(1864-1913) السياسي والأديب، وقنصل الدولة العثمانية في مدينة بوردو الفرنسية، وعضو مجلس المبعوثان العثمانيّ، ومن أبرز أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني.
هو روحي بن ياسين أفندي بن محمد علي الخالدي. وُلِد في القدس في محلة باب السلسلة، حيث تجمُّع منازل آل الخالدي. واشتهرت هذه العائلة بالعلم والخدمة في المحاكم الشرعية في القدس وخارجها لعدة قرون. في القدس التحق بالكتاتيب ومدارس الحكومة الابتدائية. وحين تولّى مدحت باشا ولاية سوريا سنة 1295ھ/1878م عُيّن والده قاضياً شرعياً في مدينة نابلس فالتحق هو بالمكتب الرشدي فيها. ثم التحق في طرابلس الشام بالمدرسة الوطنية التي أنشأها الشيخ حسين الجسر. وفي سنة 1297ھ/1880م سافر مع عمّه عبد الرحمن نافذ أفندي الخالدي إلى الأستانة، وهناك قابل شيخ الإسلام عرياني زاده أحمد أسعد أفندي، الذي شجّعه على العلم فأنعم عليه برتبة (رؤوس بروسه)، وهو لا يزال تلميذاً في السادسة عشرة من عمره.
دراسته العالية:
عاد روحي إلى القدس بعد رحلة قصيرة إلى الأستانة، وحضر الدروس في المسجد الأقصى، وتردّد على مدرسة (الأليانس) ومدرسة الرهبان البيض، (الصلاحية)، ليتقن اللغة الفرنسية.ثم التحق بالمدرسة السلطانية في بيروت، وظلّ فيها إلى حين انحلال المدرسة، فعاد إلى القدس وواصل حضور حلقات الدرس في المسجد الأقصى. وعُيّن في ذلك الوقت موظفاً في دوائر العدلية لكنّه كان يطمح إلى مواصلة دراسته. وحاول والداه منعه من السفر والاغتراب, فعُيّن رئيساً لكتّاب محكمة بداية غزة، إلا أنّه رفض الوظيفة والتحق بالمكتب الملكيّ السلطاني في الأستانة سنة 1305ھ/1887م. وأمضى في ذلك المعهد للعلوم السياسية والإدارة ست سنوات، حاز في نهايتها، سنة 1893، على شهادة التخرج. وبعد تخرجه عاد إلى القدس، حيث عُيّن معلماً في مكتبها الإعدادي لكنّه رأى أنّه أجدر بوظيفة أعلى فعاد إلى الأستانة، ومنها سافر إلى باريس، ثم عاد ثانية إلى العاصمة العثمانية، وأخذ يتردّد فيها على مجلس الشيخ جمال الدين الأفغاني. واشتدّت مراقبة الجواسيس الذين كانوا يحضرون مجلس الشيخ الأفغاني، ففرّ إلى باريس والتحق بجامعة السوربون، ودرس فيها فلسفة العلوم الإسلامية والآداب الشرقية. وفي السوربون تعرّف إلى كبار المستشرقين. ثم عُيّن مدرّساً في جمعية نشر اللغات الأجنبية في باريس، ودُعِي إلى الاشتراك في مؤتمرات المستشرقين وإلقاء المحاضرات في اجتماعاتهم.
وعاد إلى الأستانة، وصدرت الإرادة السنيّة في 8 جمادي الآخرة سنة 1316ھ/24 تشرين الأول (أكتوبر) 1898م بتعيينه قنصلاً عاماً في مدينة بوردو الفرنسية وتوابعها. وقد نجح في عمله هناك، وذاع صيته حتى انتخب رئيساً لجمعية القناصل في تلك المدينة، وكانت الجمعية تضمّ ستة وأربعين قنصلاً. فكان ينوب عنهم في الاحتفالات التي يتعذّر وجودهم فيها جميعاً، ويستقبل رئيس الجمهورية وكبار الوزراء والعلماء عند مرورهم في بوردو. وبقِيَ قنصلاً عاماً نحو عشرة أعوام، إلى حين إعلان الدستور سنة 1908، وكان خلالها ينشر أبحاثه ودراساته في الصحف العربية، ويكتفي بتوقيع (المقدسي)، أو بنشرها من دون توقيع، خوفاً من ردة فعل السلطات العثمانية الحميدية.
عضوية البرلمان:
عقب إعلان الدستور في تموز (يوليو) 1908، رجع إلى القدس فانتخبه أهلها نائباً عنهم في مجلس النواب العثماني (المبعوثان) في تشرين الثاني (نوفمبر) 1908.
وكتب مراسل جريدة (المؤيد) في القدس، الشيخ علي الريماوي، بتاريخ 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1908 ما يلي: (نال أكثرية الأصوات عندنا في انتخابات مجلس المبعوثان، ثلاثة متفق على أنهم أفضل الموجودين، وهم أصحاب السعادة والعزة: روحي أفندي الخالدي، قنصل الدولة الجنرال في بوردو، وسعيد أفندي الحسيني، رئيس بلدية القدس السابق، وحافظ بك السعيد، من أعيان يافا).
وكتب جرجي زيدان مقالة بعنوان (نوابنا في مجلس المبعوثان) نشرها في مجلة (الهلال) في الأول من كانون الأول (ديسمبر) 1908 ذكر فيها روحي الخالدي فقال: (وقد عرفنا أيضاً من نوابنا أرباب القلم في مجلس المبعوثان صديقنا روحي بك الخالدي صاحب مقالة (الانقلاب العثماني) في هذا (الهلال). ويكفي الاطّلاع عليها لمعرفة سعة علمه في أحوال الدولة ودخائل سياستها. وقد عرفه القراء من قبْل باسم (المقدسي) وكذلك سمّى نفسه في كتابه (تاريخ علم الأدب)، الذي نُشِر على حدة، غير مقالاته العديدة في المواضيع المختلفة. وكلّها أبحاث جليلة تدلّ على علمٍ واسعٍ ونظَرٍ صحيح مع إخلاصٍ في البحث. وكان القراء قبل أنْ يعرفوا اسمه يعجبون بعلمه وفضله ويسألوننا عن حقيقة اسمه، ولم يكنْ يأذن لنا بإذاعة ذلك لأنّه كان قنصلاً جنرالاً للدولة العلية في بوردو في فرنسا. ومع اعتدال لهجته وتجنّبه الطعن والقرص فقد كان يخاف تأويل أقواله ولا تطاوعه حميته على السكوت ففضّل كتمان اسمه).
مواقفه:
كان روحي الخالدي عضواً في جمعية (الاتحاد والترقي)، فكان مؤيّداً للحرية والدستور، ليبرالياً في أفكاره بصورة عامة. وتنبّه إلى المخاطر الصهيونية، وعبّر عن مقاومته لنشاطها في فلسطين في مناسبات ومواقف مختلفة. ففي مقابلةٍ صحافية مع جريدة (هتسفي) (الظبي) (العبرية) في أوائل تشرين الثاني ( نوفمبر) 1909، عبّر عن مقاومته المبدئية للحركة الصهيونية ونشاطها الاستيطاني في فلسطين وحذّر من أنّ استمرار النشاط الصهيوني والاستيطان المكثّف قد يؤدّي في المستقبل إلى طرد العرب، أهالي البلد الأصليين، من بلدهم: (لسنا مدينين لكم بشيء فقد فتحنا هذه البلاد من البيزنطيين وليس منكم) بتلك الكلمات خاطب الصهاينة من على صحيفة جريدتهم العبرية في ذلك الوقت المبكر من بداية الصراع الفلسطيني–الصهيوني.
وينقل مؤلف كتاب (العرب والترك في العهد الدستوري العثماني) مضمون أحد خطابات روحي الخالدي في البرلمان سنة 1911، فيقول:
(وألقى خطاباً طويلاً كشف فيه عن أماني اليهود في استعادة مُلْك فلسطين. ثم أخرج من جيبه ورقةً تلا منها نصّ رسالة كتبت بقلم (أوسيشكين) أحد أركان الحركة الصهيونية، يبيّن فيها الوسائل الواجب أنْ يأخذ الصهاينة بها كي يبلغوا أمانيهم وهي: نيل الميزة والأفضلية في فلسطين بواسطة الأموال وتوحيد آمال الإسرائيليين وجمع شتاتهم، وإنماء روح الوطنية في قلوبهم واستخدام السياسة لبلوغ الأمنية السامية. واستنتج الخالدي من ذلك الصهاينة لا يريدون أقلّ من أمة لهم في فلسطين واستيطان أرضها. ثم نبّه إلى ازدياد عددهم حتى أصبح في متصرفية القدس وحدها مئة ألف يهودي. وأنّ أغنياءَهم ابتاعوا لهم نحو مائة ألف دونم، وأنّ القوانين التي سنّتها الحكومة لهجرتهم وإيجاد جواز السفر الأحمر للأجانب منهم لم تنفعْ في منع هجرتهم إلى فلسطين لأنها لم تُنفّذ. وأمّا الباقون من مهاجري أوروبا، وأنهم أسّسوا بنكاً باسم بنك الاستعمار اليهودي).
ولما حُلّ المجلس سنة 1912، عاد روحي إلى القدس. وعندما أعيدت انتخابات مجلس المبعوثان، أعاد أهل القدس انتخابه. فسافر إلى الأستانة ثانية، واستمرّ في تمثيل (متصرفية القدس) ومصالح سكانها في البرلمان على خير وجه.
اختير روحي أفندي في المجلس نائباً للرئيس، فكان من الأعضاء البارزين في ذلك العهد. وكان تزوّج في بوردو من آنسة فرنسية اسمها هرمانس بنسول، وأنجب منها يحيى، (جان). وقد أنهى ابنه دراسته الجامعية وتخرّج مهندساً كهربائياً، وعاش في القدس ثلاثة سنوات، ونال من بني عمومته حصّته من إرث والده ثم عاد لبوردو واختير رئيساً لبلديتها. ويرجّح أنّه توفّيَ فيها في أوائل الحرب العالمية الثانية، سنة 1942، وتوفّيت والدته بعده بقليل، سنة 1943. توفّيَ روحي أفندي في 6 آب (أغسطس) 1913 عن عمرٍ قارب الخمسين سنة، بعد إصابته بحمى التيفوئيد.
آثاره القلمية: 1- (رسالة في انتشار الدين المحمدي وفي أقسام العالم الإسلامي). وهي محاضرة ألقاها سنة 1896 في باريس. 2- (المقدمة في المسألة الشرقية منذ نشأتها الأولى إلى الربع الثاني من القرن الثامن عشر). محاضرة ألقاها سنة 1897 في باريس أيضاً. 3- (برتلو: العالم الكيماوي الشهير)، مقالة قصيرة من ست صفحات نشرها في مجلة (الهلال). 4- (فيكتور هوجو وعلم الأدب عند الإفرنج والعرب) سلسلة مقالات نشرتها (الهلال) ثم جُمِعت في كتابٍ طُبِع تحت عنوان (تاريخ الأدب عند الإفرنج والعرب)، بتوقيع المقدسي سنة 1904. 5- (حكمة التاريخ) مقالة نشرها في جريدة (طرابلس الشام) سنة 1903 من دون توقيع، ولما بلغت الأستانة واطّلع عليها المسؤولون صدر الأمر بتعطيل الجريدة. 6- (الانقلاب العثماني) و(تركيا الفتاة) مقالتان نشرتهما (الهلال) سنة 1908. 7- (الكيمياء عند العرب) طبعته دار المعارف سنة 1953.
هذا مجمل الآثار القلمية المنشورة وله كتب ومخطوطات ضاع أكثرها، منها: 1- (رحلة إلى الأندلس). 2- (كتاب علم الألسنة أو مقابلة اللغات).
3- (تاريخ الصهيونية). 4- (تاريخ الأمة الإسرائيلية). 5- (تراجم أعلام الأسرة الخالدية) (توفّي المؤلف قبل إنجاز الكتاب).
وعموماً، كان روحي أفندي مثقّفاً واسع الاطلاع، وأحد أعمدة النهضة العربية في فلسطين (مثل عمّه يوسف ضياء) في أواخر العهد العثماني. وتشير كتبه المخطوطة والمطبوعة إلى تنوّع اهتماماته الأدبية والسياسية والتاريخية. وقد وصفه الدكتور ناصر الدين الأسد في كتابه بأنّه رائد البحث التاريخي الحديث في فلسطين. وأضاف آخرون أنّه كان رائداً في مجال دراسة الأدب العربي المقارن. وقد ظهرت الطبعة الأولى من كتابه (تاريخ الأدب) سنة 1904.
رائد الاستشراق في روسيا، اشتهر مؤرخاً عربياً وباحثاً لغوياً. تولّى كرسي اللغة العربية في جامعة قازان حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم كرسيّ أستاذ اللغة العربية في جامعة باكو بعد الثورة الاشتراكية وزوال الحكم القيصري.
وُلِد بندلي الجوزي في مدينة القدس في 2 تموز (يوليو) 1871. وقد توفيت والدته أثناء الوضع، وتوفي والده، وكان يعمل نجاراً، بينما كان بندلي في السادسة من عمره.
تلقّى بندلي علومه الابتدائية وقِسْماً من دراسته الثانوية في دير (الإشارة) الصليبي المعروف ﺑـ(دير المصلبة) في القسم الغربي من القدس. ثم انتقل إلى مدرسة (كفتين)، من أعمال طرابلس الشام، وتمكّن من اللغة العربية وهو في السابعة عشرة من عمره. وتفوّق في دراسته الثانوية فأُرسِل سنة 1891 لاستكمال علومه الدينية في الأكاديمية الدينية في موسكو. ولم يرغبْ في الاستمرار هناك، فانتقل إلى (أكاديمية قازان) سنة 1895، وحصل منها على درجة الماجستير في اللغة العربية والدراسات الإسلامية 1899. وكان موضوع أطروحته (المعتزلة).
عاد بندلي إلى القدس سنة 1900 ليبقى فيها، لكن السلطات التركية أجبرته على مغادرة البلد والعودة إلى روسيا. وهناك تزوّج يودميلا لورنشيتفنا رويفا، وذلك سنة 1903. وقد رُزق سبعة أبناء، ثلاثة ذكور وأربع بنات، اهتم بتربيتهم وتعليمهم فاحتلوا فيما بعد المركز المرموقة في الجامعات السوفيتية. وفي سنة 1909 عاد إلى الشرق الأدنى في بعثة علمية لمدة عام كامل أشرف خلاله على رحلة الطلبة الروس إلى فلسطين. وفي رحلته تلك تعرّف إلى الكثيرين من أدباء فلسطين في ذلك العهد، ومنهم إسعاف النشاشيبي وجميل الخالديّ، صاحب المخطوطات، وخليل السكاكيني. كما تعرّف في بيروت إلى المستشرق الروسي كراتشفوفسكي الذي أوقف حياته على البحث والتدقيق في آداب اللغة العربية. وفي السنة التي أقام معظمها في فلسطين (1909) شاهد التأخّر والجهل وظلم السلطات العثمانية والإقطاعيين السائرين في فلكها، فأخذ بنشر الأفكار التحررية، ويحرّض الناس على كسر القيود، والثورة على أوضاعهم.
وعاد بندلي الجوزي إلى جامعة قازان بعد انتهاء سنة البعثة، واستمر يدرس اللغة العربية والتاريخ الإسلامي فيها. وبعد زوال الحكم القيصري انتقل إلى مدينة باكو، وعُيّن أستاذاً للأدب العربي في جامعتها. وظلّ يدرّس اللغة العربية وآدابها هناك حتى وافته المنية سنة 1942. وقد كتب الكثير من الدراسات، وتصدّى للمستشرقين، وانتقد قصر نظرهم وتعصّبهم. ومع ذلك فقد وصفه المستشرقون بأنّه كان مرجعاً خصباً من مراجعهم، وعُرِف عندهم باسم بندلي (Pandali). ومن مؤلفاته كتاب (الحركات الفكرية في الإسلام)، الذي نال بفضله الدكتوراه من جامعة موسكو.
ولم ينسَ الدكتور الجوزي مسقط رأسه، بل عاد لزيارته سنة 1927، ثم في سنة 1930. وقد ألقى خلال زياراته تلك محاضرات قيمة في التاريخ والحركات الفكرية والاجتماعية والفلسفية عند العرب. وفي سنة 1930 أيضاً زار القاهرة مع صديقيْه خليل السكاكيني وعادل جبر، فاحتفى بهم أهل الفكر في وادي النيل. وكتب الجوزي أبحاثاً ومقالات نشرها في المجلات العربية، ﻛـ(المقتطف) و(الهلال) و(النفائس العصرية) وغيرها. وكان يتقن من اللغات، إلى جانب العربية والروسية، عدة لغات أخرى هي: الفرنسية والإنجليزية والألمانية واليونانية القديمة والتركية والفارسية. وكان أيضاً يجيد اللاتينية والعبرانية والسريانية، ويقرأ الإيطالية والإسبانية بطلاقة.
ترك بندلي الجوزي مجموعة كبيرة من المؤلفات العربية والروسية منها: 1- (تاج العروس في معرفة لغة الروس).
2- (الأمومة عند العرب) (مترجم عن ديكلن الهولندي، طبع سنة 1902).
3- (مبادئ اللغة العربية لأولاد الغرب) (جزءان).
4- (الإسلام والتمدن).
5- (علم الأصول عند الإسلام).
6- (الحركات الفكرية في الإسلام ) (طبع سنة 1928 في بيت المقدس).
7- (أصل الكتابة عند العرب).
8- (أصل سكان سوريا وفلسطين المسيحيين).
9- (جبل لبنان، تاريخه وحالته الحاضرة).
10- (العلاقات الأنجلو– مصرية) (طبع سنة 1930).
11- (المصطلحات العلمية عند العرب المعاصرين) (طبع سنة 1930).
12- (القاموس الروسي-العربي) (جزءان).
13- (تاريخ كنيسة أورشليم).
ويُقدّر مؤلفاته باللغة بالروسية، بين موضوع ومنقول، بستة وعشرين مؤلفاً، وترك تسعة مخطوطات بالروسية ومخطوطين بالعربية .
مفتي الحنفية في القدس لثلاثة عقود في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأحد علمائها ومدرسيها البارزين في ذلك العهد. وكان بعد ثورة سنة 1834 ضمن من عوقبوا، فنُفِيَ إلى مصر وفُرِضت عليه الإقامة الجبرية، ثم أعيد إلى موطنه ووظيفته في الإفتاء بعد نحو عامين.
هو طاهر بن عبد الصمد بن عبد اللطيف الحسيني. برز اسمه بعد وفاة عمه المفتي حسن أفندي سنة 1224ھ/1809م. وفي 27 شعبان من السنة ذاتها، الموافق 5 تشرين الأول (أكتوبر) 1809م، جاء مرسوم من القدس من والي الشام يقول فيه: ((وصل عرض محضركم وأحاط علمنا ما أعرضتم بخصوص انتقال المرحوم السيد حسن أفندي، بحسب وفور علمه ولياقته واستحقاقه إلى خدامة الفتوى الشريفة وأنّ الشرع الشريف (القاضي) نصبه قيمقام مفتي بطرفكم.)).. وبعد فترة قصيرة من السنة نفسها وافق شيخ الإسلام في الأستانة، وجاء التعيين الرسمي إلى طاهر أفندي مفتياً للحنفية في القدس. ومنذ ذلك التاريخ لم يقمْ عقدين من دون توقّف. وكان طاهر أفندي عالماً وقوراً، درس في الأزهر، كما يبدو، وتعرّف هناك إلى كبار العلماء، أمثال: عبد الله الشرقاوي، وحسن العطار، وعبد الرحمن الجبرتي. وحافظ على تلك العلاقة بالمراسلة بعد عودته إلى بيت المقدس. كما زاره العلامة حسن العطار في بيته. ومما يدلّ على سعة علمه اهتمامه بالكتب وطلبه النادر منها من القاهرة. وقد درس في الأقصى وفي مدارس الحرم. وفي سنة 1227ھ/1812م عُيّن مدرّساً لِـ((صحيح البخاري)) في قبة الصخرة. وهكذا حافظ طاهر أفندي لأكثر من عقديْن على الزعامة الروحية في القدس بينما اهتمّ ابن عمه عمر أفندي النقيب بالقضايا المادية و اليومية. وبعد الاحتلال المصري سنة 1832 تزعزعت مكانة العلماء والأعيان. وتقلّص النفوذ الواسع الذي كان لأصحاب المناصب الكبيرة، أمثال طاهر. لذا دعم المفتي والنقيب ثورة سنة 1834، على ما يبدو، فكان جزاؤهما النفي إلى مصر بعد إخماد الثورة. بعد عامٍ من إبعاده عن موطنه قُدِّمت عريضة من حرم المفتي إلى السلطات المصرية بوساطة إبراهيم باشا يستعطفنَ فيها ترتيب معاشٍ لهنّ: ((حال مفتي أفندي مشهور وفقره معلوم والآن مقيم في مصر بحسب الأمر الكريم المعظّم ونحن ضاع حالنا ولا أحد يطّلع علينا بإدارة معاشنا. ونحن سبعة عشر نفساً الموجودة في رقبته معاشنا عليه)). وقد أورد أسد رستم هذه العريضة في الوثائق التي جمعها في كتابه ((المحفوظات))، وهي مؤرخة في 22 ربيع الثاني 1251ھ/17 آب (أغسطس) 1835م. وبعد أنْ تأكد المصريون من عودة الهدوء للمنطقة سمحوا للمفتي وآخرين من المبعدين بالعودة إلى موطنهم، وكان ذلك، كما يبدو، في أواخر سنة 1252ھ/أوائل سنة 1837م. ففي ذلك التاريخ تتكرّر الحجج والوثائق المسجلة في سجلات المحكمة الشرعية في القدس والتي تؤكّد وجود طاهر أفندي في القدس وشغله منصب إفتاء الحنفية ثانية. وحتى خلال غيابه الاضطراري في مصر, لم تخرج وظيفة الإفتاء من العائلة، بل شغلها بالوكالة ابنه مصطفى. ولم تطلْ مدة مكوث طاهر طويلاً في بيت المقدس، وسافر إلى الأستانة بُعيْد عودة العثمانيين إلى البلد سنة 1841م، وعيّن للإفتاء مصطفى أفندي بالوكالة. وفي الأستانة أصبح طاهر أفندي من مقرّبي شيخ الإسلام عارف حكمت، الذي رفض السماح له بالعودة إلى قدس كي تستفيد العاصمة العثمانية من علمه ومعرفته. وحتى بعد وفاة شيخ الإسلام المذكور، أبقاه رجال السلطة في العاصمة، فكانت مكانته عظيمة بين العلماء والوزراء. وهكذا أمضى طاهر آخر عقديْن ونيّف من حياته في العاصمة العثمانية، حتى وفاته سنة 1282ھ/1865-1866م. أما وظيفة الإفتاء فانتقلت رسمياً في تلك المدة إلى ابنه مصطفى، الذي نقلها إلى ابنه طاهر ومنه إلى ولديه كامل والحاج أمين الحسيني.
(1148-1228ھ/1735-1813م) عالم أزهريّ، مفتي الشافعية، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية الخلوتية والقادرية في الديار القدسية. سافر في آخر حياته إلى الأستانة يطلب من شيخ الإسلام، ولم يمكثْ طويلاً بعد وصوله إليها فمات ودفن فيه.
هو محمد أفندي بن تاج الدين أبو السعود، من أكارم أعيان القدس كما جاء في مخطوط حسن الحسيني لتراجم علماء القدس في القرن الثاني عشر الهجريّ. وقال عنه أيضاً: (مولانا السعيد الكامل الرشيد، مولانا مهذّب القلوب، ومهذّب الأخلاق، المقرب المحبوب، لحضرة الخلاق، الذي نشأ من عنوان شبابه في عبادة مولاه وترقّى مراقي الأحباب حتى بلغ مناه). درس في الأزهر، وأخسذ طريق الخلوتية عن شيخ المشايخ في الديار المصرية الشيخ محمد الحنفي، وكذا أخذ تلك الطريقة والخلافة عن (مولانا وسيدنا وابن سيدنا محمد كمال الصديقي). وكان للعائلة زاوية في دارها هي الزاوية الفخرية، وطريقتها منسوبة إلى القطب المشهور الشيخ عبد القادر الجيلانيّ. ولذا أصبح محمد أفندي في نهاية القرن الثاني عشر الهجري خليفة السادات الخلوتية والقادرية في القدس. قام بإحياء الأذكار ليلاً ونهاراً، ووُصِفَ بأنّه صاحب كرامات وأشعار. وقد أخذ عليه العهد خلقٌ كثير من أكابر القوم.
أصبح محمد أفندي أحد علماء القدس ذوي النفوذ. وقد برز ذلك أثناء الحملة الفرنسية على فلسطين، حيث وردت الفرمانات والمراسيم باسم ثلاثة من علماء القدس البارزين وهم المفتي الحنفي حسن الحسيني، والشيخ محمد البديري، والشيخ محمد أبو السعود. وقد حاز الشيخ أبو السعود على مختلف المناصب والوظائف في المؤسسات الدينية والأوقاف، وأورث قسْماً كبيراً منها لابنه أحمد أفندي، وأحفاده الثلاثة، أولاد ابنه مصطفى المتوفّى سنة 1221ھ/1806م. وقد تقلّد ابناه أحمد ومصطفى المناصب العالية وسارا على خطى والدهما.
ذكره جودت باشا في تاريخه سنة 1228ھ/1813م. (المجلد العاشر، الصفحة 126)، وذلك أنّ الشيخ الإسلام عبد الله أفندي درى زاده كان يبحث ذات يوم في الأستانة مع قاضي عسكر الأناضول موسى أفندي الخالدي عن المشايخ والعلماء ليحضرهم إلى العاصمة. فذكر له الشيخ محمد أفندي أبو السعود، وأثنى عليه، فطلب منه أنْ يحضره إلى دار السعادة. فتوجّه موسى أفندي إلى القدس وأحضره وأنزله في دارٍ تجاه بيت شيخ الإسلام، قرب جامع الفاتح. وكان الشيخ أبو السعود هرِماً فلم يستطعْ التوجّه إلى سراي السلطان. ورعاية للقاعدة (القادم يُزار)، عزَم السلطان محمود على زيارته ثم عدَل لأنّ الشيخ كان مغمى عليه. ومات الشيخ أبو السعود في تلك السنة، ودُفِن في تربة أبي أيوب الأنصاري في العاصمة العثمانية.
ذكره عارف العارف وعدّة مصادر عربية وأجنبية أول رئيسٍ لبلدية القدس. فقد أُسّست بلدية القدس سنة 1863، وهي من أوائل البلديات في الدولة العثمانية، ولعلّ بلدية العاصمة إسطنبول كانت البلدية الوحيدة التي سبقتها في هذا المجال. ولا نعرف عن معارف عبد الرحمن أو مؤهلاته شيئاً، ولا سيما تلك التي أهّلته ليكون أوّل من يتعيّن لرئاسة البلدية. وكان من وظائف و مهمات رئيس البلدية في ذلك العهد مأمورية الأنبار (العنابر) في الحكومة المحلية، فكان يشتري ما يحتاج إليه المتصرّفون ورجال الدولة وجنودها من طعام وشراب. ويظهر أنّ عبد الرحمن لم يبقَ في منصبه ذلك مدة طويلة، فقد عُيّن له من بعده أفراد من عائلات العلمي والحسيني والخالدي، وغيرها. ونظراً إلى أنه أول رئيسٍ لبلدية القدس فقد قرّرت بلدية المدينة مؤخّراً تخليد ذكراه بإطلاق اسمه على أحد الشوارع في حي بيت حنينا، شمالي القدس.
محمد آغا العفيفي (توفي سنة 1832) آغا الانكشارية في القدس مدة طويلة، وقائمقام متسلم اللواء فترات قصيرة. كان في سنة 1824 من زعماء تمرد سكان القدس على الحكم التركي. وعندما تغلبت الدولة على المتمردين هرب إلى مصر، وبواسطة محمد علي عفا السلطان عنه. فعاد إلى القدس وسكنها ثانية حتى جاء جيش محمد علي لفتح البلاد، فكان من أوائل المتعاونين مع الحكم الجديد.
هو محمد آغا بن عبد الرحمن عفيفي زاده. والعفيفي هي إحدى العائلات المقدسيّة التي كان من أبنائها كثيرون من أصحاب السيف والقلم. تجنّد محمد آغا من صغره، كما يبدو، في جند الانكشارية المحليين (اليرلية) ، وترقّى حتى أصبح آغا فرقة الانكشارية في القدس. وقد شغل هذه الوظيفة مدة طويلة في أوائل القرن التاسع عشر حتى أصبح أحد أعيان المدينة البارزين. واعتمد ولاة الشام عليه معاوناً للمتسلمين في لواء القدس. وكثيراً ما عُيّن متسلماً في القدس بالوكالة، بالإضافة إلى وظيفته الدائمة في قيادة جند الانكشارية. وقد حاولت السلطات العثمانية في العشرينات تعيين آغا تركيّ لفرق الانكشارية، لكن من دون نجاح. وفي سنة 1824 قام أهالي القدس، وبالتعاون مع الفلاحين، بثورة على متسلّم القدس وجنوده وطردوه من المدينة. وكان محمد آغا بحكم وظيفته أحد قادة هذا التمرد، بالإضافة إلى أحمد آغا الدردار، قائد القلعة. وبعد أنْ نجح الأتراك في إعادة سلطتهم على المدينة بوساطة جيش عبد الله باشا، والي صيدا، هرب محمد آغا والتجأ إلى محمد علي باشا في مصر. وتوسّط هذا عند السلطان والي الشام حتى صدر العفو عن محمد آغا وعزل سابقه خليل آغا أنّه بسبب (عدم امتزاج خليل آغا مع الوجاقلية) لكنّه لم يبقَ في وظيفته إلا مدة قصيرة، وذلك لإبطال جند الانكشارية في القدس أيضاً في أواخر سنة 1826. وظلّ محمد آغا في المدينة بعد ذلك لكنّه أصبح من المتضررين من إصلاحات السلطان محمود الثاني. فلما جاء جيش محمد علي لفتح البلاد في أواخر سنة 1831 اتصل محمد آغا به ونقل له أخبار القدس أولاً بأول. فكان بذلك يردّ الجميل لوالي مصر الذي ساعده سنة 1824، ويحاول أنْ يجد لنفسه منصباً جديداً في خدمة الحكام الجدد. لكن المنية لم تمهِلْه كثيراً، فقد توفّي في صيف سنة 1832. وخلف بعده من الذكور اثنين هما: عبد الرحمن وخليل، فقسّمت وظائفه وتركته بينهما. وقد برز خليل أكثر من أخيه، فكان عضواً في مجلس شورى لواء القدس، ثم مدير الأوقاف فيها. وقد نفته الدولة سنة 1854 إلى العاصمة العثمانية مع بعض أعيان مدينة القدس. ولا ندري ماذا جرى له بعد نفيه من البلاد، ويبدو أنّه أمضى باقي عمره بعيداً عن وطنه.
محمد آغا النمر (توفّي سنة 1234ھ/1819م) هو ابن إبراهيم باشا النمر، والي القدس في أواخر القرن الثامن عشر. شارك في مقاومة الفرنسيين سنة 1799، وكان أحد أقطاب الصراع مع آل طوقان–البكوات. حاول تجنيد المساعدة لصفّه من خارج جبل نابلس لكن من دون نجاح، ولقِيَ حتفه سنة 1819 في الكمين الذي نصبه موسى بك لزعامة آل النمر.
هو محمد آغا بن إبراهيم باشا النمر، الملقّب بسلطان جبل النار. وأمّه السيدة فاطمة بنت الشيخ إبراهيم الحنبلي الجعفري، نقيب أشراف نابلس. نشأ نشأة الفتوة مشبعاً بروح الفروسية وصفاتها. وقاد الجرود النابلسية التي قاومت نابليون في وادي قاقون، وشارك في معركة مرج ابن عامر على الجيش الفرنسي المحاصر لمدينة عكا. ثم قاد مجموعةً من الفرسان حاولت اختراق الحصار وإنجاد المدينة المحاصرة، فأكبر الجزّار فعلته تلك، بحسب قول إحسان النمر. ثم عاد محمد آغا إلى نابلس بعد وفاة الجزّار، واشترى قصر آل تقلي (طوقلي)، حكام نابلس سابقاً، القريب من الجامع الكبير، بعيداً عن حارة آل النمر. ونشب نزاعٌ دامٍ بين البكوات من آل طوقان وبين آل النمر راح ضحيتها عشرات من الأشخاص من الجانبين. وفي سنة 1234ھ/1818-1819م نصب موسى بك طوقان، متسلّم نابلس، كميناً لبعض آل النمر، كان محمد آغا بينهم، فقُتِل في تلك الحادثة.
كان الشيخ موسى البديريّ يُعَدّ –بحقّ- أحد العلماء العاملين، والفقهاء المحدّثين، اشتهر بالتّقى والورع، والتمسّك بأهداب الدين، لم تُنسب إليه رذيلة قط، ولم تذكر له خلة تشينه أبداً.
وقد سمعت بعض الذين جالسوه وعاشروه يصفونه بالصدق والإخلاص في العمل، والتفاني في سبيل الله والوطن.
وُلِد الشيخ موسى ابن الشيخ خليل البديريّ، في بيت علمٍ وأدب، ووطنيّة ودين بمنزلٍ في القدس القديمة بحيّ باب خان الزيت غرب الحرم القدسيّ المبارك نحو ثلاثة وثمانمائة وألف (1803م).
وقد نشأ –رحمه الله- يقرأ القرآن الكريم، في المسجد الأقصى المبارك، ويدرس أحكام تجويده. وقد مكث على ذلك نحو ثلاثة أعوام، أخذ بعدها يدرس مختلف العلوم الدينيّة واللغويّة في أروقة المسجد الأقصى، ورحبات الصخرة المشرّفة، ثمّ ارتحل إلى مدينة الأستانة (دار الخلافة الإسلاميّة آنذاك) حيث أتمّ هناك دراسته للعلوم الإسلاميّة بالإضافة إلى اللغة التركيّة، وبعد أنْ قضى مدّة سبعة أعوام حصل على إجازةٍ تؤهّله للعمل في سلك القضاء، ثمّ عاد إلى فلسطين فعُيّن قاضياً لمدينة نابلس، ثمّ وَلِيَ منصب قاضي محكمة القدس القديمة، وظلّ –رحمه الله- يتنقّل في مناصب القضاء نحو عشرين عاماً، ثمّ أحالته حكومة الانتداب البريطانيّة إلى التقاعد، فقرّر المجلس الإسلاميّ الأعلى بالقدس أنْ يُعَيّنه في منصب قيّم مسجد الصخرة بالإضافة إلى وظيفة إمام وقتيْ الظهر والعصر بالمسجد المذكور. وقد أبدى –رحمه الله- رغبته عن ذلك العمل بحجّة شعوره بضعف صحّته، ولكنّ أعضاء المجلس الإسلاميّ بالغوا في الإلحاح عليه حتّى استجاب لهم، وبذلك أصبح يشغل منصبيْ إمام وقيّم مسجد الصخرة المشرّفة في وقتٍ واحد. وقد ظلّ يباشر مهام ذينك المنصبين حتّى غادر هذه الديار.
استهلّ الشيخ موسى البديريّ كفاحه الوطنيّ ونضاله البطوليّ في سبيل تحرير بلاده من حكم البريطانيّين وتطهيرها من دنس الصهيونيّين بالمشاركة الفعليّة في المقاومة العربيّة المسلّحة التي كان قد نظّمها الشيخ عزّ الدين القسّام، إذْ انضمّ –رحمه اله- أثناء تولّيه القضاء في مدينة نابلس إلى صفوف المجاهدين تحت لواء عزّ الدين القسّام سنة إحدى وعشرين وتسعمائة وألف (1921م).
وقد ظلّ الشيخ موسى البديريّ يخوض معارك المواجهة المسلّحة ضدّ الصهاينة والبريطانيّين تحت قيادة الشيخ عزّ الدين حتّى استشهد هذا الأخير سنة اثنتيْن وعشرين وتسعمائة وألف (1922م).
وكان الشيخ موسى البديريّ في مقدّمة الداعين إلى المؤتمر العربيّ الفلسطينيّ الخامس الذي انعقد يوم 22 آب (أغسطس) من السنة المذكورة في مدينة نابلس وذلك على إثر عودة الوفد العربيّ الفلسطينيّ من لندن دون أنْ يحقّق من رحلته التي قام بها إلى بلاد الإنجليز أيّ فائدةٍ تذكر.
وفي عام 1929م كان الشيخ موسى أحد الخطباء المصاقع والشعراء المفلقين الذين أثاروا الحميّة الوطنيّة في نفوس الجماهير العربيّة، كي يثوروا ضدّ الصهاينة والبريطانيّين.
وفي سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة وألف (1931م)، ألّف الشيخ موسى من طلابه ومريديه جمعيّة سريّة مهمّتها الإشراف على مقاطعة البضائع البريطانيّة والصهيونيّة ومنع العرب مسلمين ومسيحيّين من معاملة تجّار اليهود المهاجرين من أوروبا وأمريكا إلى فلسطين.
وكان –رحمه الله- يحكم على الذي يترك التاجر العربيّ ليشتري من تاجرٍ صهيونيّ أيّ شيءٍ مهما قلّ أو كثر، بأنّه مارقُ عن الدين وخارجٌ على إجماع المسلمين، وأنّه يجب أنْ يعاقب رمياً بالرصاص.
وفي اوائل عام 1936م كان –رحمه الله- أحد أركان جماعة "اليد السوداء" التي كانت تبثّ الألغام في طريق القوافل الإنجليزيّة، وتضع المتفجّرات في المنشآت والمؤسسات الصهيونيّة بالقدس الجديدة، ولم يكنْ ليقتصر نشاط الشيخ موسى البديريّ في هذه المنظّمة الوطنيّة على إصدار الأوامر ولتوجيهات، بل كثيراً ما كان يقوم بنفسه بزرع الألغام، وتفجير أصابع الديناميت، في مختلف المرافق الحيويّة للصهاينة والبريطانيّين. فمن تلك الأعمال الفدائيّة التي تُنسب إليه –على سبيل المثال- وضعه بنفسه "قنبلة" أمام دار المندوب السامي في جبل المكبّر فانفجرت تحت عجلات سيّارة سكرتير عام حكومة فلسطين البريطانيّ فجُرِح وقُتِل سائق السيّارة.
وفي أخريات أيلول سنة 1937م كان الشيخ موسى البديريّ يتفقّد مواقع رجاله الذين كانوا يكمنون خارج باب الخليل لمنع الجنود من دخول القدس القديمة، فأطلق عليه أحد الصهاينة الرصاص من جهة شارع المنتفيوري، وهو حيّ يهوديّ يقع عند باب الخليل وبركة السلطان، فسقط الشيخ موسى فوق ثرى مدينة القدس ودمه الزكي يتدفّق بغزارة من رأسه وأنفه وفمه، ثمّ عرجت روحه إلى السماء في زمرة الشهداء الخالدين من العلماء العاملين.
(1860-1945) أحد أثرياء القدس ومن أعيانها البارزين في أواخر العهد العثماني، ومدير المعارف في أضنة ثم في القدس في ذلك العهد.
هو إسماعيل بن موسى بن طاهر الحسيني، مفتي القدس في النصف الأول من القرن الماضي. كان والده تاجراً ثرياً ورجل أعمال ناجحاً، جمع ثروة كبيرة وأورثها لأولاده عارف وشكري وإسماعيل. وقد ضمّت ثروته أراضٍ واسعة في قرى لواء القدس، مثل عين سينيا وغيرها. ولعلاقته بالفلاحين، استعانت السلطات العثمانية به لجباية الضرائب منهم، ودخل سلك الوظائف الحكومية، وشغل منصب رئيس مجلس المعارف في أضنة ثم في القدس. وفي أيامه أقيمت أول مدرسة للبنات في القدس. وقد ساهم في تطوير المدارس والتعليم في أواخر العهد العثماني. لكن وظيفته في المعارف أيضاً ضمّت مهمة مراقبة المطبوعات والصحف الصادرة في المتصرفية، فكان بذلك الأداة التنفيذية للسياسة العثمانية في هذا المجال.
وفي سنة 1897 أقام إسماعيل بك بيتاً فخماً على أرضٍ مساحتها خمسة دونمات في الشيخ جراح، في حارة الحسينية. وأقيم البناء وفق تخطيط أوروبي، وهو مؤلف من ثلاث طبقات من الحجر المقدسي الصقيل والجميل.
وللمبنى مدخل فخم استقبل إسماعيل بك فيه القيصر الألماني أيام زيارته للقدس سنة 1898. فكان ذلك الاستقبال الفخم الذي اشترك فيه علماء القدس وأعيانها ورجال الحكومة التركية، يوماً مشهوداً وصفته السيدة برتا وِسْتر سْبَفُورد التي كانت تسكن مع عائلتها في بيت مجاور. وقد تحوّل المنزل فيما بعد إلى فندقٍ سُمّي (نية أورينت هاوس).
وفي سنة 1901 كان إسماعيل بك مدير المعارف في القدس، فجمع ما اكتشفه العلماء الأجانب، ولا سيما الدكتور بليس، من العاديات في فلسطين، وأفرد لها ست حجرات في المدرسة السلطانية القائمة بإزاء الباب المعروف بباب هيرودوس ونظّمها هناك على أحسن طريقة. وكانت الغاية من إقامة هذا المتحف الصغير أنْ يجد العلماء في القدس فرصةً لدرس تاريخ فلسطين منذ زمن الكنعانيين إلى أيام الدولة الرومانية. وسنة 1908 كلّفه أخوه شكري الحسيني تأسيس فرع لجمعية (الإخاء العربي العثماني) في القدس. فعقد اجتماعاً لعددٍ من أعيان القدس وشبابها المثقف، وأسّس المجتمعون فرع الجمعية في المدينة، وكان من زعمائها: نخلة زريق، وفيضي العلمي، وخليل السكاكيني، وغيرهم.
وبعد الحرب العالمية الأولى والاحتلال الإنجليزي للبلد، اتّخذ إسماعيل بك موقفاً ودياً ومتعاوناً من الحكام الجدد، كما فعل مع من سبقهم. وشارك في الأنشطة والاجتماعات التشاورية الكثيرة التي عقدت سنة 1918 لاتخاذ موقفٍ فلسطينيّ بشأن وعد بلفور ومستقبل فلسطين. وقد عُقِد عددٌ كبير من تلك الاجتماعات في بيته. وكان بعض هذه الاجتماعات بمبادرةٍ من الإنجليز لتقريب وجهات النظر بين الفلسطينيين ورجال الحركة الصهيونية. ووافق إسماعيل بك على استقبال البعثة الصهيونية برئاسة وايزمن، والتي حضرت إلى البلد في نيسان/أبريل 1918. كما أنّه وافق فيما بعد على تأجير أرضه في عين سينيا ليعقوب شرتوك. وحصل على امتيازٍ للتنقيب عن النفط في جنوب فلسطين من شركة (ستاندرد أويل) ووافق سنة 1923 على إدراج اسمه بين أعضاء المجلس الاستشاري، الذي أراد الإنجليز تأسيسه في حينه. لكن عندما عارض معظم رجال الحركة الوطنية الفلسطينية إقامة المجلس سحب موافقته مع ثلاثة آخرين. وصرف إسماعيل بك حياته أيام الانتداب بعيداً عن السياسة ونشاط الحركة القومية، التي تزعّمها أفراد آخرون من آل الحسيني ، أبرزهم موسى كاظم والحاج أمين.
قاضي الشافعية في القدس في الربع الأول من القرن التاسع عشر، وأحد العلماء البارزين، ومن أصحاب النفوذ السياسي والاجتماعي في ذلك العهد.
هو أحمد بن محمد أفندي أبو السعود، العالم وشيخ مشايخ الطرق الصوفية. عُيّن قاضياً للشافعية بعد وفاة أخيه مصطفى سنة 1221ھ/1806م، الذي شغل ذلك المنصب أعواماً. بقِيَ أحمد أفندي في وظيفة القضاء مدة طويلة، وبرز عالماً من العلماء ذوي النفوذ الواسع. وقد استعان ولاة الأمور به أحياناً لجمع الضرائب وحفظ النظام في القدس ولوائها. ففي سلخ شهر شعبان 11240ھ/أواسط نيسان (أبريل) 1825م، أرسل عثمان آغا كتاباً إلى قاضي القدس وعلمائها ومتسلّمها وأعيانها بشأن ضرائب ذلك العام. وكان عثمان آغا في ذلك التاريخ وكيلاً معتمداً من قِبل والي الشام (كتخذا)، وقائد الحملة العسكرية لجمع الضرائب في المنطقة (سر عسكر الدوره). وصل عثمان آغا إلى مدينة نابلس وواجه صعوبات في جمع الضرائب المترتبة على المنطقة. فأرسل علماء القدس وأعيانها إلى عثمان آغا رسالة يطلبون فيها عدم توجهه بالعساكر إلى طرفهم. كما تعهّدوا توريد الضرائب المطلوبة من لواء القدس لخزينة الدولة إلى نابلس. وكان على رأس متعهّدي جمع الضرائب وإرسالها إلى نابلس (جناب الشيخ الحاج أحمد أفندي أبو السعود أفندي زاده). واستجاب عثمان آغا لهذا المطلب وعدل عن قدومه بنفسه على رأس جيشه لجمع تلك الضرائب، وذلك (لأجل راحة الفقراء وعدم الثقلة على الرعايا)، كما جاء في وثائق سجل المحكمة الشرعية.
لم أعثرْ على تاريخ وفاته، لكن أولاد أخيه مصطفى تسلّموا الوظائف والرياسة مع عمّهم منذ العشرينات.
أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن عبية، شهاب الدين قاضي القدس الشريف الشهير بابن عبية المقدسي الأثري الشافعي. ولد في12/ ربيع الأول/831 هـ، واشتغل بالقدس الشريف وحصّل معارفه الأولى فيها، وولي قضاء بيت المقدس.
اشتهر بحسن النظم وجمال الخط وشدة الأسر في الوعظ والخطابة.
اشتهر بمواقفه الجريئة الشجاعة ولعل أشهرها وقفته ضد السلطان قايتباي الجركسي المملوكي في قضية هدم كنيسة اليهود في بيت المقدس، حيث أمر قايتباي بإعادة كنيسة اليهود بالقدس الشريف بعد هدمها، وعاقب مجموعة من كبار العلماء والقضاة منهم الشيخ الجليل برهان الدين الأنصاري الخليل، وقاضي بيت المقدس شهاب الدين ابن عبية ، بسبب هدم الكنيسة حتى حملوا إليه، وضرب بعضهم بين يديه، وقد شنّع ابنُ عبية على قايتباي في ذلك، وبالغ في حقه حتى زعم أنه لم يفعل ذلك إلا لمودة بينه وبين اليهود، وتعصب منه على الدين، وقد استوفى القصة مجير الدين الحنبلي العليمي صاحب الأنس الجليل حيث روى كيف أصدر القاضي ابن عبيه أوامره المشددة بعدم صلاة اليهود في كنيستهم لأنه ثبت لديه أنها محدثة في الإسلام وليست قديمة وأنه لا حق لهم فيها بل إنها من جملة أوقاف المسجد الأقصى، واعترض على فتوى علماء مصر في إعادة بنائها وإرجاع وقْف دار يهودية لهم ، وهو الأمر الذي رفضه السلطان وأصر على موقفه ، وأصدر مرسوماً بذلك، فلم ترض العامة ومشايخ الطرق الصوفية بإرجاع الكنيس ، فحدثت في القدس ضجة يتقدمها قاضي الشافعية ابن عبية وبعض القضاة، وأرسلوا كتباً للسلطان يتهمونه فيها بممالأة اليهود وأظهر اليهود غبطة كبيرة بما حصل، فطلب السلطان ابن عبية وبرهان الدين الأنصاري وآخرين إلى مصر مخفورين بالحراسة مُهانين لمعاقبتهم بعدما أصروا على هدم الكنيس وتحدوا السلطان وهدموه فجرت بذلك محنة كبيرة لهؤلاء العلماء والقضاة.
بعد ذلك عُزل ابن عبية من منصبه وأوذي وضرب فارتحل إلى دمشق وسكن بها واشتغل بالوعظ والإرشاد بالجامع الأموي. وقد سجّل ابن عبيه موقفه وشعوره من هذه المحنة في قصيدة طويلة بدأها مستغيثا بالله مما أصابه أولها:
يا رب مس الضـر قلبي وانكســر فاجبر لكسري أنت أرحم من جبر وأغث فقد أمسيت منقطـع الرجـــا ممـا ســـواك وما بغيرك يُنتصَــر ناداك في الظلمات يونس ضارعاً وكـذاك أيـوب وقــد عظم الضرر كان بقرب ناعورة على النهر تدور وتئن فقال:
وناعورة أنّت فقلت لها: اقصــريأنينك هذا زاد للقلب في الحــزن فقـالت: أنينـي إذ ظننتـك عاشــقاً ترق لحال الصب قلت لها: إنـي ومن شعره:
بـأبي أزجّ حـــواجـــــب وعـيـــــونسلب بصـــاد للقلوب ونـــونفــفــــؤادي المـعتـــل منــه ناقــــصبمثال ذاك الأجوف المقـــرونيا نظرة قد أورثت قلــــبي الــــردىبأبي جفــون معذبي وجفونــينظرت غزالاً ناعساً يرعى الكــــرىفهي التي جــلبـت إلي منـونيقال العذول: وقعت في شرك الهـوىفأجبت هذا من فعــال عيـونـييا قـاتــــل الله العـــــيــــون فإنـــــهاحكمت علينا بالهوى والهـــون إلى أن قال وأجاد:
خدعوا فـؤادي بالوصال وعندمـاثبت الهوى في أضلعـي هجرونيهجروا ولو ذاقوا الــذي قد ذقتــهتركوا الصــدود وربما وصلـونيلم يرحمــوني حيـــن حان فراقهمما ضـــرّهم لــــو أنهم رحـمـونيومن العجائب أن نسوا ودي ومنودي لــــهــم كـل الورى عرفوني وقال في ملخصها مادحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما مخلصي في الحب من شرك الهـــوىإلا بمـــدح المصطــفى المأمـــونزين الأعارب في القــراع وفي القــــرىليــــث الكتـــائب لم يخف لمنــونبدرٌ تبـــــــدّى في حنــيـــــــن للوغـــــافسبى عـداه بصـــارم وحـنيــــــنفي البـــــأس ما في النــاس مثل محمدكلا، وقال: افي الحسن والتمكيــنهو فاتــــح كالحـــمــــد أول ســــــورةوجــميع أهــل القــرب كالتأميـــن
وله تخميسٌ جميل لبردة البوصيري لم أطّلع عليه.
توفّي بدمشق ليلة السبت ثالث جمادى الأولى سنة 905هـ، ودُفِن شمالي ضريح الشيخ حماد في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى.