لجبران أخ يكبره بست سنوات إسمه بطرس وهو من والد آخر، بالإضافة الىشقيقتين صُغرتين هما مريانا وسلطانة، اللتين أحبّهما حبّاً جمّاً. كانت عائلة كميلةمن العائلات المحترمة، فساعدتها على إعالة أولادها والرحيل بهم الى الولاياتالمتحدة الأميركية.
عن عمر الثامنة، صُعق جبران لما سيق والده الى السجنبتهمة تهربه من دفع الضرائب، بالإضافة الى مصادرة أملاك العائلة من قبل السلطاتالعثمانية، مما دفع العائلة الى التشرد. فإضطرت العائلة الى العيش مع بعض الأقارب. لكن ما لبثت العائلة الى أن قرّرت الهجرة الى الولايات المتحدة الأميركية بحثاً عنمستوى عيش أفضل. في العام ۱٨٩٤، أخرج خليل جبران من السجن، لكنه لم يهاجر وبقيةالعائلة بسبب تردّده وتهوّره فبقي وحيداً في لبنان.
في الخامس والعشرين منحزيران عام ۱٨٩٥، أبحرت عائلة جبران الى شواطىء نيويورك الأميركية. إستقرّت العائلةفي مدينة بوسطن حيث بدأت كميلة العمل كبائعة تتنقل من منزل الى آخر. تأقلمت كميلةبسرعة في المدينة بما أن الأغلبية كانت من الجاليات العربية التي إتّبعت العاداتوالتقاليد الغربية. في المدرسة، إرتكبت الإدارة خطأ في التسجيل، إذ سجلت جبران بإسمخليل جبران وبقي إسمه خليل جبران طيلة حياته. وُضع جبران في صف خاص للأولادالمهجّرين الذين إفتقروا للغة الإنكليزية. مع إستمرار كميلة عملها الدأوب، تحسّنتأوضاع العائلة، فإستطاع بطرس فتح متجر، عملت فيه مريانا وسلطانة. هذا التحسّن لميساعد جبران على تخطي وحدته، فكانت أمه الملاذ الوحيد الى الحنان والحب. بمساعدتهاتمكن جبران من إكتشاف الناحية الثقافية من بوسطن حيث دُهش بمسارحها ومعارضهاالكبرى، وبالمقابل أدهش جبران أساتذته بلوحاته ورسوماته.
عام ۱٨٩٨، قرّرتالعائلة أنّ على جبران العودة الى لبنان حتى يتمكن من إنهاء تحصليه المدرسي وتعلّماللغة العربية. فإلتحق بمدرسة الحكمة بيروت، حيث تابع منهجاً تصحيحياً عربياً. أنهىجبران دراسته عام ١٩۰۲، متّقناً اللغة العربية والفرنسية ومتفوّقاً في دروسه وخاصةفي الأدب العربي.
وصلت جبران أخبار عن إصابة عائلته بأمراض مختلفة، حيث أصيبأخوه بالسل وشقيقته سلطانة بمرض معّوي ووالدته بمرض السرطان. لدى سماعه هذهالأخبار، غادر جبران لبنان متّجهاً الى بوسطن عام ۱٩۰۲. لسوء حظّه، وصل متأخراً،توفيّت سلطانة، أولى ثلاث وفيّات تصيب العائلة في أشهر معدودة. في هذا الوقت، تعّرفجبران على شاعرة وكاتبة أميركية إسمها جوزفين بيبودي، فتطوّرت العلاقة الى صداقةحميمة،وبالتالي وجدها جبران بقربه في محنته الصعبة.
وفي العام ۱٩۰٤، يلتقيجبران بماري هاسكل، ناظرة في إحدى المدارس في بوسطن التي تشجّع اليتامى الواعدين. هذا اللقاء كان نقطة إنطلاق صداقة طويلة حيث إنحرفت أحياناً الى علاقة حب وغرام. بفضل ماري، إستطاع جبران تكريس ذاته لفنه وكتاباته.
نشر جبران عام ١٩۰٥مجموعة من المقالات حول موضوع الموسيقى في صحيفة "المهاجر". بعدها بدأ جبران بكتابةالقصائد النثرية التي جُمعت لاحقاً في كتابيّ "دمعة وإبتسامة" و"العواصف". عام١٩۰٦، ينشر جبران كتاب في اللغة العربية تحت عنوان "عرائس المروج". أسلوبه الواقعيووصفه الموضوعي للمشاكل الإجتماعية كتقييد المرأة ونفاق رجال الدين خلقا إنقساماًضمن المفكرين العرب المغتربين. وعلى صعيد آخر وفي أعقاب مغادرة جوزفين من حياته،يُقيم جبران علاقة غرامية مع عازفة البيانو غيرترود باري.
وفي العام ١٩۰٨،ينشر جبران مجموعة من القصص القصيرة في كتاب هو الثاني له تحت عنوان "الأرواحالمتمردة". بعد ذلك، ينتقل جبران للعيش في باريس لمدة عامين على نفقة ماري، وهناكدرس الرسم وقد تأثر بالأسلوب الرّمزي. كان يقضي معظم أوقاته في المعارض والمتاحف،حيث يُحكى أنّه إلتقى بالنّحات أوغست رودين، وقد أغمر جبران بالتيّارات الرّمزيةالفنّية عينها التي عمل ضمنها رودين.
بعد عامين، يعود جبران الى بوسطن حيثتنحرف علاقته بماري بإتجاه علاقة غرامية، لكن ماري من جهّتها تراجعت إذ خافت علىسمعتها داخل المجتمع. عام ۱٩١١، يبدأ جبران العمل على أول كتاب له باللغةالإنكليزية تحت عنوان "المجنون". في العام ذاته، يلتقي بالشاعر الإيرلندي ييتس، إذأبدى إعجاباً به لكنه إنتقده لشدّة وطنيته.
ثم في العام ١٩١۲، ينشر جبران فينيويورك كتابه الوحيد المؤلف من قصة واحدة تحت عنوان "الأجنحة المتكسّرة". وفي هذاالحين، يبدأ جبران بمراسلة الكاتبة السورية- المصرية مي زيادة، ثم ينتقل ليستقر فينيويورك، حيث يرسمه بعد مقابلته الزعيم عبدالله باها.
بعد ذلك في العام۱٩١٤، مجموعة من مختارات جبران الشعرية النثرية تُنشر في نيويورك تحت عنوان "دمعةوإبتسامة" من قبل نسيب عريضة. في العام ذاته، يقوم جبران بعرض لوحاته في معرضمونسترومس إذ رفضت معظم المعارض عرض لوحاته مما تحتويها من عرية مجردة، لكنه لقينجاحاً بارزاً.
عن عمر الثالثة والثلاثين، شعور جبران بإنتمائه الوطنيوإستيائه من الحكم العثماني أخذ بالتزايد مع إنتشار المجاعة على طول السواحلالشرقية للبحر المتوسط. بدأ جبران بإرسال المساعدات والإعانات الأميركية للضائرينالمساكين. على صعيد آخر، وبعد عامين، ينشر "المجنون" بطبعته في اللغة الإنكليزيةكما أنه ينشر قصيدة طويلة في العربية بعنوان "المواكب".
عام ۱٩۲۰، أسس جبرانما سُمي بالرابطة القلمية، مع مجموعة من الّكتّاب العرب في نيويورك، على سبيلالمثال أمين الريحاني وميخائيل نعيمة. الهدف من تأسيس هذه الرابطة كان لجمع الفكرالعربي المغترب والدعوة الى الحداثة والتطور. في عام ١٩۲٣، نشر جبران كتابه الشهير "النبي" الذي لاقى نجاحاً سريعاً للأسلوب السهل والبسيط الذي كُتب به. وفي هذاالعام، تنتقل ماري هاسكل الى مقاطعة أخرى وبالتالي تخرج من حياة جبران تاركة وراءهاصداقة عمر وتعاون فنّي. هناك، تتزوّج من قائد في الجيش الأميركي وتبدأ حياةجديدة.
وفي العام ١٩۲٨، ينشر جبران كتابه "يسوع إبن الإنسان". بعدها تتدهورصحته وبالرّغم من ذلك إستمر بشرب الكحول. وفي العام ١٩٣١، ينشر "آلهة الأرض"ز فيالعاشر من نيسان، توفيّ جبران في مستشفى نيويورك، وقد أعلنت صحيفة "نيويورك سان" فيصفحة الوفيات: (نبي قد مات). نُقل جثمانه الى لبنان وقد رافقه موكب غفير من بيروتالى بشري. في الأعوام اللاحقة وحتى يومنا هذا، آلاف من الزّوار يصعدوا الى جبل مارسركيس حيث يرقد جثمانه في ظل سلسلة جبال لبنان الغربية في أحضان واديالقديسين.
3- خصائص كتابات جبران
على الرّغم من كون جبران رسّاماً فيتفكيره وعقله، لكن كتاباته هي التي أعطته الشهرة العالمية. قصصه البسيطة والواضحةالى جانب قصائده النثرية كان لها تأثيرها العميق في الأدب العربي الحديث.
لميرَ النقّاد الغربيون جبران بعين الدهشة أو العظمة. هذا الإزدراء لا نراه في العالمالعربي، حيث يُعتبر جبران أحد روّاد الأدب العربي الحديث. قد نسأل لماذا فشل جبرانلفت أنظار النقّاد الغربيين، على الرّغم من تقبل القرّاء الشديد له؟ من المؤكد،لكتابات جبران حدود معينة.لا نجد قط أي أثر لروح الفكاهة أو السخرية في كتاباته أوحتى لوحاته. كل ما كتبه كتبه بجدية. بالطبع ليس الوحيد الذي تفتقر كتاباته الىالفكاهة، لكن هذه الصفة مميّزة في جبران.
لم يتّبع جبران النثر كثيراً، إذلم يكتب الكثير من الروايات. أما رواياته الطويلة فكانت قصصاً متداخلة الأحداثخالية من التعقيدات تتناول طفولته في لبنان. "يسوع إبن الإنسان"، أطول كتب جبران،عبارة عن رسوم من خلالها يظهر المسيح. من الواضح أن عبقرية جبران مهما عظمت فهي لاتشمل التشخيص الدقيق أو حتى السيناريوهات المعقدة.
هناك حدود في أسلوب جبرانفي كتاباته باللغة العربية أيضاً، لم يستخدم الأسلوب العربي التقليدي المعقّد، لذلكإنتقد في مناسبات عدة من قبل النقاد التقليديين. بالإجمال، لم يكتب أي قصيدةبالأسلوب الشعري المحافظ، إذ خرج عن هيكلية القصيدة العربية التقليدية التي إتّبعترويّاً واحداً وقافية وبحراً واحداً. إستعمل جبران الكلمات والمفردات السهلة وقدتأثّر أحياناً بالأسلوب الغربي في الكتابة. لم يتّبع جبران الأسلوب هذا لمجردإعجابه به، بل لأنّه لم يتعلم الطريقة القديمة. عاد من أميركا وهو في الثانية عشرةمن عمره، وبالتالي لم يمرّ بمرحلة تعلم مبادئ وأسس كتابة الشعر العربي.
مايميّز كتب جبران أنّه يُمكن إختصارها أو تجسيدها في لوحة واحدة مليئة بالمعانيوالعبر العميقة التي يضعها جبران بين سطوره أو بالأحرى خلف رسمته الوهمية. على سبيلالمثال، في قصيدته النثرية "في مدينة الأموات" من كتابه "دمعة وإبتسامة"، يتأمّلرجل من على تلة، مدينة مغطّاة بسحابة سوداء، وفي وسط هذا كله، جنازتان، واحدة لرجلغنيّ وأخرى لفقير. مثال آخر في قصيدته "أمام عرش الجمال" من الكتاب عينه، آلهة تظهرفي غابة. وفي قصيدته "الرؤية"، قفص وبداخله عصفور ميت من الجوع والعطش موجود في حقلعلى ضفاف نهر. هذه كلها أمثال تؤكد أولاً فكرة أن جبران يكتب كما لو أنّه يرسموثانياً فكرة أن قصائده ونثره عبارة عن لوحات ورسومات. لذلك تفتقر كتاباته الىالتعقيدات في الشخصيّات والأحداث، إذ يصعب تصويرها في إطار رسم.
4- جبران والمجتمع
أظن أنّ جبران لم يرّكز كثيراً على أسلوبه وذلك ليس لإفتقارهللذكاء أو الفطنة، بل على العكس، وطّن ذكاءه وفطنته لإيصال حكمه وآرائه. ومن هنايجوز التساؤل: ما الأفكار التي يبغي جبران إيصالها الى قرّائه؟ وما مدى أهميّة هذهالأفكار في حياة قرّائه.
لعلّ السبيل الأفضل لدراسة فلسفة جبران إذا صحّالكلام هو عن طريق دراسة جمهوره. إجمالاً، خاطب جبران المغترب العربي بشكل عاموالمغترب اللبناني والسوري بشكل خاص، وذلك عبر نشره لمقالات في الصحف والمجلات. إنطلق جبران من حياته الخاصة ليعبر الى حياة كل مغترب، إذ أحداث حياته لم تكنمختلفة عن حياتهم، فالكل قد عانى من مرارة الغربة والكل قد حنّ الى الوطن. وما يشيرالى أنّهم لم ينسوا تراثهم ووطنهم الأم وعاداتهم وتقاليدهم هو قراءتهم للصحفالعربية حتى ولو أنّهم غير مثقفين.
حصد جبران شعبيته، إذ لامس بقصصه وقصائدهالقارىء بشكل لم تلامسه القصص والقصائد العربيّة الكلاسيكيّة. موضوعات كتاباته التيتحدّثت عن الحب والجمال والمجتمع والحريّة وغيرها من الموضوعات قد حاكت القرّاءالفقراء ببساطة أسلوبه نفخت فيه الخلود ورفعته الى مستوى سام بعيد كل البعد عنالوقت والزمن لذلك ما زالت كتاباته تُقرأ وتعلل الى يومنا هذا، إذ يمكن تطبيقفلسفته وحكمه في كل الأزمنة.
من يقرأ أعمال جبران يلاحظ أنّ فلسفته ليستمعروضة بشكل واضح كباقي الفلاسفة، إذ على القارئ إستشفاف أفكار جبران الفلسفية. ولما يصل القارئ الى فهم وإستيعاب حكم جبران، تنطبع هذه الحكم في عقله وتضيء فيوجدانه منارة معرفة وتثير في باطن ضميره الإنسان بداخله. كلوحة، فالقصيدة الجبرانيةتحتوي على صورة موحية وثابتة تحثّنا على الإصغاء الى الكلمة الحق والمجرّدة. وبالتالي لا يجوز أن نتوقّع من جبران أخلاقيّات منطقيّة ولا لاهوت بشريّ ولا حتىأدوية لأدواء المجتمع، فبساطته الأدبية أسمى من أن تُوظّف في خدمة أهداف كهذه، بلوُظّفت لإظهار جبران النبي، جبران المُرشد، جبران المُلهم.
بالإجمال، لايُملي جبران ما علينا فعله، بل يطرح الأسئلة حول الإفتراضات التي عليها نُؤسّسحياتنا. ومن ثمّ يزرع الشكوك فينا لكي يقويّ إيماننا بأنفسنا ونعزّز معرفتنابذاتنا. كتاباته مكتوبة بأسلوب وكأنّها كُتبت خصّيصاً لنا. إقتصرت معظم أفكار جبرانحول محورين هما :
• شرائع المجتمع وسموّ الأم
• القريةوالمدينة
ه. شرائع المجتمع وسموّ الأم
١. جبران ومعاداتهللسلطة
من غرائز البشر غريزة العدوان، هي موجودة في صلب كيان الانسان. هذهالغريزة قد تأخذ أشكالاً متعددة، أما عند جبران خليل جبران فهي معاداة للسلطة. وما يؤكد هذه العدائية، تجسّدها في كتاباته وأدبه. ويمكن القول أنّ جبران جعلمعاداته للسلطة هدفاً يصل اليه من خلال أدبه.
للمجتمعات أحكام وقوانين تجعلمنها السلطة الشاملة التي تحكم البشر. هذه السلطة الإجتماعية تتخذ أشكالاً عدةومظاهر متعددة كالوالد ورجال الدين والأغنياء. جبران من الذين هاجموا من خلالكتاباتهم مظاهر السلطة كافّة وكانت المواضيع التي كتب عنها أكبر إثبات عن حقيقةوجوهر هذه المعاداة للسلطة.
عادى جبران سلطة الوالد في كتاباته وخاصة في "الأجنحة المتكسّرة" حيث يقول جبران: (إن أموال الأباء تكون في أكثر المواطن مجلبةلشقاء البنين. تلك الخزائن الواسعة التي يملأها نشاط الوالد وحرص الأم تنقلب حبوساًضيّقة مظلمة لنفوس الورثة). هكذا يصف جبران والد سلمى كرامه (ويصوره غبياً، واهنالإرادة، مستسلماً لمشيئة الأسقف الذي يرى أحكامه توحّدت وأحكام القدر، وإذ تسألهإبنته محطمة القلب، متأوهة (هل هذه هي إرادتك يا والدي؟ لا يجيبها بغير التنهداتالعميقة)).
لفهم الحقيقة الكامنة وراء معاداة جبران لسلطة الوالد، عليناالتعمّق في طبيعة علاقته مع والده خليل جبران. كما ورد سابقاً، فعلاقة جبران بأبيهلم تكن علاقة سليمة فحواها إحترام متبادل أو عاطفة أبويّة أو حتى شعور بوجود الآخر،وقد أثّر ذلك على صورة الأب داخل تفكير جبران. لمّا بلغ جبران عامه الثامن، إتّهموالده بالتهرّب من دفع الضرائب وأدخل السجن وصودرت أملاك العائلة. ولمّا قررتالعائلة الهجرة الى الولايات المتحدة الأميركية، خرج خليل جبران من السجن ولكن كونهربّ عائلة غير مسؤول بقي في لبنان وترك زوجته وأولاده يرحلون الى بلاد غريبة. فهذهالقساوة لا بد أن تكون قد تركت أثرها في جبران الطفل البريء. ولمّا أنهى جبراندراسته، وأراد أن يحصل على شهادات أعلى، ساءت علاقته بوالده أكثر، فإنتقل للعيش معقريبه حياة فقيرة ومخجلة. وبالتالي، نرى مدى تأثّر جبران بأفعال والده الطائشة، فلميكن المثل والقدوة التي قد تحثّ جبران الى الإقتداء بها.
عادى جبران سلطةرجال الدين (فسلطانهم في الشرق يكاد يكون مستعرقاً إستعراق التاريخ. وليس حدثاًمألوفاً أن يعصاهم امرؤ خاصة في الأوساط المسيحيّة.) هذه المعاداة بانت جلياً في "الأجنحة المتكسّرة" حيث يقول جبران: (وهكذا يصبح الأسقف المسيحي والإمام المسلموالكاهن البرهمي كأفاعي البحر التي تقبض على الفريسة بمقابض كثيرة وتمتص دماءهابأفواه عديدة) ويدعوهم الى الكفّ عن النفاق والإدّعاء بالتقوى وإلتزام القيموالمبادىء.
منذ صغره وجبران يلاحظ تحكّم رجال الدين بأمور مجتمعه وبأمورالعائلات الخاصة ومن الملاحظ رفضه لهذا الواقع وذلك عبر وصفه لرجال الدين. جبرانليس ملحداً، لكنه لا يوافق على ما يقوم به رجال الدين فهو يعتبر أنّ رسالتهم أسمىمن أن يستغلوا سلطاتهم. لذلك صودرت كتبه من الأسواق في العديد من الدول العربيّةكسوريا على سبيل المثال.
عادى جبران اللأغنياء بشكل عنيف إذ (تلقّوا منسهام عدائية العدد الأوفر سواء أكانوا حكّاماً سياسيّين أم أثرياء عاديّين. (ففي "الأجنحة المتكسّرة" يصّب جبران جامّ تحقيره على منصور بك غالب، فيجعله (ماديّاًكالتراب وقاسيّاً كالفولاذ وطامعاً كالمقبرة...) تحتشد في نفسه وتتنازع (عناصرالمفاسد والمكاره مثلما تنقلب العقارب والأفاعي على جوانب الكهوف والمستنقعات.) كمايجعل، إزاءه، سلمى كرامه سامية الأخلاق روحانيّة الميول، حتى أنّ من يزوّجها بهيكون قد قيّد (سلاسل التكهين والتعزيم جسداً طاهراً بجيفة منتنه، جامعاً في قبضةالشريعة الفاسدة روحاً سماويّة بذات ترابية.) وفي "دمعة وإبتسامة"، يقيم جبرانمقابلات تتناول الغني والفقير في عدة مواقف، مستهدفة تحقير الأول وتمجيد الثاني: يولد إبن الأمير فتهتف الجموع وتهزج لولادته، غير دارين أنّه سيصبح حاكماً مطلقاًبرقابهم، ويولد في السكينة، إبن الأرملة الفقيرة التي أمات رفيقها الضعيف تعسّفالأمير المتسلّط، (بينما سكان المدينة يمجّدون القويّ ويحتقرون ذواتهم، ويتغنّونبإسم المستبدّ، والملائكة تبكي على صغرهم.)
هذا الإزدراء والتحقير نتيجةواقع جبران المادي. من البديهي أن يشعر أي إنسان فقير بالكراهية تجاه الغنيّ إذيعتبره المسبّب في كونه فقيراً. فجبران لدى سفره الى الولايات المتحدة وُضع فيمدرسة وبالتحديد في صف للاجئين الفقراء والمرتزقة.
۲. سموالام
(يتبارى أهل الكرم في مجال العطاء، ويتفوّق بعضهم، فيبلغ شأواً لايدانيه فيه أحد، ويغدو مثالاً سامياً، تُضرب به الأمثال، وتتناقل إسمه الأجيال... بيد أنّ ذلك الكريم، لن بيلغ عطاؤه وهو في ذروته، بعض ما تجود به الأم من عطاء!) هذه حالة كميلة رحمه التي سخت بقلبها وفكرها، وبراحتها وعافيتها من أجل أطفالها... جاعت ليشبعوا وظمأت ليرتوا، وتألمت ليسعدوا، وسهرت ليناموا... كانت في البيت نوريتكوكب ثريات أين منها سائر الثريّات المرصّعة بأغلى الجواهر! وقد ظهرت الأمومة فيكتابات جبران عبر مراحل إنتاجه جميعها. (ففي "دمعة وإبتسامة" لوحة أدبية لأرملةفقيرة جالسة تستدفئ من البرد القارص، وهي تنسج الصوف رداء لإبنها، (وبقربها وحيدهاينظر تارة الى أشعة النار وطوراً الى وجه أمّه الهادئ.)) وفي "الأجنحة المتكسّرة" يستوقفنا مشهد الوالد المنازع ينتشل من بين المساند صورة أم سلمى الميتة ليريهاإبنته، فتكبّ عليها تقبيلاً صارخة: (يا أماه، يا أماه، يا أماه!) وكأنّما تتّحد أمسلمى بأمه الميتة، ويتّحد هو بسلمى، فتندفق نفسه نشيداً لأمه ولا أرقّ. (أنّ أعذبما تحدثه الشفاه البشريّة هو لفظة (الأم)، وأجمل مناداة هي (يا أمّي) كلمة صغيرةكبيرة مملوءة بالأمل والحبّ والإنعطاف وكل ما في القلب البشريّ من الرقّة والحلاوةوالعذوبة. الأم هي كل شىء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس،والقوّة في الضعف، هي ينبوع الحنوّ والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقدصدراً يسند اليه رأسه ويداً تباركه وعيناً تحرسه.)
لم تتجسّد الأمومة لدىكتابات جبران أو حتّى حياته في الأم فقط. النساء اللواتي قابلهن جبران لعبن أدواراًأخرى غير الحبيبات، فكنّ ملاذاً يهتدي اليه جبران، وبالتالي إعتنين به كأمه بالضبط. أبرز مثال على ذلك ماري هاسكل التي حثّته على المضيّ قدماً، وساعدته لمّا إحتاج الىالعون، وإهتمت به كالأم التي ترعى طفلها. إتّخذت الأمومة مظهراً آخر هو الطبيعة. فالأخيرة كانت بمثابة الملجأ الذي يهتدي اليه جبران للتأمل والتركيز وقد دفعتهللسير قدماً، بالإضافة الى كونها ملهمته في أدبه وفنّه. هذا التأثير الشديد قدإنطبع في كتاباته، ففي "دمعة وإبتسامة" يقول: (أنا إبنة العناصر التي حبل بهاالشتاء وتمخّض بها الربيع وربّاها الصيف ونوّمها الخريف.) أما في "الأجنحةالمتكسّرة" يقول: (كل شيء في الطبيعة يرمز ويتكلم عن الأمومة، فالشمس هي أم هذهالأرض تُرضعها حرارتها وتحتضنها بنورها ولا تغادرها إلا عند المساء إلا بعد أنتنوّمها على نغمة أمواج البحر وترنيمة العصافير والسواقي، وهذه الأرض هي أم للأشجاروالأزهار تلدها وتُرضعها ثم تُفطمها. والأشجار والأزهار تصير بدورها أمّهات حنوناتللأثمار الشهيّة والبزور الحّية.) (وطبيعيّ أن تكون بشري، مسقط رأسه، وأول إنبساطأرض أمام ناظريه، حميمة الصلة بطفولته، فيتشوّق اليها ( تشوّق الرضيع الى ذراعيّأمه.))
6. القرية والمدينة
محور القرية والمدينة من أكثر المحاورالتي عولجت من قبل الأدباء، حيث أقاموا مقابلة بين البيئتين، إذ غالباً ما أعطواالقرية والطبيعة صفات سامية وحسنة وبالمقابل أعطوا المدينة والساحل سمات دوليةوحقيرة. جبران من جهّته أيضاً أرفق الطبيعة بالخير والجمال والحياة، والمدينةبالشرّ والبؤس والموت.
(الطبيعة بالنسبة الى الإنسان خير مدرسة. نتعلّم فيأحضانها كيف يكون الكمال الإنسانيّ بما تقدّمه لنا من أمثولات يقصّر المجتمع عنها. فمن الشجرة نتعلّم العطاء بلا منّة، ومن الزّهرة الجمال والتواضع، ومن القممالوقار، ومن جذور الأشجار الرسوخ في الخير، ومن النسيم شمول المحبة، ومن البحاررحابة الصدر والتسامح.) هذا ينطبق تماماً على فلسفة جبران التي تعتبر الطبيعة أمالجميع وبما أن الأم مدرسة الإنسان طفلاً كان أم عجوز، يجوز القول أن الطبيعة خيرمدرسة.
إن الطبيعة بكل أشكالها منصهرة وخواطر جبران الخياليّة الإبداعيّة،فهي تبرز كلما سنحت الفرصة في جميع كتاباته، وخاصة "دمعة وإبتسامة" و"الأجنحةالمتكسّرة". كون كتابه "دمعة وإبتسامة" بجوهره مجموعة مقابلات بين موضوعات مختلفة،فمن البديهي أن نجد نصاً يمثّل مقارنة بين القرية والمدينة. (مناخه في الحقل نصيجسّد واقع جمال الطبيعة وقبح المدينة، حيث يقول جبران: (عند الفجر قبل بزوغ الشمسمن وراء الشفق جلست في وسط الحقل أناجي الطبيعة. في تلك الساعة المملؤة طهراًوجمالاً بينما كان الإنسان مستتراً حليّ لحف الكرى تنتابه الأحلام تارة واليقظةأخرى كنت متوسّداً الأعشاب أستفسر كل ماأرى عن حقيقة الجمال وأستحكي ما يرى عنجمال الحقيقة.) وبالمقابل يرد عليه النسيم: (ذاهب نحو المدينة مدحوراً من حرارةالشمس. الى المدينة حيث تتعلّق بأذيالي النقيّة مكروبات الأمراض ووتتشبّث بي أنفاسالبشر السامة. من أجل ذلك تراني حزيناً.) وتجاوبه الأزهار: (الإنسان سوف يأتي ويقطعأعناقنا ويذهب بنا نحو المدينة ويبيعنا كالعبيد ونحن حرائر، وإذا ما جاء المساءوذبلنا رمى بنا الى الأقذار، كيف لا نبكي ويد الإنسان القاسية سوف تفصلنا عن وطنناالحقل؟) ويقول له الجدول: (سائر كرهاً الى المدينة حيث يحتقرني الإنسان ويستعيض عنيبعصير الكرمة ويستخدمني لحمل أدرانه. كيف لا أنوح وعن قريب تصبح نقاوتي وزراًوطهارتي قذرا؟) أما العصفور فقال: (سوف يأتي إبن آدم حاملاً آلة جهنّميّة تفتك بنافتك المنجل بالزرع، فنحن نودع بعضنا بعضاً لأنّنا لا ندري من منّا يتملّص من القدرالمحتوم. كيف لا نندب والموت يتبعنا أينما سرنا؟) هناك أمثال أخرى تبين مدى تأثرجبران بالطبيعة. ففي "مدينة الأموات"، يقول: (تملّصت بالأمس من غوغاء المدينة وخرجتأمشي في الحقول الساكنة حتى بلغت أكمة عالية ألبستها الطبيعة أجمل حلاها، فوقفت وقدبانت المدينة بكلّ ما فيها من البنايات الشاهقة والقصور الفخمة تحت غيمة كثيفة مندخان المعامل.) أما من جهّة أخرى، فكتابه "الأجنحة المتكسّرة" يحتوي على العديد منالصور الوصفية، إذ يصف جبران ممراً تظلله أشجار الصفصاف، وتتمايل على جانبيهالأعشاب والدوالي المتعرّشة، وأزهار نيسان المبتسمة بثغور حمراء كالياقوت، وزرقاءكالزمرّد، وصفراء كالذهب.) لاحقاً، يحاول وصف سلمى فيقول: (هل يستطيع الجالس في ظلأجنحة الموت أن يستحضر تغريدة البلبل وهمس الوردة، وتنهيدة الغدير؟ أيقدر الأسيرالمثقل بالقيود أن يلاحق هبوب نسمات الضجر؟) إن الطبيعة بقصولها الأربعة مثّلتلجبران حياة الإنسان حيث يكتب: (وفي الربيع سأمشي والحب جنباً لجنب، مترنمين بينالحقول والمنحدرات متنبعين آثار أقدام الحياة المخططة بالبنفسج والأقحوان، شاربينبقايا الأمطار بكؤوس النرجس والزنبق. وفي الصيف سأتّكئ والحب ساندين رأسينا الىأغمار القش مفترشين الأعشاب، ملتحفين السماء، ساهرين مع القمر والنجوم. وفي الخريفسأذهب والحبيب الى الكروم، فنجلس بقرب المعاصر ناظرين الى الأشجار، وهي تخلعأثوابها المذهّبة، متأملين بأسراب الطيور الراحلة الى الساحل. وفي الشتاء سأجلسوالحب بقرب الموقد تاليين حكايات الأجيال، مردّدين أخبار الأمموالشعوب.)
بإختصار، كلّما أراد جبران المدح والمجاملة أو التعبير عن حبهوسعادته إستعان بالطبيعة بما فيها من عناصر الجمال والطهارة، وبالمقابل كلّما أرادالذم والتحقير أو الكشف عمّا يختلج فؤاده من غضب وإضطراب، إستخدم المدينة وأوساخهاأداة لشنّ هجومه العنيف على الشرّ والبؤس وفي بعض الأحيان على المدينة بذاتها. والإنزعاج والضياع الذي يعيشه جبران في حياته.
7- خاتمة
نستخلصممّا سلف ذكره أنّ حياة جبران خليل جبران قد تركت تأثيراً عميقاً في كتاباته. كلّمن والدته ووالده وحتّى الطبيعة التي ترعرع فيها تركوا في فنّه وأدبه أثراً قد تمّدراسته في هذه المقالة المطولة. فقد ظهر هذا التأثير واضحاً وجليّاً خاصة في كتابيه "دمعة وإبتسامة" و"الأجنحة المتكسّرة".
ساهم في إعطاء كتاباته مكانتهاالأدبية العالمية العمق والسموّ الذي قلّما تميز به كاتب. كما أنّ طبيعته الفنّانةوالخلاقة جعلت من الكلمات صوراً وخيالات تتراقص مع المعاني والمضامين على مسرحالابداع والخلق، وما لبثت كتاباته أن قادته الى درجة النبوّة وجعلته فريداًومميّزاً بين أترابه.
لم يترك أي مجال في الحياة من موضوع الأمومة الىموضوع السلطة الى موضوع الطبيعة، إلا وتناول بمقالة أو قصة أو رواية تجسيداًوإيحاء. فكلمة من كلماته حملت ألف معنى ومعنى. أسلوبه يُطرب السامع ويُغزق القارئببحر من الخيالات والأحاسيس ولا يتركه إلا وهو في ذهول وإنخطاف.
جبران خليلجبران فخر الأرز ووادي القديسين، فخر لبنان من شماله الى جنوبه ومن بقاعه الىساحله، وفخر اللبنانيّين والعرب جميعاّ. جبران نابغة أدبية وفنّية عرفها العالمبأكمله، حيث عُرضت لوحاته في أبرز المعارض العالمية وحققت كتاباته نجاحاّ ساحقاّعلى مرّ الأعوام.
نبيّ وقف بجانب الضعيف والمغبون والفقير وهاجم القويّوالمستبد والغنيّ. هذا جبران الذي رفض الحكم العثماني وخاطب ضمائر البشر وحثّهم علىإتّباع الطريق المستقيم والصائب. كان بكتبه الملجأ لكل إنسان يتوق الى غذائه الروحيوالأخلاقي والجوهري، فقد لامس أدبه عقول طبقات المجتمع كافة، إذ لم يحصر أفكارهوفلسفته لتناسب فئة معيّنة من البشر.
أخيراً وليس آخراً، أود الإعتذار منروح جبران خليل جبران التي تسكن داخل أفئدة اللبنانيّين. مَن أنا لأحلّل ما مرّ بهجبران؟ مَن أنا لأدرس ما يدور داخل عقل نابغة؟ ومن هذا المنطلق أسأل نفسي: أسيأتيجبران آخر؟ مَن سيخلف جبران؟ أسئلة يصعب الإجابة عنها وهي رهن الزمان والعصورالمقبلة.
سؤال اليوم عن جبران خليل جبران ،،،، وعلاقته بمي زيادة ،،، هل كانت هذه العلاقة ظاهرة لعشق الأقلام ،،، أم عشق الأرواح ،،، أم مجرد تبادل للنقد والإعجاب بين رجل وامرأة شرقيين ؟ ابد رأيك بعلاقة الحب عبر السطور ؟؟!!
سؤال اليوم عن جبران خليل جبران ،،،، وعلاقته بمي زيادة ،،، هل كانت هذه العلاقة ظاهرة لعشق الأقلام ،،، أم عشق الأرواح ،،، أم مجرد تبادل للنقد والإعجاب بين رجل وامرأة شرقيين ؟ ابد رأيك بعلاقة الحب عبر السطور ؟؟!!
على أجنحة متكسرة انسابت مفردات الإعجاب لتنسج أروع وأجمل قصة حب رومانسية بين "مي زيادة" وجبران خليل جبران.
ثلاثة وعشرون عاماً بقي الحب مخبأ في العيون وفي قلبيّ العاشقين وبين سطور الرسائل التي حملتها طيور الدوري عبر أشجار الأرز والسرو وبين الوديان لتوصلها من عاشق لآخر. كان جبران يسأل مي عن رنة التوجع في كلماتها الجميلة... كيف لا وهي تعيش لوعة الحب الممنوع آنذاك وعندما اعترفت كان ذلك على الورق قائلة: ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب واستدركت في لحظتها وقالت: كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ الحمد لله أنني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به ولو كنت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً... نعم هذا الخجل الجبلي الجميل الذي يعطي لحب "مي" قدسية ويضعه في محراب يصلي به العاشقان في مدى الأزمنة.
ولعل هذا التواصل الروحي هو الذي أوحى لجبران بذلك الحلم الذي رسم فيه معالم النهاية بتراجيدية لحياة حبيبته مي زيادة عندما كتب لها "مي.. يا ماري.. يا صديقتي استيقظت من حلم غريب، ولقد سمعتك تقولين لي في الحلم كلمات حلوة ولكن بلهجة موجعة، والأمر الذي يزعجني ويزعجني جداً، هو أنني رأيت في جبهتك جرحاً صغيراً يقطر دماً".
وبعد عشرين عاماً تتحقق نبوءة جبران... أي نفحة روحية تلك التي تجعل الحبيب قادراً على مشاهدة مصير الحبيبة، وأي شعلة حملت نبأ هذا الحب الأسطوري وطارت به في الأفق بعيداً، لا شك أنها "الشعلة الزرقاء"، الكتاب الذي تحدث لأول مرة عن تلك القصة الملحمية وحمل رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران لتسمو بلغة الأدب العربي وتسمو بلغة الحب الإنساني العميق، وفيما يلي الرسائل بتواريخها ودون تدخل منا، ننشرها كما هي موضحين للقارىء كيف ومتى نشأ هذا الحب ولماذا لم يلتق المحبان :
-جبران ما معنى هذا الذي أكتبه؟؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب... أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير، الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير.
كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط فيه؟؟ لا أدري، الحمد لله أنني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به، لأنك لو كنت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلاّ بعد أن تنسى.
مي زيادة
بتاريخ
1924/1/15-يا ماري...كنت في السادس من هذا الشهر أفكر فيك كل دقيقة بل كل لحظة، وكنت أترجم كل ما يقوله لي القوم إلى لغة ماري وجبران... وأنت تعلمين طبعاً أن كل يوم من أيام السنة هو يوم مولد كل واحد منا.
إن "الامريكيين" أرغب شعوب الأرض في إرسال الهدايا والحصول عليها، ولسر خفي عني يعطف "الأميركيون" عليّ، وفي السادس من هذا الشهر أوقعني عطفهم في عرفان الجميل، ولكن يعلم الله أن الكلمة الحلوة التي جاءتني منك كانت أحب لدي وأثمن عندي من كل ما يستطيع الناس جميعهم أن يفعلوا أمامي، الله يعلم ذلك وقلبك يعلم.
ولقد هيأ لي اننا جلسنا أنا وأنت، بعيدين إلاّ عما بنا وتحدثنا طويلاً، وقلنا ما لا يقوله سوى الحنين، وقلنا ما لا يقوله سوى الأمل، ثم حدقنا بنجم بعيد وسكتنا، ثم عدنا إلى الكلام فتحدثنا حتى الفجر.
والله يرعاك ويحرسك يا مريم، والله يسكب أنواره عليك، والله يحفظك لمحبك.
جبران خليل جبران
بتاريخ 12كانون الثاني عام
1925هذا الكلام الرقيق صادر عن اثنين من أهم كتّاب العربية في النصف الأول من هذا القرن. المرأة التي كتبت تعلن خوفها من الحب، الكاتبة الرومانطيقية البائسة التي كانت من أوائل طالبات جامعة القاهرة والتي كان عذابها كبيراً، حيث قضت آخر سنّي عمرها في مصح عقلي في لبنان، هذه المرأة فتنت آنذاك أهم رجالات الأدب والثقافة في عاصمة الشرق -القاهرة- بدءاً من لطفي السيد وانتهاءً بِ طه حسين، مروراً بالعقاد وبآخرين أقل شهرة.
أما الرجل، فهو جبران خليل جبران الشاعر الرومانطيقي الأكثر شهرة بين أبناء جيله، والرسام والناثر، والثائر والمجدد...الذي طبقت شهرته الآفاق، والذي استطاع بتجديده في النثر العربي والشعر أن يغطي بظله معظم شعراء المهجر في عشرينات هذا القرن، ويكفي أن نقول أن كتابه "النبي" الذي كتبه بالانجليزية ما زال حتى الآن من أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة الأميركية.
@ الأجنحة المتكسرة والرسالة الأولى..!
بدأت مراسلاتهما بعد صدور كتاب جبران "الأجنحة المتكسرة" عام 1914، تلك القصة الرومانسية التي جعلت شهرة جبران مدوية، آنذاك كتبت له ميّ تبدي إعجابها بقصته وتعلن سخطها على التقاليد البالية التي تلف المرأة بحجابها الثقيل، ولم تنته الرسائل إلاّ بوفاة جبران عام 1931، كان جبران طوال سنوات مراسلاتهما يمد "مي" بكتبه وآرائه في الحياة والفن، وبلغت بهما العلاقة عبر الرسائل إلى درجة جعلت جبران يُؤثر "مي" بكل ما يحبه، وعندما أنهى ديوانه "المواكب" عام 1919أرسل أول نسخة وصلته لميّ:
ميّ... إنني باعث إليك بأول نسخة بلغت يدي من كتاب "المواكب" الذي صدر اليوم، وهو كما تجدينه حلم لم يزل نصفه ضباباَ والنصف الآخر يكاد يكون جسماً محسوساً، فإن استحسنت فيه شيئاً تحول هذا إلى حقيقة حسنة، وإن لم تستحسني شيئاً عاد إلى الضباب بجملته.
فما الذي يجعل رجلاً مثل جبران يكتب كلاماً مثل هذا؟؟ وهل كان بينهما حب فعلاً؟؟ ولماذا لم تشتهر قصة حبهما، كما اشتهرت قصة علاقة جبران بماري هاسكل...؟؟
@ ما أجمل رسائلك
لا نستطيع أن نقول أن ما كان بين جبران ومي حباً، ولكننا في الوقت نفسه نستطيع أن نزعم بأنه حب من نوع خاص.
لم يلتق جبران بميّ، كانت هي في القاهرة وهو في نيويورك، قال أكثر من مرة بأنه سيذهب إلى القاهرة ولكنه لم يفعل، وذهبت هي أكثر من مرة إلى اوروبا غير أنهما لم يلتقيا، وكان عدم اللقاء فيما يبدو متعمداً من كلا الطرفين، لذلك فإن ما كان بينهما كان حباً من نوع خاص، حباً ينتمي إلى أجواء جبران الدينية الصوفية، حباً لا يتحقق بالوصل، بل إنه الحب لذاته، وهذا يشبه حب العذريين العرب في عصر الدولة الأموية، إنه حب على الورق، عبر إنشاء رسائل يبثها كل واحد منهما للآخر كأنما يحادث نفسه.
ولم تشتهر رسائل مي وجبران بسبب طبيعة ميّ المضطربة والبائسة، وكان الاستمتاع بقراءة رسائل ميّ من قبل جبران هو الحب بعينه، فبسبب طبيعة جبران الروحية المتعالية كانت الرسائل هي الوسيلة الوحيدة للوصال، واعتقد أن جبران لو التقى بميّ لانتهت بينهما الرسائل، لقد كتب يقول:
"ما أجمل رسائلك يا ميّ وما أشهاها...فهي كنز من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنماً في وادي أحلامي...إن يوماً يجيئني منك برسالة واحدة لهو من الأيام بمقام القمة من الجبل".
إن من يكتب كلاماً مثل هذا لينجذب نحو الرسائل التي تحمل روح الشخص، إنه لا يلتفت إلى الجسد في الشخص وإنما إلى روحه، من هنا كان كلام جبران:
"أنا أتوق إلى العظيم والنبيل والجميل والنقي، وأنا غريب مستوحد مثل بعض الرجال المستوحدين المستوحشين رغم سبعون ألف صديقة وصديق، وأنا مثل بعض الرجال لا أميل إلى البهلوانيات الجنسية المعروفة عند الناس بأسماء حسنة ونعوت أحسن".
وذلك لأنه ليس "ممن يلمسون الأشياء المقدسة قبل أن يغسلوا أصابعهم بالنار".
وفي رسالة أخرى يكشف جبران كل هذا الحب القائم على الرسائل فقط:
"رجعت فوجدت رسالتك، وجدتها فوق رابية من الرسائل، وأنت تعلمين أن جميع الرسائل تضمحل من أمام عيني عندما أتناول رسالة من صغيرتي المحبوبة، فجلست وقرأتها مستدفئاً بها، ثم أبدلت أثوابي، ثم قرأتها ثانية ثم ثالثة، ثم قرأتها ولم أقرأ شيئاً سواها، وأنا يا مريم لا أمزج الشراب القدسي بعصير آخر... وأنت معي في هذه الساعة، أنت معي يا ميّ، أنت هنا... هنا... وأنا أحدثك ولكن بأكثر من هذه الكلمات أحدث قلبك الكبير بلغة أكبر من هذه اللغة، وأنا أعلم أنك تسمعين...
@ سوف أصلي لأجلك
إن الرباط الروحي بين جبران وميّ هو المهم، وهو الحب الحقيقي بينهما، إنه الحب الذي لا تحركه الدوافع الحسية، بل يحافظ عليه الرباط الروحي بين الروحين التائهين المستوحدين، لكل من جبران وميّ، الرباط الذي لا يجعل منا "كلنا وحيد منفرد... كلنا سر خفي".
كما في الرسالة التي بعثها جبران إلى ميّ في أيار 1922، وهو الرباط الذي جعل جبران يتحدث لميّ كما لو لنفسه، فهذه صورة لمنحوتة يونانية - إغريقية، وهذه لوحة لمايكل أنجلو، يقول ذلك لميّ كما لو يحدث نفسه.
على أنه لا يفهم أن علاقتهما كانت دوماً على خير ما يرام لقد فترت العلاقة بينهما كثيراً في أحيان معينة وسادها التوتر أحياناً، التوتر الخلاق بين كاتبين كبيرين، ولكن رغم الفتور بينهما أحياناً إلاّ أن جبران كان يشعر بأنها علاقة خلاقة وصحية.
"لقد سلبتني راحة قلبي، ولولا تصلبي وعنادي لسلبتني إيماني، من الغريب أن يكون أحب الناس إلينا أقدرهم على تشويش حياتنا".
@ الحلم المزعج...؟!
لقد ظلت علاقة جبران بميّ سراً لا يعلمه أحد، حتى توفي جبران عام 1931، عندها اعترفت ميّ في إحدى مقالاتها بوجود مراسلات بينها وبين جبران، وقد نشرت هذه الرسائل عام 1937في كتاب بعنوان "الشعلة الزرقاء" وبعد ذلك بدأت مشاكل ميّ تزداد حدة، لقد أصبحت عرضة للانهيارات العصبية المتتالية، إلى أن توفيت في العام 1941، ومما يحير في أمر علاقتهما تلك الرسالة التي بعثها جبران لها، وفيها يخبرها بأمر حلم أزعجه يتعلق بمصير ميّ، وكان ذلك في رسالة مؤرخة ب 30أيار 1921يقول في رسالته:
"ميّ... يا ماري، يا صديقتي... استيقظت الساعة من حلم غريب، ولقد سمعتك تقولين لي في الحلم كلمات حلوة ولكن بلهجة موجعة، والأمر الذي يزعجني في هذا الحلم ويزعجني جداً، هو أنني رأيت في جبهتك جرحاً صغيراً يقطر دماً... لا أذكر أنني حلمت في ماضيّ حلماً أوضح من هذا الحلم، لذلك أراني مشوشاً مضطرباً مشغول البال في هذا الصباح.
ماذا تعني رنة التوجع في كلماتك الجميلة...؟؟ وما معنى الجرح في جبهتك؟ وأي بشر يستطيع أن يخبرني مفاد انقباضي وكآبتي؟! سوف أصرف نهاري مصلياً في قلبي... سوف أصلي لأجلك في سكينة قلبي وسوف أصلي لأجلنا...".
ألا يشكل هذا الحلم الذي أحزن جبران مصير ميّ فيما بعد، النزيف المتواصل والألم الذي بلا حدود والوحدة القاتلة التي أوصلتها إلى مصح للأمراض العقلية، هل كان الرباط الروحي بين جبران و ميّ من القوة بمكان بحيث يستطيع جبران في العام 1921أن يتنبأ عبر حلم بمصير ميّ؟؟!!
إنه من المتعذر الإجابة بشكل قاطع عن هذه التساؤلات، ولكننا نعتقد أن علاقة غريبة من هذا النوع ليس ببعيد عنها أي تفسير أو تأويل.ن