حتى تعود النعمة - حتى تعود النعمة - حتى تعود النعمة - حتى تعود النعمة - حتى تعود النعمة
حتى تعود النعمة
د. راغب السرجاني
ليسأل كل واحد منا نفسه: لماذا سَلَب الله عز وجل نعمة كان قد أعطاها لنا؟
لعل من أهم الفوائد التي يحققها المؤمن عند نزول مصيبة به أنها تجعله يقف مع نفسه وقفة ليحاسبها؛ فالمصائب وإن كانت ترفع الدرجات عند الصبر عليها فإنها قد تكون نتيجة خطأ قلبي وقع فيه العبد فأنزل الله به المصيبة، ولقد ذكر الله عز وجل هذا النوع من المصائب في القرآن الكريم أكثر من مرة؛ فقال بعد مصيبة أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقال بشكل عام في سورة الشورى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].. نعم هذا ليس أمرًا عامًّا بشكل مطلق، فالابتلاءات لا تكون دومًا نتيجة أخطاء العباد؛ ولكنها فرصة للوقوف مع النفس.
ليسأل كل واحد منا نفسه: لماذا سَلَب الله عز وجل نعمة كان قد أعطاها لنا؟
قد يكون ابتلاءً لرفع الدرجات واتخاذ الشهداء..
هذا جميل، ونسأل الله الثبات فيه.
ولكنه قد يكون على الجانب الآخر لشيء أحدثناه في قلوبنا!
ألم يقل الله عز وجل في كتابه الكريم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
إنَّ الله عز وجل أنعم علينا في يومٍ ما بنعمة كبيرة ما كنا نتوقعها، ثم مرت الأيام، وغيَّر الله هذه النعمة، وسلبها منا وأعطاها غيرنا، وللعجب كان السلب من مصلحين، وكان العطاء للمفسدين! لماذا؟ قال تعالى: {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، ونفى قبلها أن يكون سلب النعمة لسبب آخر.. قال تعالى: {لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً...}.
ما الذي حدث في قلوبنا؟
وما الذي غيَّرناه؟
قد تكون الدنيا قد دخلت قلوبنا، وهذا ليس أمرًا عجيبًا أو نادرًا، فإنها دخلت قلوب بعض الصحابة في غزوة أحد، وإليهم أنزل الله قوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران: 152]..
قد يكون دخلها العجب بالنفس، وتخيُّل أن الإعداد العبقري منا كبشر هو سبيل النصر والتمكين..
قد يكون دخلها التكبر على الناس وعدم الالتفات لآرائهم، واعتبارها لا شيء بالقياس إلى آرائنا.
قد يكون دخلها العزة بالإثم وعدم الرغبة في التنازل عن موقف بعد اكتشاف الخطأ فيه..
قد يكون دخلها الشقاق والتنازع في الأمر، والصراع بين الإخوة والأحباب.
قد يكون دخلها الخوف من التصريح بأننا جند الله نسعى لتطبيق شريعته في المقام الأول، وليس همنا الطعام والشراب ومتاع الحياة الدنيا.
قد يكون دخلها ميل إلى إرضاء الناس، ولو على حساب ما نعلم أنه يرضي الله عز وجل، فنقبل بمخالفات شرعية بغية اتقاء غضب الناس، ونتعلل بأهمية التدرج، ونتعلل كذلك بدعوى مخاطبة الناس على قدر عقولهم، والناس لا يريدون دينًا إنما يريدون دنيا!
قد يكون دخلها خذلان لبعض المسلمين الذين يتوقعون نصرةً منا، فكان ردُّ فعلنا مخيِّبًا لآمالهم..
قد يكون دخلها قبول بموالاة بعض الناس الذين يذبحون إخواننا، ويهتكون أعراض بناتنا، بغية قبول دعمهم الاقتصادي أو غيره..
قد يكون دخلها كل ذلك أو بعضه..
فإذا حدث شيء مما سبق غيَّر الله النعمة، وبدَّل المنَّة!
وقد يقول بعض قراء المقال: ليس هذه هي الحال والحمد لله، فقلوبنا لم يدخلها شيء من هذا، إنما نحن مخلصون متجردون..
أقول: أنا أصدقك في كلامك عن قلبك؛ ولكن من أدراك بقلوب الناس؟!
هل حكمت على مَنْ حولك من أفراد الحركة الإسلامية وقيادتها بشكلهم ومظهرهم؟
إن عظماء الإيمان -ومن لهم خبرة وباع بالرجال- لم يدركوا ما في قلوب غيرهم أبدًا، فهذا سرٌّ لا يعلمه إلا الله عز وجل..
وراجع ما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بعد غزوة أحد: "مَا كنتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى نَزَلَتْ فِينَا مَا نَزَلَ يَوْمَ أُحُدٍ {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] [1].
إنه أمر لم يدركه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مع طول معاشرته للمؤمنين..
ثم إننا لا نتحدث عن مصيبة قلبية شملت الجميع.. إنما شملت البعض فقط، وكانت سببًا في مصيبة الجميع، فهكذا كانت غزوة أحد.. لقد نزل أربعون راميًا من فوق الجبل، وثبت الباقون، واجتهد مَنْ في أرض القتال اجتهادًا عظيمًا؛ ولكن فرَّ في النهاية بعضهم، فهل يعرف أحد أسماء المخالفين من الرماة؟ أو أسماء الفارين من أرض القتال؟
إننا لا نعرف معظمهم؛ ولكن بالدنيا التي دخلت في قلوبهم دفع الجميع الثمن.. مع أن الدنيا التي أصابتهم لم تكن بالدرجة الكبيرة التي تُقعدهم عن الجهاد، أو تصرفهم عن حمل هموم الدين والأمة؛ فقد خرجوا جميعًا إلى أحد وهم يعلمون أنهم قد لا يعودون إلى بيوتهم؛ بل إنهم قاتلوا نصف النهار مقبلين غير مدبرين، حتى أنزل الله لهم بوادر النصر؛ ولكن تسلُّل بعض الدنيا إلى القلب أحدث الفاجعة.
وقد يقول قائل: وما ذنب مَنْ لم يخالف؟
أقول: ذنبه أنه لم ينتبه في خلال العام الماضي كله -من يوم بدر إلى يوم أحد- إلى مصيبة إخوانه القلبية، فلعل الأخ كان يطمئن على دنيا أخيه ولا يطمئن على دينه، فتسللت الأمراض القلبية إلى المؤمنين، فنزع الله النعمة!
وما الحل؟
عودة كاملة إلى الله عز وجل، وإطلاعه على الخير في قلوبنا، فعندها يعيد لنا ربنا ما سُلب منا.. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70].
إذا كان هذا يحدث مع الأسرى من المشركين، فمن باب أولى أنه يحدث مع المصلحين المؤمنين.. لو علم الله في قلوبنا خيرًا فإنه لن يكتفِ بإعادة ما سُلب منا، بل سيعطينا أفضل منه: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ}، فإذا كانت أحلامنا في دولة أعطانا خلافة، وإن كانت طموحاتنا في تطبيق الشريعة في عشر سنين يسَّر لنا تطبيقها في سنة، وإن كانت آمالنا في إزاحة عشرات المفسدين أزاح لنا المئات والآلاف..
إن الكون كونه، وإن الأرض أرضه، وإن العباد عباده، ولن يَخرج أحدٌ أبدًا عن قَدَره، فاللهم ثبت قلوبنا على الإيمان، واهدها إلى سواء الصراط.
المسألة قلبية بحتة، وهزائمنا لا تكون بقوة أعدائنا؛ ولكن بضعف قلوبنا، فأقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم..
ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين.
[1] رواه أحمد في مسنده (4414)، والطبراني في الأوسط (1399)، ومسند ابن أبي شيبة (430)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، وأحمد في حديث طويل... ورجال الطبراني ثقات. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/ 328)، وقال العراقي: رواه البيهقي في الدلائل بإسناد حسن. انظر تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (5/ 2269).
[2] الترمذي (2140)، وابن ماجه (3834)، وأحمد (12128)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده قوي على شرط مسلم. وصححه الألباني.
ملايين العرب يرتجفون من شدّة البرد، وملايين العرب يتلوون من لؤم الجوع والفاقة والغربة، والأمة عارية تماما وكل أحوالها مكشوفة، بل مفضوحة.
ألكسا -وهو كما تعلمون اسم العاصفة الرهيبة التي هبّت على بلاد العرب- فضحت أحوالنا، وعرينا، وبؤسنا.
نبدأ من بلاد الأثرياء، فالفيضانات تغرق شوارع مدينة الرياض، وما هذا بالجديد، فقد حدث هذا من قبل، ودهشنا لحدوثه، فالبلاد ليست فقيرة، ومليارات النفط كثيرة، فكيف تغرق الشوارع بالمياه؟!
البنية التحتية هي السبب، يعني المدينة الباذخة بلا مجاري قادرة على مواجهة أي طارئ من مياه متدفقة..يعني: لا تخطيط، وهو ما يعني غياب المؤسسات، والمحاسبة، والتعلّم من الخطأ، وتلافي النقص.
أن تفيض شوارع غزة فهذا لا يفاجئ، لأن غزة بلا نفط، ولا مليارات، وبنيتها التحتية: أنفاق..والأنفاق هدم الكثير منها
في بلاد العرب الفاحشة الثراء لا بنية تحتيه، ولذا نسأل: هل هناك بنية فوقية؟!
إذا كانت البنية التحتية التي تُنشأ لنظافة وجمال وصحة المدن وناسها، غير مخطط لها، فكيف يمكن إنشاء بنية فوقية؟!
الحال من بعضه، فالفشل فوق وتحت..ولعله يشمل بلاد الأثرياء، وبلاد الفقراء، وكلنا في الهم عرب، مع اختلاف حال من يملك ومن لا يملك!
الدول العربية الإقليمية لها صفات جامعة هي: الفساد، وسوء الإدارة، وعدم التعلّم، وانعدام المحاسبة.
مع فضيحة ألكسا يرتفع صوت "هملت": كل شيء فاسد في مملكة الدنمرك. وعليه قس يا أخا العرب، مع التذكير بأنه توجد في الدنمرك بنية تحتية وفوقية، وملكية دستورية، وقوانين محاربة للفساد، وشفافية، وصحافة تنتقد، وبرلمان يحاسب، وثرواتهم هناك في المملكة التي هجاها "هملت" في مسرحية شكسبير الخالدة هو: الإنسان .. والبنيتان التحتية والفوقية كرستا لخدمته.
في السعودية حكم قبل أيام على المواطن عمر السعيد ب 300 جلدة، و4 سنوات سجن عقابا له على مطالبته بالملكية الدستورية!
ألكسا فضحت من تباكوا على اللاجئين السوريين، وتركوهم للعراء، والمهانة، و..ناهيك عن التهالك على بناتهم الصغيرات، لزوم الاستمتاع والانبساط، وبحجة ( سترهن) وصون عفافهن، ثم رموهن بعد الاستعمال السريع، مستغلين ظروف أسرهن!
اللاجئون السوريون حالهم حالنا نحن الفلسطينيين بعد نكبة ال48 عندما سقط علينا الثلج عام 51ونحن في مخيمات بيت لحم: الدهيشة ـ أنا كنت أعيش هناك مع أسرتي ـ ومخيم ( عايدة) و( العزة) ، ومخيمات الخليل: العروب، والفوّار..ووصل الثلج آنذاك إلى أريحا، تماما كما انهمرت بركات ألكسا على أريحا ومخيماتها.
في الثلجة الكبرى عام 1951م تركنا تحت الخيام، وكنا ننام في الوحل، والمياه تسرسب من تحت حواف الخيام، وبطوننا فارغة، ونحن نتلوى بردا وجوعا، ولا يد تمتد لإنقاذنا!
مع تساقط ثلوج وزمجرة رياح ألكسا التي تنخر العظم، أستذكر معاناتنا في مخيم الدهيشة وأفكر في أهلنا السوريين في مخيم الزعتري ومخيمات لبنان، والمخيمات التي أعدت لهم في تركيا..وأشعر بمعاناتهم، فقد كابدنا قبلهم ما يذوقونه حاليا، ولم يهب أثرياء العرب لمد اليد لنا..فالتاريخ يعيد نفسه!.
ألم يتركوا غزة للحصار، وأهلها للفقر والجوع والأمراض، وعدوان العدو بالغازات التي أحرق بها فلذات أكبادهم؟
فيضان في شوارع المدن الفاحشة الثراء، وفيضان في شوارع غزة الفقيرة المحاصرة..يا للعجب!
تغلق الأنفاق حتى لا يتزوّد الغزازوة بما يسد رمقهم، ويسكت بكاء أطفالهم الذين يفتقدون لحبة الدواء وعلبة الحليب!
لا مازوت في غزة للتدفئة! لا مازوت للكهرباء! لا بنزين للسيارات..وغزة التي لم ترتجف من صورايخ العدو الصهيوني ترتجف هي وأطفالها من قسوة البرد، وفيضان المجاري واختلاطها بمياه المطر، وغرق مئات البيوت بمحتوياتها.
مناشدات الغزازوة لم تبلغ آذان أثرياء العرب، ومهانة اللاجئين السوريين لم تحرك الضمائر!..ولسان حال الفلسطيني يقول لشقيقه السوري: لو أنجدوني، ومدوا لي يد العون، لأسعفوك وأنقذوك!
لا يغيب عن بالي مصاب أهلي في مخيم اليرموك المنكوبين، والذين أتذكرهم مع زئير ألكسا وثلوجها، فقد بنيت آمالاً عندما استؤنفت المفاوضات بين اللجان الشعبية في مخيم اليرموك و( المسلحين) الذين احتلوا مخيم اليرموك في شتاء العام الماضي، وشردوا أهله، ونهبوا بيوته، وعاثوا فسادا في كل ما بناه ناسه على مدى أزيد من خمسة عقود.
تشرد أهل اليرموك، ووصل بعضهم إلى لبنان، وانحشروا مع أهلهم في مخيمات البؤس في لبنان..وعن مخيمات الفلسطينيين في لبنان حدث ولا حرج، فهي ( معازل)، وهي تكديس للألوف فوق بعضهم، مع حرمان من العمل، وانعدام الحياة الكريمة، وفي هكذا بيئة ماذا سوى الغضب، والقهر؟!
شعبنا الفلسطيني عميد اللجوء العربي يُشرد من جديد، ويدمر كل ما بناه، سواء في اليرموك، أو مخيم درعا، أو مخيمات حلب، أو مخيم خان الشيح..أو في قطاع غزّة، أحيانا بأيدي الشر الصهيوني وإرهابه، وأحيانا بغضب الطبيعة!
فلنبك على اللاجئين العرب الأشقاء في البؤس والمهانة: فلسطينيين، عراقيين، سوريين..فهم أبناء أمة منكوبة، وهي منكوبة لأن كل شيء في مملكة الدنمرك فاسد!
تعالوا نعلن كل بلاد العرب منطقة منكوبة!
وتعالوا نفكر بكل هدوء في أسباب نكبتها منذ بدأت نكبة العرب في فلسطين عام 1948.
قبل أيام قرأت أن مليارديرا عربيا كان يتمشى في أحد شوارع باريس، فلفتت نظره متسولة فرنسية، فقرر التبرع لها بمليون دولار!
وهكذا نقلها من حال إلى حال في رمشة عين، بشيك باسمها حسنة أو زكاة من ملياردير عربي بطر لم يتعب في تحويش مئات الملايين، ويبهجه أن يدخل السرور إلى نفس متسولة فرنسية، وأن يُكتب عنه خبر في صفحة داخلية لصحيفة فرنسية..يا للكرم الحاتمي العربي الأصيل!
ألكسا فضحت رثاثة أوضاع العرب، وافتقادهم للأخوّة العربية الحقّة.
بلاد تغرق في شبر ماء، لا مصانع فيها، لا صلة لها بالتكنولوجيا إلاّ للاستعمالات البوليسيةـ جمع المعلومات عن المشكوك بهم ـ أو للتسلية، أو للتعلم الفردي الذي لا يغير واقع الناس وحياتهم، ولا زراعة تغني عن التسول من أمريكا..فقط: أثرياء لديهم حسابات بالمليارات في بنوك الغرب، وفقراء يركضون وراء الرغيف، لأننا أمة يبدد سفهاؤها ثرواتها، ويضيعون مستقبلها، ويسهمون في تحويلها إلى امة لاجئين غرباء في أوطانهم!
من أكثر العلوم التي اختلف الناس حولها "التصوف" فمنهم من أعلى من شأنه، وجعله غاية العلوم، ونعته بـ"علم الآخرة" ومنهم من حط من قدره، وجعله بابًا واسعًا لإفساد عقائد الناس، ورمى أصحابه بالكفر والزندقة.
ووقف الإمام البنا من قضية التصوف موقفًا معتدلاً، فلم يقبله كله، ولم يرفضه كله بما فيه من صواب وخطأ، وحسن وسوء، ولم يعتبر كل المتصوفة مبتدعين، كما لم يعتبرهم كلهم على سنة.
وقد تعرف الإمام البنا على التصوف في مرحلة باكرة من شبابه، فقبل بلوغه الرابعة عشرة التزم بالطريقة الحصافية التي أسسها الشيخ حسنين الحصافي، وكانت دعوته مؤسسة على العلم والتعلم، والفقه والعبادة والطاعة والذكر، ومحاربة البدع والخرافات الفاشية بين أبناء بعض الطرق، والانتصار للكتاب والسنة على أية حال، والتحرز من التأويلات الفاسدة، والشطحات الضارة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذل النصيحة على كل حال، حتى إنه غيّر كثيرًا من الأوضاع التي اعتقد أنها تخالف الكتاب والسنة.
واظب الإمام البنا في هذه الطريقة على أورادها في الذكر صباحًا ومساءً، والتي كانت تسمى "بالوظيفة الزروقية"، ولم تكن هذه الوظيفة أكثر من آيات من الكتاب الكريم وأحاديث من أدعية الصباح والمساء التي وردت في كتب السنة، وليس بها شيء من الألفاظ الغامضة، أو التراكيب الفلسفية أو العبارات التي هي أقرب إلى الشطحات منها إلى الدعوات.
ومما شجعه على التزامها صحة الأحاديث التي اشتملت عليها، حيث خرجها وعلق عليها والده الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا، في رسالة لطيفة سماها "تنوير الأفئدة الزكية بأدلة أذكار الزروقية".
وكما أثر التصوف على تزكية روح الإمام الشهيد وتهذيب أخلاقه، أثر عليه أيضًا في أسلوب تربيته للإخوان، حيث رباهم على إيثار الناحية العملية، وتجنب الجدل في الخلافيات أو المشتبهات من الأمور.
ولقد فهم الإمام البنا التصوف فهمًا أحاط بكل جوانبه، كيف لا وقد عركه منذ نعومة أظافره، لذا فقد وقف على عيوبه ومميزاته، وسلبياته وإيجابياته، وقد كتب في غير مرة موضحًا للناس ما عرفه عنه، وعن أهله ومريديه، ومما كتب مقالة بعنوان: "غاية الصوفية رضوان الله عليهم ووسائلهم في الوصول إليها".
ومع هذا الفهم الدقيق للتصوف والذي يدل على تجربة صوفية عميقة ومؤثرة، فقد وقف الإمام البنا مع الجانب التربوي فقط منه ومدحه وحث عليه لما له من أثر طيب في تهذيب السلوك. وقد كان من أعلام هذا الجانب، الإمام الجنيد (ت 297هـ) الحارث المحاسبي (ت 254هـ)، والإمام القشيري والإمام الغزالي (ت 505هـ) وغيرهم من أعلام التصوف، يقول الإمام البنا عن هذا الجانب من التصوف: "وهذا القسم من علوم التصوف، واسمه "علوم التربية والسلوك"، ولا شك أنه من لب الإسلام وصميمه، ولا شك أن الصوفية قد بلغوا به مرتبة من علاج النفوس ودوائها، والطب لها والرقي بها، لم يبلغ إليها غيرهم من المربين، ولا شك أنهم حملوا الناس بهذا الأسلوب على خطة عملية من حيث أداء فرائض الله واجتناب نواهيه، وصدق التوجه إليه، وإن كان ذلك لم يخل من المبالغة في كثير من الأحيان تأثرًا بروح العصور التي عاشت فيها هذه الدعوات: كالمبالغة في الصمت والجوع والسهر والعزلة.. ولذلك كله أصل في الدين يرد إليه، فالصمت أصله الإعراض عن اللغو، والجوع أصله التطوع بالصوم، والسهر أصله قيام الليل، والعزلة أصلها كف الأذى عن النفس ووجوب العناية بها.. ولو وقف التطبيق العملي عند هذه الحدود التي رسمها الشارع لكان في ذلك كل الخير".
ولكن فكرة الدعوة الصوفية لم تقف عند حد السلوك والتربية، ولو وقفت عند هذا الحد لكان خيرًا لها وللناس، ولكنها جاوزت ذلك بعد العصور الأولى إلى تحليل الأذواق والمواجد، مع مزج ذلك بعلوم الفلسفة والمنطق ومواريث الأمم الماضية وأفكارها، فخلطت بذلك الدين بما ليس منه، وفتحت الثغرات الواسعة لكل زنديق أو ملحد أو فاسد الرأي والعقيدة، ليدخل من هذا الباب باسم التصوف والدعوة إلى الزهد والتقشف، والرغبة في الحصول على هذه النتائج الروحية الباهرة، وأصبح كل ما يكتب أو يقال في هذه الناحية يجب أن يكون محل نظر دقيق من الناظرين في دين الله والحريصين على صفائه ونقائه".
ورغم أن الإمام البنا نشأ في أحضان "الطريقة الحصافية"- إلا أنه لم يأخذ من التصوف إلا ناحيته التربوية السلوكية ورفض ما دونها، لأن الطرق الصوفية قد تأثرت كثيرًا بالانحراف الفلسفي الذي طرأ على التصوف وانحرف به عن جادة الصواب، وابتعد به عن طريق الكتاب والسنة والسلف الصالح.
الإخوان وإصلاح التصوف
عز على الإمام البنا- وهو الذي علم التصوف عن تجربة، وسبر جوهره عن خبره- أن يؤول حاله إلى ما آل إليه، وهو من يعلم أن في التصوف قوة روحية لو انضبطت بالكتاب والسنة وتوجهت نحو العمل وتجميع الناس، وتأليف قلوبهم لأثمرت أمة فريدة بين العالمين، لذلك فقد دعا إلى إصلاح الطرق الصوفية، وشجع مثل هذه الدعوات، وكتب عن ذلك فقال: "ومن واجب المصلحين أن يطيلوا التفكير في إصلاح هذه الطوائف من الناس، وإصلاحهم سهل ميسور، وعندهم الاستعداد الكامل له، ولعلهم أقرب الناس إليهم لو وجهوا نحوه توجيهًا صحيحًا، وذلك لا يستلزم أكثر من أن يتفرغ نفر من العلماء الصالحين العاملين، والوعاظ الصادقين المخلصين لدراسة هذه المجتمعات، والإفادة من هذه الثروة العلمية، وتخليصها مما علق بها، وقيادة هذه الجماهير بعد ذلك قيادة صالحة.
وقد امتلأت جريدة الإخوان المسلمين بمثل هذه الدعوات إلى إصلاح الطرق الصوفية وأهلها، من ذلك مقال تحت عنوان: "إلى السادة أهل الطرق الصوفية: هل تفكر وتأخذ بهذا الاقتراح!!.." يقول: وجد التصوف يوم وجد ونشأت الطرق لتخدم الإسلام وتثبت عقائده وتربي الناس على مبادئه.. وكثير من شيوخ الطرق رضوان الله عليهم كانوا مثلاً عليًا في العبادة والتربية والسير بمتبوعيهم إلى سنن الكمال ثم خلفت من بعدهم خلوف غيرت وبدلت وحق فيها قول أبي مدين:
واعلم بأن طريق القوم درسه
وحال من يدعيها اليوم كيف ترى
ومن الخطأ الفاحش والخطر الداهم وجود مثل هذه الطرق غير المتفقة مع الشريعة على حالتها التي وصلت إليها اليوم تحتل قلوب العامة إذ رأوا فيها بابًا من ذكر الله ومديح الأولياء، فتأخذ بناصية المتعلقين بها إلى الهاوية.
فحق على كل مسلم أن يرد القوس لباريها، وأن يذود عن هذا الدين بكل قواه ويصدم كل من يتصدى للدفاع عن هذه الهمجية التي قربتنا من الوثنية، بل وجب عليه أن يصرع كل من جرح الدين الحنيف وسبب له الامتهان.
أيرضى النبي بهذه الخزعبلات التي ابتدعها القوم بعده، فجاءت مهزلة وأي مهزلة بهذه الفصائل والجماعات الكسولة التي لا تجتمع في الميادين لتخيف العدو أو تنصر الدين، بل لتزعج السكان ليلاً بالصياح وقرع الطبول كأنما الحرب على الأبواب.. وناهيك من أنهم جميعًا (منتسبون) ولولاهم لطارت البركة من البلاد ولما وجد الزاد، فليجمع أهل الطرق رأيهم وليخططوا هذه الخطوة الصائبة، ولينظموا صفوفهم ويهذبوا نشيدهم أو يخلقوه خلقًا جديدًا، وليشتركوا في الرياضة والسباحة وركوب الخيل واستعمال السيوف والتمرن على الكشف والعسكرة.
إن تلك القوة لو تجمعت، وتلك الجيوش الجديدة لو تجمهرت، وتلك الكتائب لو تكاتفت لنفعتنا وقت الفاجعة حيث لا ينصر الله إلا من جد وقام يقول أنا سيف الله.
وكتب الأستاذ عمر التلمساني عام 1936م مقالاً تحت عنوان: "الإخوان المسلمون مبدأ، وفكرة، وعقيدة" يقول: "بقيت لدينا طائفة من المسلمين هم من أحب الناس إلى قلبي، ومن أقربهم إلى نفسي، أولئك هم أصحاب الطرق الصوفية، ولست أقصدهم جميعًا على إطلاقهم، وإنما عنيت منهم من صفت سريرته وطابت بالتقوى دخيلته، وحسنت بالإيمان نيته، أقصد منهم من عرف طريق التصوف حق معرفته فأخلص لله عمله وألزم نفسه سبيل المؤمنين".
محاربة الإخوان لبدع الصوفية
ولم يقف دور الإخوان عند دعوة الطرق الصوفية إلى الإصلاح وإلى الاجتماع على إصلاح الأمة، بل تعداه إلى محاربة البدع والضلالات التي راجت بين كثيرين منهم عند الزيارات البدعية للأضرحة، والتبرك بالقبور، ودعاء الأموات، وتعليق التمائم.. وغيرها، فأعلن الإمام الشهيد الحرب على هذه الأشياء في "الأصول العشرين" حيث اعتبرها كبائر تجب محاربتها، فقال في الأصل الثالث: "وللإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نور وحلاوة يقذفها الله في قلب من يشاء من عباده، ولكن التمائم والرقى، والودائع، والرمل، والمعرفة والكهانة، وادعاء معرفة الغيب وكل ما كان من هذا الباب، منكر تجب محاربته إلا ما كان من قرآن أو رقية مأثورة". وقد كان من أساليب الإخوان في حرب هذه البدع أن يوزعوا على أئمة المساجد وخطبائها خطبة جمعة تتحدث عن بعض تلك المفاسد، وكانوا ينشرون مثل هذه الخطب في جريدة الإخوان في باب "عظة المنبر"، من ذلك مقالة بعنوان: "المفاسد التي تقترف بالموالد".
وقد حمل تلاميذ الإمام حسن البنا لواء إنكار المنكر على بدع الصوفية، وكتبوا في ذلك الشيء الكثير، نذكر منه ما كتبه الشيخ إبراهيم خليل الشاذلي في جريدة الإخوان عام 1935م تحت عنوان: "الذكر الملحون والمحرف".
وكتب الإمام البنا يقول: "أجمع شيوخ الصوفية رضوان الله عليهم أن الغاية من الطريق هي "الوصول إلى الله تبارك وتعالى" والفوز بقربه والسعادة بمعرفته، وأجمعوا كذلك على أن السبيل إلى ذلك أثر واحد هو الاعتصام بالكتاب والسنة ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وها أنت قد رأيت فيما قدمناه لك في حد التصوف وما يتعلق به من كلامهم رضوان الله عليهم مما يؤيد ذلك ويؤكده.
والناظر في كتبهم وأقوالهم رضوان الله عليهم يراهم قسموا الطريق إلى أربع مراحل: المرحلة الأولى مرحلة العمل الظاهر من العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة والاشتغال بالذكر والاستغفار... إلخ، وهذا حظ العامة من المريدين بل حظ الناس أجمعين.
والمرحلة الثانية: مرحلة العمل الباطن، من مجاهدة النفس وتطهيرها من الأخلاق الذميمة وتحليتها بالأخلاق الفاضلة، ومحاسبتها على الصغير والكبير من أعمالها، ومراقبتها في هذه الأعمال حتى لا يصدر عنها ما يكون حائلاً دون الوصول إلى الغاية وهو حظ المتوجهين من الصادقين والمبتدئين من السالكين.
والمرحلة الثالثة: مرحلة الأحوال والمقامات والأذواق والمواجد، وذلك أن رياضة النفوس ومجاهدتها والمداومة على العبادة وآدابها يرقق حجاب الحس ويقوي سلطان الروح، ويقذف في القلب نورًا ينكشف به للسالك ما لم يكن يعلم من جمال الكون وجلاله ودقائقه وأسراره ومظاهره، وتجد لذلك نشوة في الفؤاد ولذة في المشاعر، ولا تزال هذه المشاعر التي يسميها القوم واردات وأحوالاً تقوى في النفس حتى تصير لازمة لها فتكون مقامات ثم تتوارد على القلب واردات أخرى هي أحوال جديدة ثم تقوى فتصير مقامات، وهكذا لا يزال السالك يترقى من حال إلى مقام ثم إلى حال فوق هذا المقام ثم مقام أرقى من المقام الأول حتى يصل إلى المرتبة الرابعة، وهذا حظ المستشرفين من السالكين والمبتدئين من العارفين.
المرحلة الرابعة: مرحلة الوصول وهي مرحلة زوال الحس وتجرد النفس ووصولها إلى مرتبة شهود الحق بالحق، وليست هناك عبارة تحد تلك المرحلة أو تحيط بوصفها، وكل ما يعرف السالكون عنها لمحات من بوارق أنوار القرب منها فيحدوه ذلك إلى السير، فإذا قدر لهم الوصول فثم تمحى العبارات وتغني الإشارات ويكون الأمر على حد قول القائل محب ومحبوب وساعة خلف وهذا حظ الواصلين العارفين.
فأما المرحلتان الأولى والثانية فقد فصل القرآن الكريم والسنة المطهرة حدودهما وأبانا نهجهما وأرشدا إليهما، ولم يدعا في ذلك زيادة لمستزيد، لهذا كان كلام الشيوخ الأولين رضوان الله عليهم كالمحاسبي والجنيد وإبراهيم بن أدهم وذي النون المصري وبشر الحافي وداود الطائي وأضرابهم دائرًا حول هاتين لا يتجاوزهما إلى غيرهما، وإن وجد في كلامهما غير ذلك فإنما هي رشحات تخرج عن دائرة القدرة البشرية، وهاتان المرحلتان هما أساس الطريق ولبه، وما عداهما ففرع لهما لا يمكن الوصول إليه إلا بهما كما فصلنا ذلك من قبل.
وأما المرحلة الثالثة فلا تحد بأوصاف ولا تنضبط بعبارة، لأن الأذواق والمواجد لا حد لها وهي عند كل شخص بما يناسبه، فهي شخصية عامة، ومبهمة لا واضحة ومطلقة غير محدودة فأنى تحدها العبارات أو تحصرها اللغات، وقد استفاضت في كتب بعض الشيوخ ولا سيما المتأخرين منهم فكانت مثار الإنكار عليهم بما أنها خاصة بهم لا يدركها غيرهم، وقد لا ينطبق التعبير على ما ألف الناس من أحكام الشريعة وعرفوا من حدودها، ومن هنا نشأ الخلاف بين الفقهاء والصوفية، ولو اقتصر الصوفية على المرحلتين الأوليين وتركوا هذه الأذواق والمواجد ينعم كل إنسان بما يكشف الله منها لما كان هذا الخلاف، ولعلهم معذورون في ذلك بحسن المقصد فإنهم ما دونوها إلا ليشوقوا المريدين ويهونوا عليهم مشاق الطريق، وقد وضعوا لها من المصطلحات ما لو درسه المنكرون عليهم لما رأوا في أقوالهم ما يوجب الإنكار ولا سيما وقد اتحد الفريقان في أصل الطريق وغايته.
وخلاصة القول أن هذه المرحلة مرحلة خاصة، فما وافق الشريعة من كلام القوم فيها أخذ كما هو، وما لم يمكن اتفاقه معها ولو على وجه من وجوه التأويل المتقبلة ترك ورد على صاحبه وكان أمره فيه إلى الله.
وأما المرحلة الرابعة: فهي مزلة الأقدم ومهواة المهالك، وكم ضل فيها مريد وسالك، والكلام فيها عن غيبة أمر لا يدخل تحت حد التكليف والتحدث بها عن حضور أمر لا يتحمله هذا العقل البشري الضعيف، ولهذا أغلق القوم فيها باب الكلام لأنها فوق الأفهام والأوهام، وكان منهم من أبى ذلك بتاتًا وقال لمن سألوه أن يتكلم لهم في شيء من هذا: أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وقد طلب أصحاب أبي عبد الله القرشي إليه أن يتكلم لهم في شيء من الحقائق فقال لهم كم أصحابي اليوم؟ قالوا: ستمائة رجل فقال الشيخ: اختاروا منكم مائة فاختاروا، فقال: اختاروا من المائة عشرين فاختاروا، قال: فاختاروا من العشرين أربعة، فاختاروا، فقال الشيخ: لو تكلمت عليكم في علم الحقائق والأسرار لكان أول من يفتي بكفري هؤلاء الأربعة وما ذلك إلا لأنه يدق عليهم فهم ما يشرحه لهم مما لا تتناوله العبارات. وإنما هو من خوالج النفوس ومشاهداتها الخاصة.
إذا تقرر هذا فاعلم يا أخي أن الشيوخ من أهل هذه الطريق تكلموا في هذه المراحل الأربع إلا أن المتقدمين منهم كان دعامة كلامهم المأثور ونصوص الكتاب والسنة لا غير لا يتجاوزونها إلى غيرها إلا نادرًا، ثم جاء بعد قوم آخرون خلطوا الكتاب والسنة بغيرها من قواعد العلوم في المراحل الثلاث بما أن هذا الخلط لا يتأتى في المرحلة الأولى، فخلطوا الكتاب والسنة في المرحلة الثانية بأقوال أرسطو طاليس وأضرابه في تقسيم النفس وبيان أحوالها وعوارضها من شهوانية وغضبية وعقلية، كما ترى ذلك منبثًا في كتب الإمام الغزالي رضي الله عنه في أكثر الأحايين، وخلطوا الكتاب والسنة في المرحلة الثالثة بأقوال أفلاطون وأضرابه من الإشراقيين في تجرد النفس والحاسة السادسة وإشراق العلوم والمعارف على النفس بالرياضة، ومعظم كتب القوم ولا سيما المتأخرين منهم مستفيضة بهذه البحوث يمزج فيها الكتاب والسنة بنظريات الفلاسفة.
وخلطوا الكتاب والسنة في المرحلة الرابعة بأقوال الفلاسفة في وحدة الوجود ووحدة الشهود والحلول والاتحاد، وبيان الحق من ذلك والباطل، كما ترى ذلك منبثًا في كتب ابن دهقان وابن سبعين وابن عربي وغيرهم وهذا مثار الخطر العظيم على العقائد الإسلامية والقواعد الإيمانية، فإن الكتابة في مثل هذه البحوث شوشت الطريق على السالكين وأثارت ثائرة المتمسكين وكانت مطية الملحدين والإباحيين، على أن الباحث لن يصل فيها إلى غاية ولا تطمئن نفسه معها إلى حقيقة إلا عن طريق الكشف والشهود، فما قيمة الكتابة في أمر لا يفيد فيه إلا العيان، وختام هذا البحث أيها الحبيب أن تعلم أن المرحلتين الأوليين واجب عليك، والمرحلتين الأخيرتين هدية من ربك لك، فاشتغل بما وجب يصلك ما وهب".
وقد ركزت صحف الإخوان في هذه الفترة على محاربة بدع الصوفية، خاصة في الموالد، وزيارة الأضرحة وما يحدث بها من مخالفات شرعية كبيرة، ومع ذلك كانت صحف الإخوان تستكتب بعض مشايخ الصوفية المعتدلين ليوضحوا للناس حقيقة الصوفية الصحيحة، مثل ما كتبه الشيخ محمد الحافظ التيجاني شيخ الطريقة التيجانية تحت عنوان: "هؤلاء هم السادة الصوفية"، كما كان للإمام البنا علاقته الطيبة مع العديد من مشايخ الطرق، وكانت له مقدرة على كسبهم وإقناعهم بشمولية الإسلام، حتى إنه أثناء فترة إقامته في الصعيد عام 1941م بعد نفيه إلى قنا استطاع أن يجمع الصوفية حوله، وما زال يعلمهم حتى أصبحوا هم جوالة الإخوان المسلمين بقنا.
وكما رأينا رأى الإخوان في الصوفية وتعاملهم معها وكيف أنهم أخذوا من الصوفية ما يزكي الروح ويحيي القلوب وحارب كل ما يدعو إلى الضلال والإباحية والخزعبلات، وكيف حوت صحفهم توضيح الطيب من الصوفية والسيئ.
وكان هذا حال الإخوان مع كل الجماعات الأخرى.
لا زالت تتردد بين الحين والآخر شبهات من هنا وهناك، تلمح إلى أن الإخوان على غير عقيدة السلف في الاعتقاد والتصور والفكر والسلوك، ولعل البعض يردِّد تلك المقولات دونما إحاطة تامة أو معرفة دقيقة بفكر الإخوان، والانصاف يتطلب منا أن نعرض فكرتنا حول كافة القضايا المثارة، ومدى موافقة فكر الإخوان للشرع ولمنهج السلف الصالح؛ حتى يعرف الآخرون رأي الإخوان واضحًا جليًّا من هذه القضايا المطروحة على الساحة، ونخصُّ الآن قضية التوسل والتصوُّف وموقفنا منهما ومدى التزام الإخوان فيهما بالنظر الشرعي.
(1) التوسل
التوسل
هل يجيز الدعاة التوسل؟ وهل هو من الأمور المختلَف فيها أم هو من مسائل العقيدة؟ وما حكم التوسل بالرسول- صلى الله عليه وسلم- بذاته، والسؤال بجاهه ويلحق به الصالحون؟!
يقول الإمام [البنَّا]- في الأصول العشرين-: "والدعاء إذا قُرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلافٌ فرعيٌّ في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة".
أولاً: نعرِّف ما هو التوسل المتفق عليه بين العلماء جميعًا:
1- التوسل باسم من أسماء الله تعالى، أو صفة من صفاته العليا.
2- التوسل بالعمل الصالح، كأن يعمل الإنسان عملاً صالحًا فيدعو به، كأصحاب الغار.
3- التوسل بدعاء الرجل الصالح، كأن تطلب من أحد الصالحين أن يدعو لك، كما أوصى الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن خير التابعين رجل يقال له "أويس" فمره فليستغفر لكم"، والرواية في صحيح مسلم.
4- التوسل بدعاء الرسول- صلى الله عليه وسلم- وشفاعته.
ثانيًا: التوسل المختلف فيه بين العلماء على النحو التالي
1- التوسل إلى الله تعالى بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه.. أجازه بعضهم إذا كان بمعنى الشفاعة، كما في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- استسقى بالعباس، وقال: "اللهم إنَّا كنَّا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا.." فيسقَون، فقال ابن تيمية: إنه توسل بدعاء الرسول- صلى الله عليه وسلم- بمعنى الشفاعة، وعلى هذا لم يجُز التوسل بذات الرسول، وقال: يتوسل بدعائه لا بذاته.
2- أجازه بعض العلماء، ما لم يكن بمعنى الشفاعة؛ بل بمعنى التوسل بجاه الوسيلة، نحو القسم على الله بنبيه- صلى الله عليه وسلم- إلا أن الشيخ العز بن عبدالسلام خصَّه بالرسول- صلى الله عليه وسلم- فقط؛ لحديث الأعمى الذي أتى الرسول، وطلب منه أن يدعو الله لرد بصره... إلى آخر الحديث الذي رواه النسائي والترمذي وصححه ابن ماجة، ومن أجل هذا الحديث استثنى الشيخ عز الدين بن عبدالسلام التوسل بذات الرسول- صلى الله عليه وسلم- من المنع الذي أفتى به؛ حيث قال: هذا ينبغي أن يكون مقصورًا على النبي- صلى الله عليه وسلم- لأنه سيد ولد آدم، وألا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء؛ لأنهم ليسوا في رحمته، وأن يكون هذا ممَّا خُص به لعلو درجته ومرتبته- صلى الله عليه وسلم.
3- أجازه العلماء على إطلاقه، كالإمام السبكي وغيره، وقالوا: إن ما قاله الشيخ العز بأنه خاص بالرسول فيه نظر؛ لأن الخصائص لا تثبُت إلا بدليل، ولا يكفي فيها الاحتمال؛ لأنها خلاف الأصل، وقد ردَّ الذين أجازوا التوسل بهذا النوع على ابن تيمية أنه ينفي وقوع التوسل مطلقًا؛ ولكن لا يقدم دليلاً على ذلك؛ بل أي الأدلة قد قامت على خلافه، فقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح في صحيح البخاري ج3 ص 148 من رواية أبي صالح السمَّان عن مالك الدار- وكان خازن عمر- قال : أصاب الناسَ قحطٌ في زمان عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنّهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المنام فقال: "إيت عمر فأقرئه مني السلام وأخبرهم أنَّهم مسقَون، وقل له: عليك بالكيس الكيس".. فأتى الرجل فأخبر عمر فقال: يا رب لا آلو إلاَّ ما عجزت عنه، ويرى الشيخ الكوثري أن هذا الحديث نصٌّ على عمل الصحابة في الاستسقاء به- صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته.
هكذا نجد أن في الأمر اختلافًا:
1- نُقل عن الإمام أحمد بن حنبل في "مسك المروذي" التوسل بالنبي- صلى الله عليه وسلم- في الدعاء، ونهى عنه آخرون، فإن كان مقصودهم التوسل بذاته فهو محل النزاع, وما تنازعوا فيه يرد إلى الله والرسول جـ1 ص 179.
2- يقول أيضًا: "بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، وممَّا تنازعت فيه الأمة، فيجب ردُّه إلى الله والرسول، ويقول: "وإن كان في العلماء من سوَّغه فقد ثبت عن غير واحد من العلماء أنه نهى عنه، فتكون مسألةً نزاعية، وليس هذا من مسائل العقوبات بإجماع المسلمين؛ بل المعاقب على ذلك معتدٍ جاهل ظالم، فإن القائل بهذا قد قال ما قال العلماء، والمنكر عليه وليس به نقل يجب اتباعه؛ لا عن النبي- صلى الله عليه وسلم- ولا عن الصحابة جـ1 ص 285.
3- ويقول الشيخ ناصر الدين الألباني- بعد أن أشار إلى التوسل المشروع الذي ذكرناه آنفًا غير المختلف فيه- قال: وأما عدا هذه الأنواع من التوسلات ففيه خلاف، والذي نعتقده عدم جوازه على أنه قال ببعضه بعض الأئمة، فأجاز الإمام أحمد بن حنبل التوسل بالرسول- صلى الله عليه وسلم- وأجاز غيره- كالإمام الشوكاني- التوسل به وبغيره من الأنبياء والصالحين (التوسل بأنواعه وأحكامه للألباني).
4- ولقد أجاب فضيلة الشيخ ابن باز حين سئل عن هذا النوع من التوسل بأن من العلماء من أجازه، ومنهم من منعه، وليس بشرك.
5- ويقول فضيلة الشيخ المطيعي: إن هذه الأمور- من الدعاء والتوسل- ليست من صميم العقائد عن السلف، وإنما هي أمور وزعت وضعفت عندهم في أبواب ليست من أبواب التوحيد.
6- على هذا فإن التوسل- أي التوجُّه إلى الله بالدعاء وحده متوسلاً بالنبي أو أحد من الصالحين- فيه خلاف بين الأئمة، فالإمام أحمد والإمام ابن حجر والعز بن عبدالسلام أجازوا التوسل بالرسول- صلى الله عليه وسلم- والإمام الشوكاني والألوسي فيجوِّزاه بالنبي- صلى الله عليه وسلم- وبغيره، بينما منع ذلك الإمام ابن تيمية والشيخ ناصر الألباني وغيرهما، ومن ذلك يتضح:
1- أن التوسل بالأنبياء والصالحين- بمعنى الإقسام بهم أو السؤال بهم- خلاف فقهي يسوغ فيه الاجتهاد.
2- أنه يخضع للصواب والخطأ لا الكفر والإيمان.
3- ليس هناك دليل قاطع في الجواز أو المنع، وعلى ذلك فالاختلاف فيها لا يترتب عليه فساد اعتقاد.
وعلى هذا جاء قول البنَّا وعدم ترجيحه لرأي على رأي فقال: "والدعاء إذا قُرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة".
(2) التصوف
الصوفية
ما هي حقيقة التصوف؟ وما علاقة الإخوان بالتصوف؛ حيث تربى مرشدها البنا على الطريقة الحصافية، وأعلن أن من طرق توجيه وتربية الجماعة أنها حقيقة صوفية؟
ما هو التصوف: التصوف اسم حادث لمسمًّى قديم؛ إذ إن مسماه لَيعدو كونه سعيًا إلى تزكية النفس من الأدران والشوائب العالقة بها، كالحسد والتكبر وحب الدنيا وحب الجاه؛ بغيةَ الوصول إلى حب الله والتوكل عليه والإخلاص له، وغني عن البرهان أيضًا أن لبَّ الإسلام وجوهره إنَّما يتمثل في تزكية النفس من هذه الشوائب، وما حقيقة الجهاد الذي تتكرر الدعوة إليه في كتاب الله- عزَّ وجلَّ- في مثل قوله ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ (الحج: 78) إلا مجاهدة النفس في تطهيرها، وما الجهاد بالمال والنفس في ساحات القتال إلا من فروع شجرة الجهاد الأساسي الذي لابد منه، وكذلك قوله عز وجل: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ (الأنعام: 120)، وكذلك الدعوة إلى التزكية.. ﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ (النازعات: 18- 19) دعوة إلى تطهير النفس من تلك الأدران والشوائب، وكذلك الإحسان الذي دعا إليه الرسول- صلى الله عليه وسلم، وهذا ما صار عليه علماء المسلمين والسلف- رضوان الله عليهم- ما دام أن السعي إلى هذه التزكية وفقَ وسائل منضبطة بأحكام الشريعة الإسلامية.
كان هذا أول ما ظهرت الصوفية.. دعوة إلى الزهد، والعبادة والانخلاع من الدنيا، والخوف مع المبالغة في هذه الأمور بصورة لم تكن مألوفةً من قبل، وربما بطرق ومسالك لم يظهر فيها أو يتمخَّض فيها وجه الصحة، من حيث اتفاقها مع أحكام الشرع، كما لم تظهر فيها دلائل الحرمة أو البطلان، وذلك بعد أن ظهرت الحركة الصوفية، ثم بدأ يدخل على هذه الطرق بعض الزنديقيين وغيرهم من أصحاب الفلسفة الغربية المنحرفين عن منهج الإسلام، وأصبح التصوف فريقين:
الفريق الأول: تصوف أهل العلم والاستقامة، الذين هم على منهج، والمقصود الحقيقي للتصوف كما أقره أن تيمية في جـ11 صـ233، ومنهم الفضيل بن عياض، إبراهيم بن أدهم، أبو سليمان الدراني، معروف الكرخي، الجنيد، سهل بن عبدالله التستري، وغيرهم.
والفريق الآخر: تصوف الفلاسفة والزندقة والبدع والجهل، وأمثال ذلك من الأمور المنافية للإسلام كابن الحلاج وغيره، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن بين أن الناس انقسمت طائفتين في الحكم على الصوفية، فطائفة ذمَّت الصوفية والتصوف، وطائفة غلت فيهم، وادعَوا أنهم أفضل الخلق، قال رحمه الله: وكِلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل الطاعات، ففيهم السابق المقرَّب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كلا الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومنهم من هو ظالمٌ لنفسه عاصٍ لربه جـ11 صـ18، ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية أن أصل التصوف وحقيقته لا غبار عليها؛ فإن أصله الزهد والعبادة وتزكية النفس والصدق.
هل الصوفية مجاهدون أم لا؟
فإن أصحاب الصوفية الحقة الخالية من البدع ومن المنكرات كانوا أصحاب جهاد في سبيل الله، فكان عبدالله بن المبارك الفقيه الزاهد متطوعًا أكثر وقته بالجهاد، وكان الواحد بن زيد الصوفي يحمل على الجهاد في سبيل الله، وكان شقيق البلخي- إمام الصوفية في زمنه- يجاهد بالسلاح في سبيل الله، ويحمل كذلك تلاميذه؛ بل إن من علماء الصوفية المجاهدين البدر العيني شارح البخاري يغزو سنةً ويدرس العلم سنةً ويحج سنةً.
هكذا كانت الصوفية الحقة.. فهي علمٌ وجهادٌ وتربيةٌ وسلوكٌ إلى الله، وعندما أعلن الإمام البنَّا أن الإخوان "دعوةٌ سلفيةٌ، وطريقةٌ سنيةٌ، وحقيقةٌ صوفيةٌ" إنما كان يعني التصوف الحق المنضبط بالكتاب والسنة، بعيدًا عن البدع والشطحات؛ وذلك لأن أي جماعة تريد أن تسير على منهج الله لابد أن يكون لها تربية روحية؛ لأن أساس الخير طهارة النفس ونقاء القلب والمواظبة على العمل، والإعراض عن الخلق والحب في الله.. وهكذا فإن فكرة الإخوان المسلمين تضمُّ كل المعاني الإصلاحية نتيجة الفهم الشامل للإسلام؛ حيث جمعت من كل منهج وفكرة خيرَ ما عندها.
هذا بالنسبة إلى الصوفية الحقة أما الصوفية المذمومة، فقد وقف لها الإمام البنَّا فأنكر على أصحاب التصوف اقتصارهم على جانب واحد من جوانب الإسلام، وعدم أخذهم الإسلام بشموله، كما قال المولى- عز وجل-: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 162).
وقال البنَّا: "يخطئ من يظن أن الإخوان جماعة (دراويش).. قد حصروا أنفسهم في الزوايا والمساجد للصلاة والتسابيح فحسب، فالمسلمون الأولون لم يعرفوا الإسلام بهذه الصورة، وإنما أخذوه شاملاً كاملاً.. عقيدةً وعبادةً.. دينًا ودولةً.. مصحفًا وسيفًا.. ثقافةً وقانونًا.. فهذا نظام كامل للحياة.
ثم ذكر البنَّا أن هذا الجانب الذي اقتصروا عليه قد كثُرت فيه الشوائب والشَّطَحات، فأخذ ينقي ويفند هذه الشوائب والشطحات والبدع فقال- رحمه الله-: "والتمائم والرقَى وادعاء معرفة الغيب، وكل ما كان من هذا الباب منكرٌ تجبُ محاربتُه إلا ما كان من آية قرآن أو رقية، وأن الاستعانة بالمقبورين أيًّا كانوا، ونداءهم لذلك، وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد، والنُّذُر لهم، وتشييد القبور وإضاءتها والتمسح بها، والحلف بغير الله..، وما يلحق ذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها"، وقد تجلى موقف البنَّا من التصوف المذموم وأهله وإنكاره عليهم في نقطتين:
1- حصر الإسلام في دائرة محدودة.
2- المبتدعات والشطحات التي أدخلوها في الدين وليست منه.
ثم نختم حديثنا عن الصوفية بالطريقة الحصافية التي تربى فيها الإمام البنَّا في فترة من فترات حياته، فنعرض لشيء عن ماهية هذه الطريقة، وهل كانت صوفية حقة أم قائمة على البدع والجهل والخرافات؟!
يتحدث الإمام البنَّا أنه بعد البحث والقراءة والسؤال وجد أن هذه الطريقة كانت مؤسسةً على العلم والتعلم والفقه والعبادة والذكر ومحاربة البدع والخرافات والانتصار للكتاب والسنة، مما كان عليه مشايخ الطرق أنفسهم آنذاك، وكان ذكر هذه الطريقة أو ما يسمَّى بالوظيفة الرزوقية في الصباح والمساء ما كانت إلا آيات من كتاب الله- عز وجل- وأحاديث من أدعية الصباح والمساء التي وردت في كتب السنة، وليس فيها من التراكيب الفلسفية أو العبادات التي هي من الشطحات أقرب منها إلى الدعوات، كما أن شيخ هذه الطريقة الشيخ "حسانين الحصَّاف" كان شيخًا عالمًا مجاهدًا آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، ومن نماذج ذلك:
أنه زار رياض باشا حين كان رئيس الوزراء، فدخل أحد العلماء وسلَّم على رئيس الوزراء وانحنى أمام الباشا، فقام الشيخ الحصافي غاضبًا، وضرب هذا الرجل على خديه بمجمع يده، ونهره بشدة، قائلاً: استقم يا رجل..!! فإن الركوع لا يجوز إلا الله، فلا تذلُّوا الدين والعلم فيذلكم الله!!
وأيضًا كان في مسجد الحسين، فقال له بعض مريديه: يا سيدنا الشيخ، سل سيدنا الحسين أن يرضى عليَّ، فالتفت إليه غاضبًا، وقال: يرضى عنا وعنك وعنه الله"!!
وها هي- كما ترى- كانت طريقةً تجمع محامد التصوف، وتبتعد عن مساوئه، وغنيٌّ عن البيان أن الرجل الذي كان يريد إنقاذ الأمة من الغفلة والضلال التي كانت فيه، ويقيم شرع الله.. لابد له من زادٍ إيمانيٍّ ضخم يكافئ التبعات الجسيمة الملقاة على عاتقه، فكان لابد من زادٍ إيمانيٍّ قويٍّ من التربية الروحية والسلوكية، وهو ما كان متوائمًا مع الطريقة الحصافية آنذاك.
براءة الشهيد سيد قطب من الطعن في الصحابة - براءة الشهيد سيد قطب من الطعن في الصحابة - براءة الشهيد سيد قطب من الطعن في الصحابة - براءة الشهيد سيد قطب من الطعن في الصحابة - براءة الشهيد سيد قطب من الطعن في الصحابة
براءة الشهيد سيد قطب من الطعن في الصحابة
تعقيباً على «تغريدة» الشيخ مشاري العفاسي
وائل علي البتيري
غرّد الشيخ مشاري العفاسي على "تويتر" قائلاً: "اتهم الاخواني سيد قطب الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه بالكذب والخبث والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم! فكيف لا يتهموني!" اهـ.
في تعقيبي على هذه "التغريدة"؛ سأنأى بقلمي عن "شخصنة" الأمور، والتغول في المقدمات التي دفعت الشيخ العفاسي إلى كتابة هذه الكلمات الخليّة من العدل الذي أمرنا الله تعالى أن نلزمه عند القول؛ لأن غايتي في التعقيب هو الدفاع عن الشهيد سيد قطب رحمه الله، الذي تعرض لظلم بعد استشهاده؛ ربما فاق ظلمَ الحكم عليه بالإعدام، ولا يهمّني إسقاط الطرف الآخر.. ويبدو أننا نعيش في زمن كثر فيه الذين يُسقطون أنفسهم بأنفسهم!
أما كلام سيد قطب المشار إليه؛ فهو الوارد في كتابه "كتب وشخصيات"، وهو كتاب قديم، طُبع لأول مرة في عام 1946م، وهي من السنوات الأولى التي شهدت بدايات التوجه "الإسلامي" لسيد قطب رحمه الله.
يقول الأستاذ سيد المولود في عام 1906، في كتابه "العدالة الاجتماعية" (ص203 - الطبعة المنقحة) متحدثاً عن نفسه:
"إن الذي يقول هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة، كان عمله الأول فيها هو القراءة والاطلاع في معظم حقول المعرفة الإنسانية، ما هو من تخصصه، وما هو من هواياته الثقافية.. ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره، فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيلاً ضئيلاً إلى جانب ذلك الرصيد الضخم -وما كان يمكن أن يكون الأمر إلا كذلك-، وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره، وإنما عرف الجاهلية على حقيقتها، وعلى انحرافها، وعلى ضآلتها، وعلى قزامتها، وعلى جعجعتها وانتفاشها، وعلى غرورها وادّعائها كذلك! وعلمَ علْمَ اليقين أنه لا يمكن أن يجمع المسلمُ بين هذين المصدرين في التلقي!".
إذن؛ هو يقرر أنه خلع ثوب "الجاهلية" الذي تدثره عشرات السنين، ليكتسي حُلة لا يمكن أن تلتقي على جسده مع ذلك الثوب القديم، لأنه عرفه على حقيقته، وأدرك بشاعته، وانشرح صدرُه بجمال حلته الجديدة، واطمأن فؤاده إلى ضرورة التزامها. ثم يأتي بعد ذلك من يُحاكمه -ظلماً وزوراً- على ارتدائه الثياب التي تخلى عنها من غير رجعة!!
وما علينا الآن إلا أن نثبت أن هذا الكلام "القاسي" الذي وصف به سيد رحمه الله، معاوية وعمراً رضي الله عنهما، هو جزءٌ من ذلك الثوب المخلوع..
لسيد قطب رحمه الله؛ طبعة منقحة لكتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام"؛ وكان قد قال في الطبعة الأولى من هذا الكتاب كلاماً شبيهاً بما نقله الشيخ العفاسي عنه من كتاب "كتب وشخصيات"، قال رحمه الله في "العدالة الاجتماعية -الطبعة القديمة- وهو أول كتاب ألّفه بعد الالتزام:
".. وجاء معاوية، تُعاونه العصبة التي على شاكلته، وعلى رأسها عمرو بن العاص، قومٌ تجمعهم المطامع والمآرب، وتدفعهم المطامح والرغائب، ولا يُمسكهم خلُقٌ ولا دينٌ ولا ضمير".
إننا إذا استعرضنا الطبعة التي نقحها سيد قطب من هذا الكتاب؛ فإننا لن نجد أثراً لهذا الكلام، وهذا أحد الأدلة الظاهرة على تراجعه، رحمه الله.
وإليك دليلاً آخر يخبرنا عنه أحد تلاميذ سيد قطب، وهو الأستاذ يوسف العظم رحمه الله، حيث قال في كتابه "رائد الفكر الإسلامي المعاصر الشهيد سيد قطب" (ص317) تحت عنوان "توهم البعض أن الشهيد قد تبرأ من جميع كتبه ما عدا (الظلال) و(المعالم)":
"توهمَ البعضُ أن الشهيد قد أعلن كتابةً وحديثاً فيما كان يتمّ بينه وبين أصدقائه وإخوانه من لقاءات؛ أنه يتبرأ من كل ما كتب من عطاء، وما قدم من كتب؛ باستثناء كتابيه (في ظلال القرآن) و(معالم في الطريق)...
وأحسب أن الوهم الذي أشرتُ إليه جاء من مصدرين:
الأول: من حديث الشهيد عن بعض كتبه السابقة، كقصة أشواق، وقصة المدينة المحسورة، ونقد مستقبل الثقافة في مصر، وكتب وشخصيات، وهي كتب المرحلة الزمنية الأدبية في حياة الشهيد، إذ بيّن أكثر من مرة لمن حوله من المتصلين به والمقربين إليه؛ أنها كتب مرحلة معيّنة أورد فيها الشهيد بعض الآراء والأفكار مما لم يعُدْ يؤمن به أو يراه، أو أن ما استقر عليه الشهيد من رأي وفكر قد تجاوزها وتخطاها إلى منطلق جديد، وطريق أكثر استقامة وأرحب ميداناً..".
إن حُسن الظن بالشهيد سيد رحمه الله؛ مع ما مضى؛ يكفي لرد الفرية التي تلقفها الشيخ العفاسي ونشرها على "تويتره"، لكن "هواة التجريح" يرفضون اللجوء إلى حسن الظن في هذه الحالات، إذ يحصرون ممارسة هذه العبادة بمن هم على شاكلتهم، فإليهم نسوق المزيد، لعل الله يهديهم..
بيّن سيد قطب رحمه الله في "الظلال" (4: 2192-2193) ما وصفه بالأثر القوي الذي تركه القرآن والسنة في نفس معاوية، وتقيّده بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
"ولقد ترك القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين أثراً قوياً، وطابعاً عاماً في هذه الناحية، ظل هو طابع التعامل الإسلامي الفردي والدولي المتميز.. رُوي أنه كان بين معاوية بن أبي سفيان وملك الروم أمد، فسار إليهم في آخر الأجل، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم؛ أغار عليهم وهم غازون لا يشعرون، فقال له عمرو بن عبسة: الله أكبر يا معاوية، وفاء لا غدر.. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان بينه وبين قوم أجل؛ فلا يحلنّ عقده حتى ينقضي أمدُها)، فرجع معاوية بالجيش".
وقال -رحمه الله- في "الظلال" (6: 3346) مقرراً أن معاوية التزم النظام العملي للمجتمع الإسلامي:
"وقال سفيان الثوري: عن راشد بن سعد، عن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه كلمة سمعها معاوية رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها..
فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي، ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب، بل صار سياجاً حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم، فلا تمس من قريب أو بعيد، تحت أي ذريعة أو ستار".
أما عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ فقد وصفه الشهيد سيد قطب بأنه عاش في إطار العقيدة، قال في "مقومات التصور الإسلامي" (ص368 - 369):
".. هنالك نجد أبا بكر وعمر، ونجد أبا ذر وعمرو بن العاص، ونجد خالد بن الوليد وجليبيب.. وكلّها وعشرات أمثالها من الطبائع والنماذج المتقابلة، عاشت في إطار هذه العقيدة، وفي إطار هذا المجتمع، متعاونةً ذلك التعاون الفريد المجيد".
ومع ما مضى؛ فليس من التجرد ودواعي البحث العلمي؛ أن نخفي أن الأوصاف التي وجهها سيد قطب سابقاً إلى معاوية وعمْرٍ رضي الله عنهما، واردة منجمةً في الروايات التاريخية عندنا معشر أهل السنة، وهي لا شك بحاجة إلى دراسة وتمحيص، ولو كان المقام يتسع لذكرها لأوردناها، إلا أن لذلك موضعاً آخر.. والله المستعان!
وكذلك؛ فإن كثيراً من العلماء -المتقدمين والمتأخرين- يذمّون معاوية وعَمْراً رضي الله عنهما، وذلك لقتالهما علياً رضي الله عنه وغير ذلك من الأمور، فلماذا التركيز على سيد قطب رحمه الله، ولومه فيما تراجع عنه؟!
خلاصة موقف سيد من الصحابة
مر سيد قطب في موقفه من بعض الصحابة رضوان الله عليهم بثلاث مراحل:
الأولى: مرحلة ما قبل التوجه "الإسلامي"، حيث كان سيد قطب متأثراً بأفكار كل من طه حسين وعباس محمود العقاد، وكلاهما -خاصة طه حسين- كانت له مواقف سلبية تجاه الصحابة، وصلت حد السب والشتم والطعن، فوقع من سيد في هذه المرحلة كلمات قاسية في حق كل من معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، وذلك في كتابه "كتب وشخصيات"، وهو عبارة عن مقالات أدبية نقدية، نشرها الشهيد في عدة مجلات ما بين عامي 1942 و1946م (انظر "سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد" ص531 للدكتور صلاح الخالدي).
الثانية: مرحلة بداية توجهه "الإسلامي"، وفي هذه المرحلة ألّف أول كتاب له في الفكر الإسلامي، وهو "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، وذلك في عام 1948م، وفي هذا الكتاب يظهر أن سيداً ما زال متأثراً -شيئاً ما- بأفكار طه حسين والعقاد، لذا فقد صدرت منه عبارات شديدة في حق عدد من الصحابة، منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتصدى للرد عليه الأستاذ محمود شاكر رحمه الله، وبيّن سيد قطب -عام 1952- في تعليقه على مقالة لشاكر؛ أنه لا يقصد الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم، وإنما غايته الدفاع عن الإسلام مما نُسب إليه في كتب التاريخ والسير.
الثالثة: مرحلة استقلاله في دراسة التاريخ، وفي هذه المرحلة أصدر طبعة منقحة من كتاب "العدالة الاجتماعية" وهي الطبعة السادسة التي أصدرتها دار "إحياء الكتب العربية" عام 1964م، وحذف منها الشهيد ما انتقده عليه الأستاذ محمود شاكر، وعدّل كثيراً من العبارات، وأضاف أموراً أخرى، تبين استقرار موقفه من الصحابة على جادة العدل والإنصاف، وظهر ذلك جلياً في "الظلال" و"هذا الدين"، حيث أثنى ثناءً طيباً على عثمان ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، وكذا كال المديح لأصحاب رسول الله في الجملة، وفعل ذلك في كتابه "معالم في الطريق"، حيث وصف الصحابة رضوان الله عليهم بأنهم "جيل قرآني فريد"، وقال تحت هذا العنوان (ص14):
"لقد خرّجت هذه الدعوة جيلاً من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم -، جيلاً مميزاً في تاريخ الإسلام كله، وفي تاريخ البشرية جميعه، ثم لم تعُد تخرج هذا الطراز مرةً أخرى".
مما سبق؛ نتيقن أن الذي خلص إليه الشهيد سيد قطب رحمه الله؛ هو الثناء على الصحابة رضي الله عنهم، وأن ما نسبه الشيخ العفاسي لسيد إنما هو كلام قديم تراجع عنه، وتبرأ منه، واستقر على خلافه، والله تعالى أعلم.
الشهيد كارم الاناضولي - خطبة بليغة له قبل إعدامه - الشهيد كارم الاناضولي - خطبة بليغة له قبل إعدامه - الشهيد كارم الاناضولي - خطبة بليغة له قبل إعدامه - الشهيد كارم الاناضولي - خطبة بليغة له قبل إعدامه - الشهيد كارم الاناضولي - خطبة بليغة له قبل إعدامه
الشهيد كارم الاناضولي - خطبة بليغة له قبل إعدامه
إيهاب زيدان وفجر النصر/ منتدى أنا المسلم 25 صفر, 1435
في 18 - 4 - 1974 وقف الشاب كارم الاناضولي امام المحكمة في قضية الفنية العسكرية والتي حكم عليه فيها بالإعدام خطب هذه الخطبة الرائعة البليغة امام قضاة مصر
اتمني ان تفرغ قليلا من وقتك ولا يفوتك هذا الفيديو لقد اجتهدت وتعبت فيه كثيرا حتي اخرجه مكتوبا وسهلا
معروف ان الفيديوهات الموجودة الان كثيرة والخطابات متنوعة اما هذا الشريط فخذ نصيحتي وحاول ان تستمع لهذا الفيديو ولا يفوتك
هذه المرافعة القصيرة تترك آثارًا في الأجيال لمدة عشرة قرون أو أكثر.. ذلك أنها مرافعة ما يسمع المرء أقوى منها أبدا..
أصدقكم القول.. أنا كلما سمعتها أهتز..!! شاب يقف أمام المحكمة.. ويواجهها بهذه المواجهة..!!
إن القضية ليست قضية الفنية العسكرية، وليست قضية صالح سرية، ولا كارم الأناضولي، إنها قضية الإسلام، قضية كل من يقول للطاغية: إني لن أعبدك ولن أعبد إلا الله.
نعم.. لقد قتلوا كارم الأناضولي، ولكن بقيت كلماته تتردد في مسامعنا، وتؤثر فينا أكثر من تأثير آلاف الكتب والمجلدات..؟!
وقد أحببت أن أضع نص هذه المرافعة بين يدي القراء، مع ثقتي الكاملة أنها لا تغني أبدًا عن سماع صوته الذي يتردد وكأنه يأتي من السماء لينذر أهل الأرض، ويرشدهم سبيل الرشاد..
مرافعــــــة كارم الأناضولـــــــي:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يُطع الله ورسوله فقد فاز ورشد، ومن يعص الله ورسوله فلن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً.
أمـا بعـــد:
فإني أعوذ بالله من فتنة القول كما أعوذ به من فتنة العمل، وإني أعلم علم اليقين أن الله تعالى حكم عدل وأنه لا يظلم مثقال ذرة، كما أني أؤمن أنكم لا تملكون لأنفسكم ضراً ولا نفعاً، ولا تملكون موتاً ولا حياة ولا نشورًا، فإن كنتم لا تملكون ذلك لأنفسكم؛ فأني لكم تملكونه لغيركم؟!
لقد بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقول الحق أينما كنا ولا نخشى في الله لوّمة لائم، ولذلك فنحن نعلن أولاً أن قوله تعالى: ** ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } نص قرآني، وبين إلهي، لم يُنسخ حتى الآن بنص دستوري أو قرار جمهوري!!
لقد اعتاد كل من أتى هذا المكان تقريبًا أن يستفتح بأن مصر هي حامية الإسلام وقلعته، ولكني لا أحكم إلا بما علمت ولا أجزم إلا بما رأيت؛ ولذلك فإني لا أقول: إن مصر ولا غيرها هي حامية الإسلام وقلعته، ولكنهم المسلمون، ولكني أقول: إن كل ما علمته ورأيته يؤكد لي أن هناك فئة في مصر تريد أن تجعل منها قاصمة الإسلام ومقبرته، ومن أوضح الأدلة على ذلك وجودنا نحن الآن في هذا المكان، فإن القضية التي أنا متهم فيها الآن، ليست قضية الفنية العسكرية، ولا قضية صالح سرية، ولكنها في حقيقة الأمر هي نفس قضية حسن البنا، هي بعينها نفس قضية يوسف طلعت وإبراهيم الطيب ومحمد فرغلي وعبد القادر عودة ومحمد هوّاش وعبد الفتاح إسماعيل، هي نفسها نفس قضية سيد قطب، وغيرهم وغيرهم من شهداء المسلمين.
ولذلك، فإنني هنا لا بد أن أشير فأقول إنهم لم يكسبوا قضية واحدة من هذه القضايا جميعها، ولقد كان النصر فيها ـ والحمد لله ـ للمسلمين، ولكن أعداء الله لا يفقهون.
ويكفي أن نقول: إنه ما كان مقتل سيد قطب إعدامًا كما صوروه وأرادوه بقدر ما كان بعثًا للإسلام والمسلمين، وما هذا الشباب المتعطّش للإسلام اليوم في الجامعات إلا بشائر هذا البعث بإذن الله، ولقد قرأنا في مجلة "صوت الجامعة " هذه الأيام، أن أخانا الشهيد سيد قطب رحمه الله هو الرجل الذي قُتل في مصر لئلا يعبد غير الله.
يقول ربنا عز وجل عن النمرود اللعين ـ وهو الذي حاج إبراهيم في ربه ـ ** ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر }
وتوضيحًا للقضية أقول: لقد وقف سيد قطب نفس موقف إبراهيم عليه السلام، إذ قال إبراهيم للنمرود، إني لن أعبدك، ولن أعبد إلا الله، وقال سيد قطب لفرعون مصر: إني لن أعبدك، ولن أعبد إلا الله، إلا أن النمرود رغم كفره وجحوده ونكرانه كان أشرف وأكرم من فرعون السابق.
وذلك لسببين: أولهما: أنه بُهت بآيات الله، كما قرر الله عز وجل، أمّا فرعون مصر السابق، فقد قال زبانيته استكباراً على الله عز وجل : " لو جاء إلهكم هنا؛ لوضعناه في زنزانة بجواركم " تعلي الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
وثانيهما: أن النمرود لم يبطش بإبراهيم عليه السلام، وقد فعل فرعون الحقير.
لقد وقفت النيابة يحاولون بكل ما أُتوا من طلاقة اللسان وآفة بيان أن يقطفوا ثمار الكيد والتدبير والتآمر ممثلة في أرواح هؤلاء، ظانين أنهم أو غيرهم يستطيعون أن يخرجوها من أنفسها بغير إذن بارئها، ومُدعية في ذلك نفس ادعاء قوم فرعون، والذي قال الله على لسانهم: ** إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون }
ولمّا كان هذا هو ادعاؤهم، فإني أجيبهم أيضًا بقول الحق تبارك وتعالي: ** وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم }
وهذا في الواقع هو صلب دفاعي أمامكم الآن، فإنني لست إلا رجل آمن بالله ورسوله، ثم اتخذ إلى ربه سبيلاً، ولم أكن رجل فكر أو داعية مذهب، ولكني حملت رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وما كان لنا من نداء قط ولا شعار غير لا إله إلا الله، لم نُردد غيرها، فوسمنا قومنا الغافلون بالهوس الديني !! تطبيقًا لقول الحق عز وجل على لسان الغافلين من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ** إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } ، يعني مجنون، يعني عندك هوس ديني.
لقد رمتنا النيابة بالضلال !! وتلك سنة الله سبحانه وتعالى بين أهل الحق وأهل الباطل من قديم الأزل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فقد بعث الله نوحاً إلى قومه فقال: ** يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره } فماذا قالوا ؟ قالوا: ** إنا لنراك في سفاهة وإنّا لنظنك من الكاذبين }
لم تبدأ هذه القضية كما زعموا في ليلة 18/ 4 / 1974م، ولكن من قبل ذلك بكثير، فقد كان شعوري بالاحتياج إلى الله سبحانه وتعالى، والافتقار إليه سبحانه قد بدأ في كياني منذ سنوات عديدة، حقًا إنه لم يظهر في صورة عملية ظاهرة لمن حولي بوضوح إلا بعد التحاقي بالكلية "الفنية العسكرية"؛ حيث أنني تلقيت صدمة كبرى كانت كفيلة بأحد أمرين:
- إمّا أن تقذفني في هوة الهلاك.
- أو تأخذني بشدة فتلصقني بقوة إلى كنف ربي الرحيم الودود.
وقد اختار لي سبحانه وتعالى الأمر الثاني فضلًا منه ونعمة ، ذلك أنني ـ بعد التحاقي بالكلية بفترة ليست طويلة ـ رأيت من الفساد والضلال والضياع ما لم أكن أتصور مجرد سماعه من قبل، رأيت الفسق والفجور موضعًا للمدح والمباهاة، ورأيت العفة والطهارة ـ بالضبط كما أراها الآن ـ توضع موضع الاتهام والسخرية والسذاجة !!
وكل ذلك كان هينًا إلى حد ما، بل كان محتملًا إلى حد ما، حتى سمعت بأذني ورأيت بعيني ما ليس بالهين ولا بالمحتمل، رأي مخلوقات في هيئة البشر وصورة الإنسان يمثلون زملاء لنا في الكلية قد نقلوا موجة السخرية والاستهزاء بمنتهى الفجور والوقاحة، من العباد إلى رب العباد، ومن المخلوق إلى الخالق تعالي ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيرًا ـ رأيتهم يتزعمون حركة رخيصة في الكلية، حتى بلغ منهم الفجور والوقاحة أن يتغنوا بالأشعار والزجل لعنًا في مالك الملك سبحانه وتعالى عما يصفون علوًا كبيرًا !!
ويحدث ذلك كله في وضح النهار، وفي وسط المحاضرات !! ولا يجدون حتى من يأمرهم بكف ألسنتهم !! وقد ساعدهم على ذلك أن هيئة التدريس في الكلية في خدمة المعسكر الاشتراكي السوفييتي ـ كانت وما تزال حتى الآن ـ وللأسف لم يمض وقت طويل حتى قلدهم في ذلك مجموعة من الببغاوات المصريين؛ فأخذوا يأتون بحركات ويتلفظن بألفاظ لم تكن تخطر ببال أحدهم يومًا من الأيام ـ فضلًا عن أن ينطقها بلسانه ـ وأخذت هذه الطائفة تزيد يومًا بعد يوم حتى أصبح هذا الوضع الحقير الرخيص يأخذ طابع الحياة من حولنا.
ولم يكن بوسعي في ذلك الوقت ـ والحمد لله على ذلك حمدًا كثيرًا طيبًا ـ لم يكن بوسعي إلا أن أعلن الولاء الكامل لله ورسوله والمؤمنين، والعداء الكامل لأعداء الله ورسوله والمؤمنين، نظرت حولي متلهفًا على طالب لله أركن إليه، وأطمئن لمعاملته، وقد كان من الطبيعي جدًا أن تكون وجهتي مسجد الكلية، ذلك المكان الذي يُفترض أن يكون مأوى لمن يسجدون لله وحده؛ ولذلك انحصرت علاقاتي جميعها في المصلين فقط، ومنّ الله علي ببعض إخوان من هؤلاء وغيرهم.
ولم أكن أشد فرحًا في حياتي من فرحي واطمئناني حين وجدت من أطمئن إلى التعامل معهم، ولكن هذا الاطمئنان لم يدم طويلًا، إذ أن زعماء الشيوعية لما شعروا بمن يقف ضدهم ولو حتى باعتزالهم ومجرد تسفيههم؛ نقلوا عداءهم فوراً، من عداء سافر وقح موجه لله في السموات العلا، إلى عداء قذر رخيص ضد أولياء الله في الأرض، فجاسوا خلال الكلية محاربة لنا بكل ما يستطيعون، وتحذيرًا بكل ما يملكون، وتشهيرًا بكل الوسائل والإمكانيات؛ حتى عرفنا الصغير والكبير في الكلية باسم المتزمتين أو الإخوان المسلمين.
وبدأت أتعرض منذ ذلك الوقت لمضايقات كثيرة في جميع المجالات من نفوذ ونشاط ذلك التيار الشيوعي الجارف، منها مثلًا أن اللواء إبراهيم عبد النبي كبير المعلمين في الكلية ـ وكان وقتها مديرًا للكلية ـ تكلم عنا في المسجد، وقام بتحذير الطلبة في الكلية تصريحًا من أن يطالبوا زملاءهم بمجرد ضرورة المحافظة على الصلوات.
ومنها أيضًا أنني شخصيًا تعرضت لمحاكمة عسكرية صغيرة بشأن النشاط الإسلامي في الدعوة، كان آخرها قبل موضوع التمثيلية هذا بحوالي شهر، وذلك على مستوى قائد السرية التي كنت أنا طالبًا فيها ـ ولا يزال هذا القائد موجودا في الكلية حتى الآن ـ اتهمني فيها أنني أشكل جماعة من الإخوان المسلمين داخل الكلية، ودليلهم على ذلك عدم التعامل مع الشيوعيين، وحتى من الناحية العلمية البحتة فقد أجبرت على تنفيذ المشروع النهائي اللازم للتخرج بالاشتراك مع اثنين من طلبة فرقتي من أكبر زعماء الماركسية ودعاتها، الأمر الذي يجبرني على ملازمتهم طوال مدة البحث والإعداد والتنفيذ للمشروع، كما أُجبرت أيضًا على أن يكون المشرف معي على هذا المشروع من المعيدين المسيحيين في الكلية، و كل ذلك ثابت في كشوفات الكلية.
وأصبحت العيون علينا في كل مكان، والأشباح تطاردنا كلما ذهبنا هنا أو تحركنا هناك، ولقد صبرنا على كل ذلك، ولكنهم لم يصبروا علينا !!
ومع ذلك فقد أرادوا أن يكون آخر مشهد من هذه القضية مروعًا، حيث كنت في المخابرات الحربية مقيد اليدين بطريقة ممتازة يضيق بها القيد حيث شاءوا حتى يعصر الساعدين، ومعصوب العينين، وملقى في زنزانة، حاولت جاهدًا أن أرى ما حولي، ونجحت المحاولة، وندمت على نجاحها، فلم أر سوى الدماء تلطخ الجدران من أمامي، ثم صُمّت أذناي بصراخ التعذيب ينبعث فجأة من كل مكان حولي، وأبواب زنازين تُفتح ثم تغلق، ثم تُفتح ثم تُغلق، ومكثت أنتظر دوري، وجاء الدور سريعًا جدًا، فساقني شئ ما، حتى أوقفني في مكان ما، وسمعت ضحكات الشياطين وهى في غاية السعادة والغبطة بالفريسة المقيدة أمامهم وبدأ اليوم الرهيب ولقد كانت كل وسائلهم للتعذيب محلاة ببعض الألفاظ التي أربأ بلساني أن ينطقها وبإخواني أن يسمعونها.
وفى منتصف النهار أوقفوا التعذيب، ثم رفعوا العصابة عن عيني بعد أن قيدوني بأحد المقاعد الموجودة، لأجد أمامي نموذجًا من ضحاياهم.
وجدت أخي حسن السحيمي ـ لم أكن أعرفه يومها ـ وجدته أمامي كتلة من الدماء لا أستطيع تمييز جوارحه، فضلًا عن تمييز ملامحه !! وهُددت أنني سوف أُصبح مثله في دقائق، ووضُعت العصابة مرة أخرى، وأعيد الحال كما كان.
وما قلت ذلك إلا لأوضح حقيقة القضية.
ثم أقول لكم: إن كنتم حقًا أهل حق، أو دعاة حق، أو تريدون حق.. فعليكم أولًا أن تضعوا أمثال هؤلاء وهؤلاء في هذا المكان.. فإن أبيتم فإني أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا.. أدعوكم لأن تنظروا معي بعين الحقيقة لما حولكم وما أمامكم.. ولكي تنظروا بعين الحقيقة تخيلوا معي أن هذه القاعة بما فيها ومن فيها وبهيئتها هذه وشكلها قد أُخذت أخذة واحدة، أخذة عزيز مقتدر فاستقرت أمام عرش الملك الجبار المنتقم ليقر فيها أمره الذي لا مرد له.. تخيلوا معي ذلك، ولا تظنون أنه خيالًا، فإنه واقع في يوم لا مرد له من الله.. ** يومئذ يصدعون من كفر فعليه كفره ومن آمن وعمل صالحًا فلأنفسهم يمهدون }
فإن أبيتم ذلك أيضًا؛ فلا يسعني إلا أن أقول لكم: إن قفص الاتهام الحقيقي أو قفص الاتهام بعين الحق الأزلي، هو هذا الحاجز الخشبي، وليس هذا الحاجز الحديدي..
فإن كنتم تحكمونني بتهمة الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر؛ فإنني والله لمؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، لن أحيد عن ذلك بإذن الله، وأسأل الله التوفيق..
وإني أقول لكم قول المؤمنين : ** اقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا }.
وإن كنتم تحاكمونني بتهمة ما تسمونه قضية الفنية العسكرية أو قضية صالح سرية، فيعلم الله أنني ما كنت أعلم مسمى لهذا الاسم.
وبعـــــــــــــد،،،
فإن كان ذلك دفاعًا فبها، وإلا فلست في حاجة إلى دفاع مدافع، فإن الله يدافع. ولكنكم لا بد أن تعلموا أن الجلسة الأخيرة من هذه المحاكمة لن تكون على ظهر الأرض قاطبة، ولكنها سوف تكون أمام الملك الديان؛ ولهذا يستوي لدينا الآن حكمكم علينا بالبراءة مع حكمك بالإعدام.. بل إن الله يعلم أن لنا ستة من إخواننا الشهداء سبقونا، ونحن في أشد الشوق إليهم وأحرص ما نكون على لقائهم.
فإن عدلتم عدلتم لأنفسكم، وإنّا بالله عز وجل عنكم وعن عدلكم لفي غني..
وأخـــــــــــيرًا..
أتلو بلاغًا من رب العالمين لأعداء الإسلام والمسلمين..
أقول لهم: تآمروا .. أو لا تتآمروا .. امكروا .. أو لا تمكروا ، فإن الله يمكر من فوق سبع سماوات .. ** وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام يوم تُبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب هذا بلاغ للناس ولينظروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب }.
.رحمة الله عليه http://www.awda-dawa.com/Pages/Artic...aspx?id=21789#
تجويع مخيم اليرموك فضيحة تاريخية - تجويع مخيم اليرموك فضيحة تاريخية - تجويع مخيم اليرموك فضيحة تاريخية - تجويع مخيم اليرموك فضيحة تاريخية - تجويع مخيم اليرموك فضيحة تاريخية
تجويع مخيم اليرموك فضيحة تاريخية
صحيفة القدس العربي
06/01/2014 - 3:53pm
تجويع مخيم اليرموك
حصار مخيم اليرموك وتجويعه حتى الموت فضيحة متكاملة الأركان. فهذا أول مخيم فلسطيني يقوم على حصاره وتجويعه أشخاص وفصائل محسوبة على الفلسطينيين أنفسهم، ونعني، بشكل رئيسي، تنظيم الجبهة الشعبية القيادة العامة.
بدأت مأساة مخيم اليرموك يوم 16 ديسمبر 2012 حين دخلت كتائب معارضة للنظام السوري إلى المخيم وطردت ما يسمى "اللجان الشعبية" وعناصر "القيادة العامة" التي استنجدت بجيش النظام "المقاوم" فقام بقصف المخيم بالطيران وسقط أكثر من مائتين من أهاليه قتلى.
هذا الهجوم العنيف إضافة إلى شائعات بثتها وسائل إعلام النظام عن اتجاه الجيش النظامي للدخول إلى المخيم و"تطهيره" من المسلحين أدت إلى موجة نزوح كبيرة من المخيم، داخل وخارج سوريا، لكن كثيرين من أهل المخيم، وخصوصاً الفقراء منهم، لم تكن لديهم خيارات أخرى غير البقاء، فاعتبرتهم الفصائل الفلسطينية المؤيدة للنظام السوري متعاطفين مع المسلحين وباشرت خطة للانتقام منهم.
منذ قرابة الستة أشهر منع الحاجز الرئيسي على باب المخيم الناس من الخروج أو الدخول، كما منع دخول أية مواد غذائية، وأية تحويلات مالية قادمة من الخارج، ولم تعد هناك أشغال يعتاش منها الناس، وشحّت المواد وغلت أسعارها، وصار كلّ من يحاول الاقتراب من الحواجز التي تحيط بالمخيم هدفاً للقنص والقتل.
لا يتحمّل احمد جبريل زعيم "القيادة العامة" مسؤولية هذا الانجاز التاريخي الأول (حصار الفلسطينيين لفلسطينيين حتى الموت) وحده، فممثلو الفصائل الفلسطينية الأربعة عشر، والتي تحوّلت إلى ما يشبه الكيانات التي لا وجود لها إلا بالاسم، أخذوا بوضع شروط إضافية لدخول المؤن أو للهدنة، فيما كشفت الهيئة الوطنية الفلسطينية، وهي الهيئة الممثلة لمنظمة التحرير الفلسطينية في المخيم، عن عجزها المشين عن إدخال قليل من الغذاء والدواء للسكان الجوعى والمحاصرين.
بعض المؤسسات الأوربية تصل مساعداتها إلى سوريا وتحصل على "الموافقات الرسمية" لإدخالها إلى المخيم لكن حدود هذه الموافقات تتوقف عند مدخل الحاجز وتعود أدراجها.
فلسطينيو المخيّم الذين كانوا يتضامنون بقوّة مع غزة ورام الله ومع كل آلام الشعب الفلسطيني في لبنان والأردن والمنافي لم يجدوا من يتضامن معهم، وهم نهبة لإحساس كبير بالخذلان ليس من الفصائل ومنظمة التحرير فحسب بل حتى من باقي الشعب الفلسطيني.
حتى وقفات التضامن الرمزية التي حصلت في رام الله وغزة وغيرهما بدت كأنها تضامن مع شعب تعرّض لزلزال أو كارثة طبيعية، في حين تمّ تجاهل آلامهم حين كانوا يموتون بقصف النظام السوري عليهم.
إحساس أبناء المخيم أنهم ضحية لمؤامرة جديدة يتشارك فيها النظام السوري (بتنفيذ من الفصائل التابعة له) مع السلطات الفلسطينية التي ترسل وفودها كل فترة للنظام وتبيعه تصريحات المديح المجانية لدولة المقاومة ورئيسها بشار الأسد دون أن يرى فلسطينيو المخيم أثراً ايجابياً لها عليهم ولو هدنة بسيطة تدخل فيها المؤن والأغذية والمساعدات لشعب يفترض أن هذه المنظمة تمثله.
يعتقد فلسطينيو سوريا، أن سعي النظام السوري لتهجير مئات الآلاف منهم الى بقاع الأرض البعيدة هو جذر "المؤامرة" عليهم، وهو مبرّر سكوت النظم الرسمية العالمية والعربية (وكثير من الفلسطينيين للأسف) على ما يحصل ضدهم.
تتعامل المرجعيّات الفلسطينية، مع قضية مخيم اليرموك ببرودة "إكلينيكية"، تقوم على تعقيم قضيتهم كما لو أنها قضيّة إغاثة إنسانية، نازعة الطابع السياسي عنها، وارتباطها بنضال الشعب الفلسطيني كلّه ضد الاحتلال والاستبداد بكافة أشكالهما، وضد إسرائيل كما ضدّ النظام السوري، وهو النظام الذي دفع الفلسطينيون بدمائهم فاتورة أجندته المستمرة لإخضاعهم بالقوة.
حصار مخيم اليرموك، هو باختصار، جريمة كبرى بحق الشعب الفلسطيني يقوم بتنفيذها النظام السوري بتواطؤ عالميّ وعربيّ.
الشتاء غنيمة العابدين - الشتاء غنيمة العابدين - الشتاء غنيمة العابدين - الشتاء غنيمة العابدين - الشتاء غنيمة العابدين
الشتاء غنيمة العابدين
أقبل الشتاء ربيع المؤمنين وجنة العابدين، ليله قيام ونهاره صيام فإليكم به واستقبلوه بحفاوة وإكرام.
كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى. فيقول: الصيام في الشتاء. [1].
قال عمر رضي الله عنه: "الشتاء غنيمة العابدين".
وقال عبد الله بن مسعود: "مرحبًا بالشتاء تتنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام".
وقال الحسن البصري: "نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه". ولذا بكى المجتهدون على التفريط -إن فرطوا- في ليالي الشتاء بعدم القيام، وفي نهاره بعدم الصيام.
ورحم الله معضد بن يزيد العجلي حيث قال: "لولا ثلاث: ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله ما باليت أن أكون يعسوبًا".
هذا حال السلف؛ إخواني؛ فهلموا لنقتدي بهم لعل الله أن يرحمنا، ولنتذكر إخوانًا لنا مسلمون يعصف بهم الشتاء ولا غطاء يحميهم، ولا ملبس يدفيهم، فتذكروهم، وأمدوا أيديكم لهم بما تجود أنفسكم، فمن فرج عن أخيه كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة..
الخلافة العثمانية .. النشأة والنفوذ - الخلافة العثمانية .. النشأة والنفوذ - الخلافة العثمانية .. النشأة والنفوذ - الخلافة العثمانية .. النشأة والنفوذ - الخلافة العثمانية .. النشأة والنفوذ
الخلافة العثمانية .. النشأة والنفوذ
د. راغب السرجاني
الدولة العثمانية في أوج اتساعها
نشأة الدولة العثمانية
تركيا الحالية لم يكن لها وجود كدولة قبل الإسلام ولا في عصوره الأولى، حتى حدثت القصة الشهيرة بانتقال قبيلة «قابي» المنتمية إلى قبائل «الغز» ذات الأصل التركي من بلادها، وذلك في أوائل القرن السابع الهجري الموافق للثلث الأول من القرن الثالث عشر الميلادي؛ خوفًا من اكتساح التتار؛ حيث وجدوا معركة بين جيش السلاجقة المسلمين بقيادة السلطان علاء الدين الأول، وبين جيش الروم، فانضموا لإخوانهم المسلمين، وتحقَّق النصر لهم بفضل الله عز وجل، فكافأهم السلطان السلجوقي بإقطاعهم أرضًا في ذلك المكان، وجعل كبيرهم (أرطغرل) أميرًا على هذه الإمارة الناشئة [1].
ولما مات أرطغرل عام (687هـ=1288م) خلفه في حكم الإمارة ابنه عثمان بن أرطغرل الذي تُنسب إليه الدولة العثمانية، فكانت نشأة الدولة العثمانية مرتبطةً بالإسلام والجهاد في سبيل الله وقائمةً عليهما، ثم دارت الأيام، واتسعت تلك الإمارة حتى صارت دولة تقوم على أساس الإسلام، وتحمَّلت هذه الدولة عبء نشر الإسلام في أوربا، والدفاع عن المسلمين ضد الغزو الصليبي، وقامت بفتوحات كبيرة وعظيمة توَّجها السلطان محمد الفاتح بفتح القسطنطينية[2].
الخلافة العثمانية في مواجهة المخططات الصليبية
ثمَّ تحوَّلت الدولة إلى خلافة تسعى إلى توحيد العالم الإسلامي تحت راية واحدة، وتحت منهج واحد هو الإسلام، وقد كان للخلافة العثمانية دور مهمٌّ للغاية في نشر الإسلام في أوربا، كما قدَّمت خدمات جليلة للعرب والمسلمين، يأتي في مقدمتها حماية الشرق العربي والإسلامي من الغزو الاستعماري لمدَّة ثلاثة قرون كاملة؛ حيث تصدَّت للمخطَّطات الصليبية البرتغالية منذ القرن العاشر الهجري الموافق لأوائل القرن السادس عشر الميلادي، ومنعت تغلغله إلى الحجاز لتنفيذ مخطط صليبي بالغ القسوة والوحشية، كان يهدف إلى الزحف على مكة المكرمة واقتحام المسجد الحرام وهدم الكعبة المشرَّفة، ثم موالاة الزحف منها إلى المدينة المنورة لنبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم استئناف الزحف الآثم إلى بيت المقدس والاستيلاء على المسجد الأقصى، وبذلك تقع المساجد الثلاثة الكبرى في الإسلام تحت سيطرة البرتغاليين [3].
كذلك حافظت الخلافة العثمانية على إسلام وعروبة سكان الشمال الإفريقي من أخطار الغزو الصليبي الاستعماري الأوربي بقيادة البرتغال وإسبانيا بهدف إنشاء ممالك نصرانية تتناثر على الساحل الشمالي الإفريقي؛ حتى يصير البحر المتوسط في المدى البعيد بحيرة نصرانية أوربية، ويعقب ذلك تغلغل صليبي أوربي إلى الداخل الإفريقي، وقد تصدَّت دولة الخلافة العثمانية لهذه المخططات وحوَّلتها إلى أحلام؛ حيث بسطت الدولة العثمانية سيطرتها على ثلاثة أقاليم في الشمال الإفريقي، وهي الجزائر وتونس وطرابلس، بعدما استنجد أهالي هذه البلاد بالدولة العثمانية كأكبر وأقوى دولة إسلامية لإنقاذهم من الزحف الاستعماري الأوربي [4].
الدولة العثمانية ووحدة الأمة
وقد أوجدت دولة الخلافة العثمانية وحدة بين الولايات العربية التي دخلت في سيادتها، فاحتفظت كلٌّ منها بمقوماتها الأساسية؛ مثل: الدين الإسلامي، واللغة العربية، والثقافة العربية الإسلامية، والعادات والتقاليد الموروثة عبر العصور، ولم تلجأ الدولة العثمانية إلى إقامة حدود مغلقة أو حواجز مصطنعة فيما بين الولايات العربية؛ فكانت حرية الانتقال والسفر مكفولة أمامهم في جميع الأوقات، وكذلك فرص العمل، وكان في مقدور المواطن الذي يسكن في دمشق على سبيل المثال أن ينتقل إلى بغداد أو القاهرة أو القيروان أو غيرها من كبرى المدن العربية، ويعيش فيها، ويمارس النشاط الاقتصادي دون أن يتطلب ذلك الحصول على إذن بالخروج أو الدخول أو الإقامة، مما نعاني منه في واقعنا المعاصر [5]..
بذلك أعادت دولة الخلافة العثمانية للعالم العربي والإسلامي وحدته، بعدما تفتَّت بسقوط الدولة العباسية في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي عقب الاجتياح المغولي، وسقوط وتخريب مدينة بغداد حاضرة الخلافة؛ ولذلك يُقِرُّ عدد غير قليل من المؤرِّخين بأن الوحدة العربية والإسلامية التي تمت على أيدي العثمانيين تُعتبر نقطة البداية في تاريخ العرب الحديث [6].
العثمانيون واليهود
كما لا يمكننا الحديث عن مآثر الخلافة العثمانية دون أن نذكر موقفها من محاولات اليهود المتكرِّرة لاستيطان فلسطين؛ فعندما فتح السلطان سليم الأول [7] مصر في عام (922هـ=1517م) أصدر على الفور فرمانًا بمنع اليهود من الهجرة إلى سيناء، ولمَّا تولَّى ابنه سليمان القانوني [8] عرش الدولة في عام (926هـ=1520م) أكَّد استمرار العمل بفرمان والده؛ مما يدلُّ على يقظة الدولة العثمانية وتنبُّهِهَا المبكِّر للطموح اليهودي في الاستيلاء على هذه المنطقة [9].
وفي الوقت نفسه شعر الأوربيون بالخطر التركي «العثماني» على أوربا في المرحلة التي تلت الحروب الصليبية، حين وصلت الطلائع التركية إلى شبه جزيرة البلقان، فكانت الحروب العثمانية في أوربا، وكانت أوربا -الخارجة مهزومة ومنهكة من حروبها في الشرق الإسلامي- عاجزة عن وقف التمدد العثماني الإسلامي، الذي وصل حتى مدينة فيينا في عام 1683م [10].
من هنا صارت تلك الخلافة الإسلامية العثمانية هدفًا لأعداء الإسلام من الصليبيين واليهود، الذين أخذوا يتآمرون عليها، ويكيلون لها الضربات، في الوقت الذي كان هناك العديد من الأخطاء التي تفشَّت في جسد الخلافة العثمانية، وتسبَّب ذلك في تضعضع بنيانها.
[1] محمد فؤاد كوبريلي: قيام الدولة العثمانية، ص119-126.
[2] عبد العزيز الشناوي: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، ص33، 35.
[3] إسماعيل أحمد ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص236.
[4] محمد أنيس: الدولة العثمانية والشرق العربي، ص45، 46.
[5] إسماعيل أحمد ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص239.
[6] عبد العزيز الشناوي: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، ص936.
[7] هو: السلطان سليم الأول ابن السلطان بايزيد الثاني بن السلطان محمد الفاتح (1470- 1520م)، سلطان الدولة العثمانية، وأول مَنْ تلقب بأمير المؤمنين من خلفاء بني عثمان، وفي عهده ظهرت السلالة الصفوية الشيعية في إيران وأذربيجان، فانتصر عليهم، ثم انتصر على المماليك، فأصبح العثمانيون هم القوة الإسلامية الكبري والوحيدة تقريبًا في أيامه.
[8] هو: السلطان سليمان القانوني بن سليم الأول (1495م - 1566م)، أحد أشهر السلاطين العثمانيين، ولد في مدينة طرابزون حين كان والده واليًا عليها، وحكم 48 عامًا تقريبًا منذ عام 1520م، وزادت مساحة الدولة العثمانية بأكثر من الضعف خلال فترة حكمه.
[9] إسماعيل أحمد ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص247.
[10] محمد نور الدين: تركيا الجمهورية الحائرة، ص22.
طارق بن زياد فاتح الأندلس - طارق بن زياد فاتح الأندلس - طارق بن زياد فاتح الأندلس - طارق بن زياد فاتح الأندلس - طارق بن زياد فاتح الأندلس
طارق بن زياد
تامر بدر
طارق بن زياد قائد عسكري أموي فتح الأندلس؛ حيث قاد أول الجيوش الإسلامية التي دخلت شبه جزيرة أيبيريا، وصاحَبَ الانتصار الإسلامي الكبير في معركة وادي لكة، ويُعتبر من أشهر القادة العسكريين المسلمين في التاريخ، ويحمل جبل طارق جنوب إسبانيا اسمه.
نشأة طارق بن زياد
وُلِدَ طارق بن زياد في عام (50 هـ= 670م) في خنشلة في الجزائر في قبيلة نفزة؛ وهي قبيلة بربرية، وهكذا فإن هذا البطل العظيم لم يكن من أصل عربي، ولكنه من أهالي البربر الذين يسكنون بلاد المغرب العربي، وقد نشأ طارق بن زياد مثلما ينشأ الأطفال المسلمون، فتعلَّم القراءة والكتابة، وحفظ سورًا من القرآن الكريم وبعضًا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
جهاده في الشمال الإفريقي
ساعد حبُّ طارق بن زياد للجهاد في أن يلتحق بجيش موسى بن نصير أمير المغرب، وأن يشترك معه في الفتوح الإسلامية، وأظهر شجاعة فائقة في القتال، ومهارة كبيرة في القيادة لفتت أنظار موسى بن نصير، فأُعجب بمهاراته وقدراته، فولَّاه على مُقَدِّمة جيوشه بالمغرب؛ وهكذا أُتيح لطارق بن زياد أن يتولَّى قيادة جيوش موسى، ويشترك معه في السيطرة على بلاد المغرب الأقصى حتى المحيط الأطلسي.
وما زال يُقاتل ويفتح مدائنهم حتى بلغ مدينة الحسيمة أهم مدنهم، فحاصرها حتى دخلها، وأسلم أهلها، ولم يمضِ على ولاية موسى للمغرب عدَّة أعوام، حتى خضع له المغرب بأسره، ولم تستعصِ عليه سوى مدينة سَبْتَة لمناعتها وشدَّة تحصُّنها؛ إذ كانت سفن القوط تُزَوِّد سَبْتَة بالميرة والإمداد، فلمَّا يئس موسى من دخول سَبْتَة أقام قائده طارق بن زياد واليًا على مدينة طنجة؛ حتى تُتاح له فرصة مراقبة مدينة سبتة عن كثب، وترك تحت تصرُّف طارق تسعة عشر ألفًا من البربر بأسلحتهم وعُددهم الكاملة، مع نفر قليل من العرب ليُعَلِّمُوهم القرآن وفرائض الإسلام، أمَّا موسى فقد عاد إلى القيروان.
التفكير في فتح بلاد الأندلس
كانت بلاد الأندلس يحكمها ملك ظالم يُدعى لُذريق كرهه الناس، وفكَّروا في خلعه من الحُكم والثورة عليه بالاستعانة بالمسلمين، الذين يحكمون الشمال الإفريقي؛ بعد أن سمعوا كثيرًا عن عدلهم، وتَوَسَّط لهم الكونت يُوليان -حاكم سبتة القريبة من طنجة- في إقناع المسلمين بمساعدتهم، واتصل بطارق بن زياد يعرض عليه مساعدته في التخلُّص من لُذريق حاكم الأندلس، وقد رحَّب طارق بهذا الطلب، ووجد فيه فرصة طيبة لمواصلة الفتح والجهاد، ونَشْرِ الإسلام وتعريف الشعوب بمبادئه السمحة، فأرسل إلى موسى بن نصير أمير المغرب يستأذنه في فتح الأندلس، فطلب منه الانتظار حتى يُرسل إلى خليفة المسلمين الوليد بن عبد الملك بهذا العرض، ويستأذنه في فتح الأندلس، ويشرح له حقيقة الأوضاع هناك، فأَذِنَ له الخليفة، وطلب منه أن يسبق الفتح حملة استطلاعية يكشف بها أحوال الأندلس قبل أن يخوض أهوال البحر، فقاد طريف بن مالك حملة استطلاعية تضمُّ خمسمائة من خير جنود المسلمين؛ وذلك لاستكشاف الأمر، ومعرفة أحوال الأندلس سنة (91 هـ= يوليو 710م)، فعبرت هذه الحملة في أربع سفن قدَّمها لها الكونت يوليان، وقامت هذه الحملة الصغيرة بدراسة البلاد، وتعرَّفُوا جيدًا عليها، ولم تلقَ هذه الحملة أية مقاومة، وعادت بغنائم وفيرة.
فتح الأندلس
شجَّعت نتيجةُ حملة طريف طارقَ بن زياد بالاستعداد لفتح بلاد الأندلس، وبعد مرور أقلّ من عام من عودة حملة طريف خرج طارق بن زياد في سبعة آلاف جندي معظمهم من البربر المسلمين، وعَبَرَ مضيقَ البحر المتوسط إلى الأندلس، وتجمَّع المسلمون عند جبل صخري عُرف فيما بعدُ باسم «جبل طارق» في (5 من شهر رجب 92 هـ= 27 من أبريل 711م).
وأقام طارق بتلك المنطقة عدَّة أيام، وبنى بها حصنًا لتكون قاعدة عسكرية بجوار الجبل، وعهد بحمايتها إلى طائفة من جنده لحماية ظهره في حالة اضطراره إلى الانسحاب.
ثم سار طارق بن زياد بجيشه مخترقًا المنطقة المجاورة بمعاونة الكونت يوليان، وزحف على ولاية الجزيرة الخضراء واحتلَّ قلاعها، وفي أثناء ذلك وصلت أنباء الفتح إلى أسماع لُذريق، وكان مشغولاً بمحاربة بعض الثائرين عليه في الشمال، فترك قتالهم وأسرع إلى طُلَيْطلَة عاصمة بلاده، واستعدَّ لمواجهة جيش المسلمين, وجمع جيشًا هائلاً بلغ مائة ألف مقاتل مزوَّدين بأقوى الأسلحة، وسار إلى الجنوب للقاء المسلمين، وهو واثق كل الثقة من تحقيق النصر.
ولمَّا عَلِمَ طارق بأنباء هذه الحشود بعث إلى موسى بن نصير يُخبره بالأمر، ويطلب منه المدد، فبعث إليه بخمسة آلاف جندي من خيرة الرجال، وبلغ المسلمون بذلك اثني عشر ألفًا.
معركة شذونة .. وادي لكة .. وادي برباط
رحل لُذريق إلى بلدة شَذُونَة وأتمَّ بها استعداداته، ثم اتَّجه إلى لقاء المسلمين، ودارت بين الفريقين معركة فاصلة بالقرب من وادي لكة أو وادي برباط، وكان اللقاء قويًّا ابتدأ في 28 من رمضان 92ه = 18 من يوليو 711م، وظلَّ مستمرًّا ثمانية أيام، أبلى المسلمون خلالها بلاءً حسنًا، وثَبَتُوا في أرض المعركة كالجبال؛ رغم تفوُّق عدوِّهم في العدد والعُدَّة، ولم تُرهبهم قوَّتُه ولا حشوده، وتفوَّقوا عليه بالإعداد الجيد، والإيمان القوي، والإخلاص لله –عز وجل، والرغبة في الشهادة في سبيله.
وتحقَّق لهم النصر في اليوم الثامن من بدء المعركة، وفرَّ لُذريق آخر ملوك القوط عقب المعركة، ولم يُعثر له على أثر، ويبدو أنه فقد حياته في المعركة التي فقد فيها مُلْكَه.
طارق بن زياد واستكمال الفتح
بعد معركة وادي لكة طارد طارق بن زياد فلول الجيش المنهزم، وسار بجيشه يفتح البلاد، ولم يجد مقاومة عنيفة في سيره تجاه الشمال، وفي الطريق إلى طُلَيْطلَة عاصمة القوط كان طارق يُرسل حملات عسكرية صغيرة لفتح المدن؛ مثل: قُرْطُبَة وغَرْنَاطَة وإِلْبِيرة ومَالَقَة.
وواصل طارق سيره شمالاً مخترقًا هضاب الأندلس؛ حتى دخل طُلَيْطلَة بعد رحلة طويلة شاقَّة، بلغت ما يزيد على ستمائة كيلو متر عن ميدان المعركة التي انتصر فيها.
ولما دخل طارق مدينة طُلَيْطلَة أبقى على مَنْ ظلَّ بها من السكان، وأحسن معاملتهم، وترك لهم كنائسهم, وتابع زحفه شمالاً حتى وصل إلى خليج بسكونيه، ثم عاد ثانية إلى طليطلة، وكتب إلى موسى بن نصير يُحيطه بأنباء هذا الفتح وما أحرزه من نصر، ويطلب منه المزيد من الرجال والعتاد لمواصلة الفتح ونشر الإسلام في تلك المناطق، وتخليص أهلها من ظلم القوط.
موسى بن نصير والمشاركة في الفتح
كان موسى بن نصير يُتابع سير الجيش الإسلامي بقيادة طارق بن زياد في الأندلس، وأدرك أنه في حاجة إلى عون ومساندة بعد أن استشهد كثير من المسلمين في المعارك التي خاضوها؛ فعَبَر إلى الأندلس في ثمانية عشر ألف جندي في (رمضان 93هـ= يونيه 712م)، وسار بجنوده في غير الطريق الذي سلكه طارق بن زياد؛ ليفتح بلادًا جديدة، حتى وصل إلى طُلَيْطلَة والتقى بطارق بن زياد.
فتوحات موسى بن نصير وطارق بن زياد في الأندلس
وبعد أن استراح القائدان قليلاً في طليطلة عاودا الفتح مرَّة ثانية، وافتتحا سَرَقُسْطَة وطَرَّكُونة وبَرْشُلُونَة وغيرها من المدن، ثم افترق الفاتحان، وسار كلٌّ منهما في ناحية حتى أتمَّا فتح الأندلس.
العودة إلى دمشق
بينما القائدان يفتحان البلاد وصلت رسالة من الخليفة الوليد بن عبد الملك يأمرهما فيها بالتوقُّف عن الفتح، والعودة إلى دمشق، وكان القائدان قد نَظَّمَا شئون البلاد، وغادر القائدان الأندلس وواصلَا السير إلى دمشق عاصمة الدولة الأموية، فوصلاها بعد تولية سليمان بن عبد الملك الخلافة بعد وفاة أخيه الوليد، وقدَّما له تقريرًا وافيًا عن الفتح، فاسْتَبْقَاهما الخليفة إلى جواره، وأقام طارق بن زياد هناك مكتفيًا بما حقَّقه من فتوحات عظيمة خلَّدت اسمه بين الفاتحين العظام من المسلمين.
وفاة طارق بن زياد
انقطعت أخبار القائد طارق بن زياد إثر وصوله إلى الشام مع موسى بن نصير، واضطربت أقوال المؤرخين في نهاية طارق؛ غير أن الراجح أنه لم يُوَلَّ عملًا بعد ذلك.
لقد كان طارق بن زياد قائدًا عظيمًا؛ استطاع بإيمانه وصبره وعزيمته وإصراره أن يصل إلى هذه المكانة العظيمة، ونجح في تحقيق هذه الانتصارات لأنه كان يُفَكِّر في كل خطوة يخطوها، ويتأنَّى في اتخاذ القرار، ويجمع المعلومات قبل التحرُّك، كما كان مؤمنًا صادقَ الإيمان على يقينٍ من نصر الله حتى في أحرج الأوقات، فظلَّ ثمانية أيام يُحارب عدوَّه في لقاء غير متكافئ من حيث العدد والعُدَّة؛ لكنه تمكَّن من تحقيق النصر في النهاية بفضل الله تعالى.
وصلت العروس - وصلت العروس - وصلت العروس - وصلت العروس - وصلت العروس
وصلت العروس
فدوى حلمي
آيات الأخرس
ترتسمُ صورتها في أذهاننا وجهًا قمريًّا، ترتاح النّجوم في عينيها بلا عناء، ويفترش جبينها اللؤلؤي كوفيةً فلسطينية لتعانق الوطن، فيخجل النّهار من شمسه ويسارع لإخفائها بين السحاب، ويهمس لآيات الأخرس أنْ تتوسط السماء، لم يكن صوتها المصنوع من الكرامة والكثير من العزّة سوى طِيب قارورة عطر من زمن الحريّة، فقطرة واحدة منه تكفي لتحتضن رائحة الجنّة، وقفت كطعنة رمح نافذة في حسّ كل ذي دم وهي تزفّ نفسها في وصيتها: "خسئت العيون العربيّة النائمة التـي تنظر عبـر شاشات التلفاز على بنات فلسطين وهنّ يقاتلن، وهم في غفلتهم نائمون.
وأقول صيحتي هذه و ليسمعها كـلّ عربي مسلم أبيّ: (وا أقصاه.. وا أقصاه .. وا فلسطين.. وا فلسطين )"، ثمّ غادرت شاشة التلفاز في عام 2002م لتضبط دقات قلبها على ساعة التحرير في جنوب القدس في عملية استشهاديّة أسفرت عن هلاك ثلاثة من الصهاينة، رحلت بقوّة وبقيت صيحتها لتسجننا العمر كلّه في منفى العجز، ولأنّ عدونا لصّ خسيس قام بسرقة جثمان آيات الأخرس واحتجزها، فهكذا يتصوّرون أنّهم استطاعوا معاقبة الشهداء بعد رحيلهم، وكيف لهم أنْ يدركوا امتداد جسدها الطاهر على مساحة الأقصى الذي خرجت لتفتديه بروحها؟ فمن الأقصى يَحسنُ عروج المهاجرين ليعودوا إلى أوطانهم الأصليّة حيث لا جنّة هناك بل جنان.
اثنا عشر عامًا احتجزت جثمان آيات في مقبرة الأرقام في غور الأردنّ، واليوم تعود الطفلة المدلّلة لتسكن حضن والديها في مظاهرة شعبيّة خرج فيها الجميع، وأولئك الذين لم يعرفوا آيات ولم يروها وحتى أطفال المخيم المولودون بعد رحيل آيات، كلهم خرجوا ليستقبلوا عروس فلسطين " تتصدّى للمجرم الحسناء .. تلثم الموت وهي تضحك بشرا.. ومن الموت يهرب الزعماء" كما وصفها السفير السعوديّ في لندن غازي القصيبي، وقد كلفته هذه الأبيات نقله من منصبه بسبب اعتراض منظمة (نواب اليهود البريطانيين)، وهي ذاتها الفتاة الفلسطينية التي تعرّض الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن لذكرها في إشارة لقرارها بتفجير نفسها وعمرها لم يتجاوز 17 عامًا، يتعجبون كيف لفتاة في هذا العمر أنْ تختار هذا المصير، وقبل موعد حفل زفافها على خطيبها بستة أشهر فقط، عجبًا لمهارتهم في الخداع وقلب الحقائق فبعدما أوغلوا بدباباتهم وطائراتهم في مستقبل الشباب الفلسطيني، وبعد أن تآمرت السياسة العربيّة على أعناق السنابل الممشوقة في أحلام الفتى الفلسطيني، أرادوا من الشباب الفلسطينيّ أن يُقتل بصمت وألّا يُصدر ضجّة أو أنين بل عليه تقبّل واقعه دون مقاومة أو حلم بالتغيير، لكنّ الفتوّة الفلسطينية استطاعت أنْ تُخرج الشمسَ من سراديب الخطابات، فحياتهم كأبناء سبيل في وطنهم لم تكن خيارًا يمكن قبوله على طاولة المفاوضات، وتوّطدت علاقتهم بالأرض حتى استنشقوا من تربها عبق الجنّة، ولم يتخلوا عن نصيبهم في الحياة الدنيّا فهاهم معلمون وأطباء ومهندسون وعلماء، وخبيرون في النجاح ويطلبون السعادة، ومن الفرح يستزيدون، لكنّهم قطعوه على أنفسهم وعدًا إذا طلب الوطن شبابه تراهم يتركون كل ما بين أيديهم ويبغونها خالصة لوجه الله تعالى وحده، ليعيدوا تنسيق اللغة بالطريقة التي تعبّر عن الواقع، أنّ معظم الكبار في وطننا لم يتمّوا العشرين، وأنّ جميع السادة صغار.
آيات بدأت وصيتها بقوله سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا}، وهي رحمها الله تعالى استجمعت أنوثتها برقّة الفَراش على حبيبات الندى وارتدت الرجولة عندما خلعها الآخرون طوعًا، ففسرت الآية السابقة التفسير الصحيح، إنّ عرس آيات الأخرس لم يتأخر لحظة عن موعده، بل نحن مَنْ آثرنا عدم الحضور وتجاهلنا كل الدعوات، أمّا هي فزُفّت مع أول قطرة صدق مع الله انسابت من روحها الزكيّة، ثمّ رحلت وخلّفت بعضًا من نعل حذائها علّنا نستخلص منه درسًا أو اثنين في الفرق بين أعراس الأحياء وأعراس الأموات.
افريقيا الوسطى حرب على الاسلام - افريقيا الوسطى حرب على الاسلام - افريقيا الوسطى حرب على الاسلام - افريقيا الوسطى حرب على الاسلام - افريقيا الوسطى حرب على الاسلام
التحذير من بعض الكتب التي شوهت تاريخ الصحابة - التحذير من بعض الكتب التي شوهت تاريخ الصحابة - التحذير من بعض الكتب التي شوهت تاريخ الصحابة - التحذير من بعض الكتب التي شوهت تاريخ الصحابة - التحذير من بعض الكتب التي شوهت تاريخ الصحابة
التحذير من بعض الكتب التي شوهت تاريخ الصحابة
د. علي الصلابي
1- الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة: من الكتب التي شوهت تاريخ صدر الإسلام كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة, ولقد ساق الدكتور عبد الله عسيلان في كتابه "الإمامة والسياسة في ميزان التحقيق العلمي" مجموعة من الأدلة تبرهن على أن الكتاب المذكور منسوب إلى الإمام ابن قتيبة كذبًا وزورًا، ومن هذه الأدلة:
- إن الذين ترجموا لابن قتيبة لم يذكر واحد منهم أنه ألف كتابًا في التاريخ يُدعى "الإمامة والسياسة"، ولا نعرف من مؤلفاته التاريخية إلا كتاب "المعارف".
- إن المتصفح للكتاب يشعر بأن ابن قتيبة أقام في دمشق والمغرب، في حين أنه لم يخرج من بغداد إلا إلى الدينور.
- إن المنهج والأسلوب الذي سار عليه المؤلف في "الإمامة والسياسة" يختلف تمامًا عن منهج وأسلوب ابن قتيبة في كتبه التي بين أيدينا,؛ فابن قتيبة يقدم لمؤلفاته بمقدمات طويلة يبين فيها منهجه والغرض من مؤلفه, وعلى خلاف ذلك يسير صاحب "الإمامة والسياسة"؛ فمقدمته قصيرة جدًّا لا تزيد على ثلاثة أسطر, هذا إلى جانب الاختلاف في الأسلوب, ومثل هذا النهج لم نعهده في مؤلفات ابن قتيبة.
- يروي مؤلف الكتاب عن ابن أبي ليلى بشكل يشعر بالتلقي عنه, وابن أبي ليلى هذا هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه: قاضي الكوفة, توفي سنة 148هـ, والمعروف أن ابن قتيبة لم يولد إلا سنة 213هـ, أي بعد وفاة ابن أبي ليلى بخمسة وستين عامًا.
- إن الرواة والشيوخ الذين يروى عنهم ابن قتيبة عادةً في كتبه لم يرد لهم ذكر في أي موضع من مواضع الكتاب.
- إن قسمًا كبيرًا من رواياته جاءت بصيغة التمريض, فكثيرًا ما يجيء فيه: ذكروا عن بعض المصريين, وذكروا عن محمد بن سليمان عن مشايخ أهل مصر, وحدثنا بعض مشايخ المغرب, وذكروا عن بعض المشيخة, وحدثنا بعض المشيخة, ومثل هذه التراكيب بعيدة كل البعد عن أسلوب وعبارات ابن قتيبة، ولم ترد في كتاب من كتبه.
- إن مؤلف "الإمامة والسياسة" يروي عن اثنين من كبار علماء مصر, وابن قتيبة لم يدخل مصر ولا أخذ عن هذين العالميْن[1].
- ابن قتيبة يحتل منزلة عالية لدى العلماء فهو عندهم من أهل السنة, وثقة في علمه ودينه, يقول السلفي: كان ابن قتيبة من الثقات وأهل السنة. ويقول عنه ابن حزم: كان ثقة في دينه وعلمه. وتبعه في ذلك الخطيب البغدادي, ويقول عنه ابن تيمية: وإن ابن قتيبة من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق، والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة[2]. ورجل هذه منزلته لدى رجال العلم المحققين, هل من المعقول أن يكون مؤلف كتاب "الإمامة والسياسة" الذي شوَّه التاريخ، وألصق بالصحابة الكرام ما ليس فيهم؟![3]
مؤلف الإمامة والسياسة رافضي خبيث
يقول الدكتور علي نفيع العلياني في كتابه (عقيدة الإمام ابن قتيبة) عن كتاب الإمامة والسياسة: وبعد قراءتي لكتاب الإمامة والسياسة قراءة فاحصة ترجح عندي أن مؤلف الإمامة والسياسة رافضيٌّ خبيث, أراد إدماج هذا الكتاب في كتب ابن قتيبة؛ نظرًا لكثرتها، ونظرًا لكونه معروفًا عند الناس بانتصاره لأهل الحديث, وقد يكون من رافضة المغرب, فإن ابن قتيبة له سمعة حسنة في المغرب[4], ومما يرجِّح أن مؤلف الإمامة والسياسة من الروافض ما يلي:
(1) إن مؤلف الإمامة والسياسة ذكر على لسان علي أنه قال للمهاجرين: الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم, ولا تدفعوا أهله مقامه في الناس وحقه, فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأنَّا أهل البيت, ونحن أحق بهذا الأمر منكم.. والله إنه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله[5]. ولا أحد يرى أن الخلافة وراثية لأهل البيت إلا الشيعة.
(2) إن مؤلف الإمامة والسياسة قدح في صحابة رسول الله قدحًا عظيمًا، فصوَّر ابن عمر جبانًا, وسعد بن أبي وقاص حسودًا, وذكر محمد بن مسلمة غضب على عليّ بن أبي طالب لأنه قتل مرحبًا اليهوديَّ بخيبر, وأن عائشة رضي الله عنها أمرت بقتل عثمان[6]. والقدح في الصحابة من أظهر خصائص الرافضة, وإن شاركهم الخوارج, إلا أن الخوارج لا يقدحون في عموم الصحابة[7].
(3) إن مؤلف الإمامة والسياسة يذكر أن المختار بن أبي عبيد قُتل من قبل مصعب بن الزبير لكونه دعا إلى آل رسول الله ، ولم يذكر خرافاته وادعاءه الوحي[8]. والرافضة هم الذين يحبون المختار بن أبي عبيد لكونه انتقم من قتلة الحسين, مع العلم أن ابن قتيبة رحمه الله ذكر المختار من الخارجين على السلطان، وبيَّن أنه كان يدعي أن جبريل يأتيه[9].
(4) إن مؤلف الإمامة والسياسة كتب عن خلافة الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان خمسًا وعشرين صفحة فقط, وكتب عن الفتنة التي وقعت بين الصحابة مائتي صفحة, فقام المؤلف باختصار التاريخ الناصع المشرق وسوّد الصحائف بتاريخ زائف لم يثبت منه إلا القليل, وهذه من أخلاق الروافض المعهودة، نعوذ بالله من الضلال والخذلان.
(5) يقول السيد محمود شكري الألوسي في مختصره للتحفة الاثنا عشرية: ومن مكايدهم -يعني الرافضة- أنهم ينظرون في أسماء الرجال المعتبرين عند أهل السنة, فمن وجدوه موافقًا لأحد منهم في الاسم واللقب أسندوا رواية حديث ذلك الشيعي إليه, فمن لا وقوف له من أهل السنة يعتقد أنه إمام من أئمتهم فيعتبر بقوله ويعتدّ بروايته,؛ كالسدي فإنهما رجلان أحدهما السدي الكبير والسدي الصغير, فالكبير من ثقات أهل السنة, والصغير من الوضّاعين الكذابين وهو رافضي غالٍ, وعبد الله بن قتيبة رافضي غال وعبد الله بن مسلم بن قتيبة من ثقات أهل السنة, وقد صنف كتابًا سماه بالمعارف, فصنف ذلك الرافضي كتابًا سماه بالمعارف أيضًا قصدًا للإضلال[10]. وهذا مما يرجح أن كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الرافضي وليس لابن قتيبة السني الثقة, وإنما خلط الناس بينهما لتشابه الأسماء[11]، والله أعلم.
2- نهج البلاغة: ومن الكتب التي ساهمت في تشويه تاريخ الصحابة بالباطل كتاب نهج البلاغة؛ فهذا الكتاب مطعون في سنده ومتنه, فقد جمع بعد أمير المؤمنين بثلاثة قرون ونصف قرن بلا سند, وقد نسبت الشيعة تأليف نهج البلاغة إلى الشريف الرضيّ، وهو غير مقبول عند المحدثين لو أسند خصوصًا فيما يوافق بدعته, فكيف إذا لم يسند كما فُعل في النهج؟! وأما المتهم -عند المحدثين- فهو أخوه عليّ[12], فقد تحدث العلماء فيه فقالوا:
- قال ابن خلكان في ترجمة الشريف المرتضى: وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب هل جَمَعَهُ أم جَمْعُ أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام علي, وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه, والله أعلم[13].
- وقال الذهبي: من طالع نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي ؛ ففيه السب الصراح, والحط على السيدين أبي بكر وعمر, رضي الله عنهما, وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين، جزم بأن أكثره باطل[14].
- وقال ابن تيمية: وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على عليٍّ، ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب متقدم ولا لها إسناد معروف[15].
- وأما ابن حجر, فيتهم الشريف المرتضى بوضعه, ويقول: ومن طالعه جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي.. وأكثره باطل[16].
- واستنادًا إلى هذه الأخبار وغيرها تناول عدد من الباحثين هذا الموضوع, فقالوا بعدم صحة نسبة هذا الكتاب إلى الإمام علي [17].
ملاحظات العلماء على نهج البلاغة
نهج البلاغة ويمكن تلخيص أهم ما لاحظه القدامى والمحدثون على "نهج البلاغة" للتشكيك بصحة نسبته للإمام علي بما يلي:
(1) خلوه من الأسانيد التوثيقية التي تعزز نسبة الكلام إلى صاحبه؛ متنًا ورواية وسندًا.
(2) كثرة الخطب وطولها,؛ لأن هذه الكثرة وهذا التطويل مما يتعذر حفظه وضبطه قبل عصر التدوين, مع أن خطب الرسول لم تصل إلينا سالمة وكاملة، مع ما أتيح لها من العناية الشديدة والاهتمام.
(3) رصد العديد من الأقوال والخطب في مصادر وثيقة منسوبة لغير علي , وصاحب النهج يثبتها له.
(4) اشتمال هذا الكتاب على أقوال تتناول الخلفاء الراشدين قبله بما لا يليق به ولا يهم, وتنافي ما عُرف عنه من توقيره لهم, ومن أمثلة ذلك ما جاء بخطبته المعروفة بـ"الشقشقية" التي يظهر فيها حرصه الشديد على الخلافة, رغم ما شُهر عنه من التقشف والزهد.
(5) شيوع السجع فيه؛ إذ رأى عدد من الأدباء أن هذه الكثرة لا تتفق مع البعد عن التكلف الذي عرف به عصر الإمام علي , مع أن السجع العفويّ الجميل لم يكن بعيدًا عن روحه ومبناه.
(6) الكلام المنمق الذي تظهر فيه الصناعة الأدبية التي هي من وشي العصر العباسي وزخرفه, ما نجده في وصف الطاووس والخفاش, والنحل والنمل, والزرع والسحاب، وأمثالها.
(7) الصيغ الفلسفية الكلامية التي وردت في ثناياه, والتي لم تُعرف عند المسلمين إلا في القرن الثالث الهجري, حين ترجمت الكتب اليونانية والفارسية والهندية, وهي أشبه ما تكون بكلام المناطقة والمتكلمين منه بكلام الصحابة والراشدين[18].
إن هذا الكتاب يجب الحذر منه في الحديث عن الصحابة وما وقع بينهم وبين أمير المؤمنين علي, وتعرض نصوصه على الكتاب والسنة, فما وافق الكتاب والسنة فلا مانع من الاستئناس به، وما خالف فلا يلتفت إليه.
3- كتاب الأغاني للأصفهاني: يعتبر كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني كتاب أدب وسمر وغناء, وليس كتاب علم وتاريخ وفقه, وله طنين ورنين في آذان أهل الأدب والتاريخ, فليس معنى ذلك أن يُسكت عما ورد فيه من الشعوبيَّة والدس, والكذب الفاضح والطعن والمعايب. وقد قام الشاعر العراقي والأستاذ الكريم وليد الأعظمي بتأليف كتابه القيِّم الذي سماه "السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني", فقد شمر –جزاه الله خيرًا- عن ساعد الجد, ليميز الهزل من الجد, والسم من الشهد, ويكشف ما احتواه الكتاب من الأكاذيب ونيران الشعوبية والحقد, وهي تغلي في الصدور كغلي القدور, وأخذ يرد على ترهات الأصفهاني فيما جمعه من أخبار وحكايات مكذوبة وغير موثقة تسيء إلى آل البيت النبوي الشريف, وتجرح سيرتهم, وتشوه سلوكهم. كما تناول مزاعم الأصفهاني تجاه معاوية بن أبي سفيان والخلفاء الراشدين الأمويين بما هو مكذوب ومدسوس عليهم من الروايات. وتناول الأستاذ الكريم والشاعر الإسلامي القدير وليد الأعظمي في كتابه القيِّم الحكايات المتفرقة التي تضمنها الكتاب، والتي تطعن في العقيدة الإسلامية والدين الإسلامي, وتفضِّل الجاهلية على الإسلام، وغيرها من الأباطيل[19].
رأي القدامى في الأصفهاني
ولقد تحدث العلماء فيه قديمًا:
- قال الخطيب البغدادي: كان أبو الفرج الأصفهاني أكذب الناس, كان يشتري شيئًا كثيرًا من الصحف, ثم تكون كل روايته منها[20].
- قال ابن الجوزي: ومثله لا يوثق بروايته, يصح في كتبه بما يوجب عليه الفسق, ويهون شرب الخمر, وربما حكى ذلك عن نفسه, ومن تأمل كتاب الأغاني, رأى كل قبيح ومنكر[21].
- قال الذهبي: رأيت شيخنا تقي الدين بن تيمية يضعِّفه, ويتهمه في نقله، ويستهول ما يأتي به[22].
4- تاريخ اليعقوبي (ت 290هـ): هو أحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح العباسي من أهل بغداد, مؤرخ شيعي إمامي كان يعمل في كتابة الدواوين في الدولة العباسية حتى لقب بالكاتب العباسي, وقد عرض اليعقوبي تاريخ الدولة الإسلامية من وجهة نظر الشيعة الإمامية, فهو لا يعترف بالخلافة إلا لعلي بن أبي طالب وأبنائه حسب تسلسل الأئمة عند الشيعة, ويسمي عليًّا بالوصي, وعندما أرَّخ لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يضف عليهم لقب الخلافة وإنما قال: تولى الأمر فلان, ثم لم يترك واحدًا منهم دون أن يطعن فيه, وكذلك كبار الصحابة, فقد ذكر عن عائشة -رضي الله عنها- أخبارًا[23] سيئة, وكذلك عن خالد بن الوليد[24], وعمرو بن العاص[25], ومعاوية بن أبي سفيان[26], وعرض خبر السقيفة عرضًا مشينًا[27] ادَّعى فيه أنه قد حصلت مؤامرة على سلب الخلافة من علي بن أبي طالب الذي هو الوصيّ في نظره, وطريقته في سياق الاتهامات الباطلة هي طريقة قومه من أهل التشيع والرفض, وهي إما اختلاق الخبر بالكلية[28], أو التزيد في الخبر[29], والإضافة عليه, أو عرضه في غير سياقه ومحله حتى ينحرف معناه. ومن الملاحظ أنه عندما ذكر الخلفاء الأمويين وصفهم بالملوك, وعندما ذكر خلفاء بني العباس وصفهم بالخلفاء, كما وصف دولتهم في كتابه البلدان باسم الدولة المباركة[30]؛ مما يعكس نفاقه وتستره وراء شعار التقية.
مرجع للمستشرقين
وهذا الكتاب يمثل الانحراف والتشويه الحاصل في كتابة التاريخ الإسلامي, وهو مرجع لكثير من المستشرقين والمستغربين الذين طعنوا في التاريخ الإسلامي وسيرة رجاله, مع أنه لا قيمة له من الناحية العلميَّة؛ إذ يغلب على القسم الأول القصص والأساطير والخرافات, والقسم الثاني كُتب من زاوية نظر حزبية، كما أنه يفتقد من الناحية المنهجية لأبسط قواعد التوثيق العلمي[31].
5- كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودي (ت 345هـ): هو أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي, من ولد عبد الله بن مسعود [32], وقيل: إنه كان رجلاً من أهل المغرب[33], ولكن يرد عليه بأن المسعودي صرح بنفسه أنه من أهل العراق, وأنه انتقل إلى ديار مصر للسكن فيها[34], وإن قصد ببلاد المغرب عكس المشرق فمصر من بلاد المغرب الإسلامي فلا إشكال[35].
المسعودي شيعي
والمسعودي رجل شيعي, فقد قال فيه ابن حجر: كتبه طافحة بأنه كان شيعيًّا معتزليًّا[36], وقد ذكر أن الوصية جارية من عهد آدم تنقل من قرن إلى قرن حتى رسولنا , ثم أشار إلى اختلاف الناس بعد ذلك في النص والاختيار, فقد رأى الشيعة الإمامية الذين يقولون بالنص[37], وقد أولى الأحداث المتعلقة بعلي بن أبي طالب في كتابه مروج الذهب اهتمامًا كبيرًا أكثر من اهتمامه بحياة رسول الله في الكتاب المذكور[38], وركز اهتمامه بالبيت العلوي وتتبع أخبارهم بشكل واضح في كتابه مروج الذهب[39], وعمل بدون حياء ولا خجل على تشويه تاريخ صدر الإسلام.
كلمة أخيرة
هذه بعض الكتب القديمة التي نحذر منها, والتي كان لها أثر في كتابات بعض المعاصرين, كطه حسين (الفتنة الكبرى.. علي وبنوه), والعقاد في العبقريات، فقد تورطا في الروايات الموضوعة والضعيفة وقامت تحليلاتهما عليها, وبالتالي لم يحالفهما الصواب, ووقعا في أخطاء شنيعة في حق الصحابة . وكذلك عبد الوهاب النجار في كتابه "الخلفاء الراشدون"، حيث نقل نصوصًا من روايات الرافضة من كتاب "الإمامة والسياسة". وحسن إبراهيم حسن في كتابه "عمرو بن العاص"، حيث قرر من خلال الروايات الرافضية الموضوعة بأن عمرو بن العاص رجل مصالح ومطامع، ولا يدخل في شيء من الأمور إلا إذا رأى فيه مصلحة ومنفعة له في الدنيا[40]. وغير ذلك من الباحثين الذين ساروا على نفس المنوال, فدخلوا في الأنفاق المظلمة بسبب بُعدهم عن منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع الركام الهائل من الروايات التاريخية.
د. علي الصلابي
[1]البخاري: كتاب الفتن, حديث رقم (7109).
[2]أبو بكر الباقلاني: الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص67-69.
[3]المصدر السابق، الصفحات نفسها.
[4]ابن كثير: الباعث الحثيث ص182.
[5]ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 13/34.
[6]د. ناصر حسن الشيخ: عقيدة أهل السنة 2/740.
[7]علي العلياني: عقيدة الإمام ابن قتيبة ص90.
[8]ابن حجر: لسان الميزان 3/357, د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة 2/144.
[9]د. محمد أمحزون: المصدر السابق 2/144.
[10]ابن تيمية: الفتاوى 17/391.
[11]الإمامة والسياسة 1/12.
[12]المصدر السابق 1/54، 55.
[13]العلياني: عقيدة الإمام ابن قتيبة ص91.
[14]الذهبي: ميزان الاعتدال 3/124.
[15]الإمامة والسياسة 2/20.
[16]ابن حجر العسقلاني: لسان الميزان 4/223.
[17]الألوسي: مختصر التحفة الاثنا عشرية ص32.
[18]العلياني: عقيدة الإمام ابن قتيبة ص93.
[19]نايف معروف: الأدب الإسلامي ص53.
[20]الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 11/398.
[21]ابن حجر: ميزان الاعتدال 3/124.
[22]ابن تيمية: منهاج السنة 4/24.
[23]ابن حجر: لسان الميزان 4/223.
[24]نايف معروف: الأدب الإسلامي ص53.
[25]المصدر السابق ص54، 55.
[26]وليد الأعظمي: السيف اليماني في نحر الأصفهاني ص9-14.
[27]الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 11/398.
[28]ابن الجوزي: المنتظم 7/40، 41.
[29]ابن حجر: ميزان الاعتدال 3/123.
[30]تاريخ اليعقوبي 2/180-183.
[31]المصدر السابق 2/131.
[32]السابق نفسه 2/222.
[33]السابق 2/232-238.
[34]السابق نفسه 2/123-126.
[35]محمد صامل: منهج كتابة التاريخ الإسلامي ص431.
[36]اليعقوبي: كتاب البلدان ص432.
[37]محمد صامل: منهج كتابة التاريخ الإسلامي ص432.
[38]ابن النديم: الفهرست ص171.
[39]المصدر السابق ص117.
[40] ياقوت الحموي: معجم الأدباء 13/91-93.
الصحيح من سيرة وحشي بن حرب ومقتل حمزة - الصحيح من سيرة وحشي بن حرب ومقتل حمزة - الصحيح من سيرة وحشي بن حرب ومقتل حمزة - الصحيح من سيرة وحشي بن حرب ومقتل حمزة - الصحيح من سيرة وحشي بن حرب ومقتل حمزة
الصحيح من سيرة وحشي بن حرب ومقتل حمزة
قصة الإسلام
شاع بين كثير من المثقفين وطلاب العلم أن الصحابي الجليل وحشي بن حرب- رضي الله عنه- قبل إسلامه كان غلاما لهند بنت عتبة، فيقال: وحشي غلام هند بنت عتبة، كما شاع كذلك أن من حرّض وحشي بن حرب على قتل حمزة –رضي الله عنه- هند بنت عتبة، وليس الأمر كذلك، فوحشي بن حرب –رضي الله عنه- كان غلاما لجبير بن مطعم، وهو من حرّضه على قتل سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عم الرسول –صلى الله عليه وسلم.
الصحيح في قصة وحشي بن حرب ومقتل حمزة
أخرج ابن هشام في السيرة والبخاري في صحيحه (4072) وأحمد في مسنده (16077) كلهم بطرق إلى عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو الضمري -واللفظ للبخاري- قال: "خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار، فلما قدمنا حمص، قال لي عبيد الله بن عدي: هل لك في وحشي، نسأله عن قتل حمزة قلت: نعم، وكان وحشي يسكن حمص، فسألنا عنه، فقيل لنا: هو ذاك في ظل قصره، كأنه حميت، قال: فجئنا حتى وقفنا عليه بيسير، فسلمنا فرد السلام، قال: وعبيد الله معتجر بعمامته، ما يرى وحشي إلا عينيه ورجليه، فقال عبيد الله: يا وحشي أتعرفني؟ قال: فنظر إليه ثم قال: لا والله، إلا أني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها: أم قتال بنت أبي العيص، فولدت له غلامًا بمكة، فكنت أسترضع له، فحملت ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياه، فلكأني نظرت إلى قدميك، قال: فكشف عبيد الله عن وجهه ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: نعم، إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر، قال: فلما أن خرج الناس عام عينين - وعينين: جبل بحيال أحد بينه وبينه واد - خرجت مع الناس إلى القتال، فلما أن اصطفوا للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ قال: فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فقال: يا سباع، يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب، قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه، قال: فكان ذاك العهد به، فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولًا، فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل، قال: فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآني قال: آنت وحشي؟ قلت: نعم، قال: أنت قتلت حمزة؟ قلت: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟ قال: فخرجت، فلما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة الكذاب، قلت: لأخرجن إلى مسيلمة، لعلي أقتله فأكافئ به حمزة، قال: فخرجت مع الناس، فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار، كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي، فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته، قال: قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار، أنه سمع عبد الله بن عمر، يقول: فقالت جارية على ظهر بيت: وا أمير المؤمنين، قتله العبد الأسود.
قال شعيب الأرناؤوط: أخرجه البيهقي في "السنن" 9/97- 98 من طريق الإمام أحمد، بهذا الإسناد.
وأخرجه البخاري (4072) ، والبيهقي في "الدلائل" 3/241 من طريق حُجين بن المثنى، به. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (2949) من طريق أحمد بن خالد الوهبي، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، به. وأخرجه بنحوه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (483) ، والطبراني في "الكبير" (2950) من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، و (2947) ، وفي "الأوسط" (1821) من طريق محمد بن إسحاق، كلاهما عن عبد الله بن الفضل، به (1).
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وَالْمَحْفُوظُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ وَكَذَا أَخْرَجَهُ بن إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ جَعْفَرٍ قَالَ خَرَجْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ الله فَذكره" (2).
1- البخاري: صحيح البخاري، باب قتل حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه (3844)، تحقيق: مصطفى البغا، ، الناشر : دار ابن كثير ، اليمامة – بيروت، الطبعة الثالثة ، 1407هـ – 1987م، جـ4/ 1494.
- الإمام أحمد: مسند أحمد (16077)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001م، جـ25/ 480- 483.
- ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة: الثانية، 1375هـ - 1955م، جـ2/ 70- 73.
2- ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الناشر: دار المعرفة - بيروت، 1379هـ، جـ7/ 368.
لمحات عن العلاقة بين الرجل والمرأة - لمحات عن العلاقة بين الرجل والمرأة - لمحات عن العلاقة بين الرجل والمرأة - لمحات عن العلاقة بين الرجل والمرأة - لمحات عن العلاقة بين الرجل والمرأة
لمحات عن العلاقة بين الرجل والمرأة
د. أحمد البراء الأميري
هذه السطور محاولة لإلقاء بعض الضوء على موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة، الذي كثر الحديث فيه، وسيستمر الاختلاف حوله ما دام في الحياة رجال ونساء، وما دام الهوى والتحيّز يتغلغلان في نفوس أكثر الذين يخوضون فيه
وسنتناول هذا الحديث على شكل نقاط، بعضها في منهج البحث، وبعضها في صلب الموضوع:
أولاً: نستبعد كل حديث نبوي غير صحيح، أما الآيات الكريمة فكلها قطعي الثبوت، ويختلف العلماء في فهم مدلولاتها.
ثانياً: يتصل بهذه النقطة أن هناك فرقاً بين النص الشرعي وبين فهم النص. أعني: هناك فرق شاسع بين (قول) رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين (فهم) إمام من الأئمة أو عالم من العلماء، فالرسول الكريم معصوم وسواه ليس بمعصوم.
ثالثاً: نصوص الشريعة الجزئية تفهم في ضوء مقاصد الشريعة الكلية (مثلاً، من المقاصد الكلية: القاعدة الأساسية التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لا ضرر ولا ضرار، ففي ضوء هذه القاعدة ينظر إلى العلاقة العامة بين الزوجين وإلى النصوص التي تحكم هذه العلاقة).
رابعاً: إن حسن فهم الكتاب والسنة يحتاج إلى ثلاث أدوات لا بدَّ منها جميعاً -كما يقول أستاذنا مصطفى أحمد الزرقا رحمه الله، وإن النقص في أي واحدة منها يؤدي إلى سوء الفهم وسوء النتائج. هذه الأدوات هي:
1- التعمق في اللغة العربية ومعرفة أساليبها البيانية لأنها لغة الكتاب والسنة.
2- العقل، لأنه هو الميزان الذي ربط الله به التكليف، وعلى قدر سلامته يحاسِب المكلفين، وبه يوازن الإنسان بين الأمور، ويميز الصحيح من الفاسد، ويتجنب التناقض في سلوكه وآرائه.
3- التمكن من فقه الشريعة الذي به يعرف العالم مقاصدها، ويقيس الأمور بأشباهها، ويعرف محامل النصوص، ويميز بين الوسائل والغايات في أحكام الشريعة، ويدرك فقه الأولويات، ويعلم أن الغايات هي الثوابت، وأما الوسائل فإنها غالباً ما تقبل التبدل والتغير بتبدل الأحوال والأزمنة والأمكنة ما حُوفِظَ على الغايات.
خامساً: من المشاهد أن أهل كلّ قُطر ينظرون إلى بعض الأحكام الشرعية من خلال بيئتهم الثقافية أو تقاليدهم الاجتماعية، وهذا النظر يجعلهم يرجِّحون قول مدرسة فقهية على قولِ مدرسة أخرى، واجتهادَ إمام على اجتهاد إمام آخر. وفي موضوع المرأة الذي يدلي بدلوه فيه العالم والجاهل، والمثقف وغير المثقف، تلبس التقاليد والعادات والأعراف لباس الأحكام الشرعية.
سادساً: المرأة في الحياة ليست (زوجة) فقط. إنها: أم، وأخت، وابنة، وعمة، وخالة، وجدَّة... إلخ، ومن الخطأ النظر إليها بحيث تطغى مساحة (الزوجة) فيها على سائر المساحات...
سابعاً: معرفة سبب نزول الآية الكريمة (إن وجد)، وسبب ورود الحديث الشريف يعين كثيراً على فهمهما، وقد يتوقف الفهم على معرفتهما. وإذا وُجِدَ أكثر من نصّ في موضوع ما فيجب جمع النصوص جميعاً (الآيات والأحاديث) وفهم بعضها في ضوء بعض.
ثامناً: حتى تأخذ صورة العلاقة بين الزوج والزوجة أبعادها الصحيحة من غير تشوه يجب مقارنة واجبات المرأة مع واجبات الرجل وحقوقها مع حقوقه، لا أن نضع حقوق الزوج في كفة وواجبات الزوجة في كفة أخرى، فهذا ليس عدلاً.
تاسعاً: هناك عدد من النصوص الشرعية تصرح أو تلمّح إلى ترجيح كفة الإكرام في المعاملة إلى طرف المرأة، أوضحها ما جاء في حق الوالدة فهو أكبر بكثير من حق الوالد، وما جاء من ترغيب في إكرام الأخوات والبنات، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، أو بنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة". رواه الترمذي. وقوله: "ساووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضلاً لفضلت البنات". رواه الطبراني والبيهقي.
عاشراً: خلق الله سبحانه الرجل والمرأة مختلفين في كثير من الأمور: الفيزيولوجية، والنفسية وغيرها، ولذلك اختلفت حقوق كل منهما وواجباته باختلاف طبيعته واختلاف وظيفته، والاختلاف لا يعني عدم المساواة، إنما يعني عدم التماثل، وقد حدا هذا الاختلاف ببعض المؤلفين أن كتب كتاباً في هذا الموضوع سماه: "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة". كأنه يريد أن يقول: أنهما لشدة الاختلاف بينهما كأنما جاءا من كوكبين مختلفين (جون غراي – الكتاب مترجم إلى العربية).
آيات قرآنية وأحاديث نبوية حول علاقة الرجل بالمرأة
أحد عشر: آتي الآن إلى الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تتعلق بموضوعنا، وأحاول إلقاء الضوء عليها – على قدر علمي – لعلّ ذلك يزيل بعض الإشكالات التي قامت في نفس السائلة الكريمة:
1- القصد من خلق الذكر والأنثى، والجن والإنس هو عبادة الله، لا أن يكون أحد تابعاً لأحد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، يستوي في ذلك آدم عليه السلام، وزوجه، وذريته، والأنبياء، والرسل، والملائكة.
2- عدل الله بين الجنسين مطلق، والظلم منتفٍ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، والنقير: الشيء الطفيف، {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]، وبعضكم من بعض تفيد المساواة على أي معنىً تمّ حملها (وكلامي هنا موجه لمؤمن بعدل الله وحكمته وليس لمن يشك في عدل الله وحكمته).
القوّام: المبالغ في القيام بالأمر، وهو الذي يعتني بالمرأة ويهتم بحفظها، والقِوامة سببها أن الله تعالى فضّل جنس الرجال على جنس النساء (بصفة عامة) بمزايا منها: العِلم، والقوة الجسدية، وأن منهم الأنبياء والرسل، وقادة الجيوش... إلخ، وليس المراد نفي أن يكون بين آحاد النساء من تتفوق في علمها وفضلها على ألف رجل، فمعاجم سِير النساء حافلة بأسماء المخترِعات، والشاعرات، والعالِمات اللواتي يتفوقن على جماهير الرِّجال.
ومن أسباب التفضيل أن الرجل مكلف بالإنفاق على المرأة، فإن لم يفعل أو أنفقت هي عليه فقد نقص سبب من أسباب قوامته عليها (في بعض الحالات تصبح هي قوَّامةً عليه).
ثم بيَّنت الآية أن النساء في هذا الصدد ينقسمن إلى قسمين: صالحات، ومطيعات لله تعالى، يحفظن حق الزوج في غيابه بما حفظ الله، أي: "في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن، حيث أمرهم بالعدل عليهن، وإمساكهن بالمعروف، وإعطائهن أجورهن، فقوله: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} يجري مجرى ما يقال: "هذا بِذاك، أي هذا في مقابلة ذاك"، كما أفاده الإمام الرازي في تفسيره. والقِسم الثاني: المقابل للصالحات (ولم يقل: وغير الصالحات، أو السيئات مكتفياً بهذه الإشارة البليغة) هو الناشزات أو اللاتي يخشى نشوزهن، ونشوز المرأة على زوجها: رفع نفسها عليه، وإهمال حقوقه، وإساءة معاملته... إلخ.
يقول سيد قطب رحمه الله عند حديثه عن هذه الآية (في ظلال القرآن: 2/653 بتصرف):
"لا بدّ من أن نستحضر في الأذهان ونحن نقرأ هذه الآية تكريم الله سبحانه للإنسان بشطريه وما قرره من حقوق للمرأة يضيق هذا المجال عن الإشارة إليها".
"لقد شرعت هذه الإجراءات كإجراء وقائي عند خوف النشوز للمبادرة بإصلاح النفوس والأوضاع، لا لزيادة إفساد القلوب، وملئها بالبغض، أو بالمذلة، إنها لسيت معركة بين الرجل والمرأة يراد بها تحطيم رأس المرأة وردّها إلى السلسلة لتربط بها".
"عندما لا تنفع الموعظة يكون الهجر في المضجع، وللهجر في المضجع أدب معين، فهو في مكان خلوة الزوجين، وليس في مكان ظاهر أمام الأطفال يحسّون فيه تصدع الأسرة، ولا أمام الغرباء يذل الزوجة أو يستثير كرامتها فتزداد نشوزاً فالمقصود العلاج وليس الإذلال".
"ولكن هذه الخطوة إذا لم تفلح فهل تترك مؤسسة الزواج تتحطم إن كان هناك إجراء يحميها من التحطم". انتهى النقل بتصرف عن ظلال القرآن.
وقوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} للإباحة، وليس للأمر ولا للاستحباب، بل المستحب ألا يفعل بدليل تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الذين يضربون نسائهم ليسوا من الخِيار، وبدليل أنه لم يضرب أي واحدة من نسائه، بل منع سيدنا أبا بكر من ضرب ابنته السيدة عائشة عندما رفعت صوتها على زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبو داوود: 4999).
وخَتمُ الآية الكريمة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]. تهديد للرجال بأنهم إذا ظلموا نساءهم فإن الله عليّ كبير ينتقم لهن منهم.
5- قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]، يبيّن أن للمرأة حقوقاً على زوجها مماثلة لحقوقه عليها، وله فوق ذلك درجة القِوامة.
وبمناسبة الحديث عن القِوامة تحسن الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من النساء السويات فطرن على الاطمئنان إلى العيش في كنف رجل قوي مكتمل الرجولة يتمتع بحقّ القِوامة ويمنح المرأة مقابله العون والمساندة والحِماية والرعاية المادية والمعنوية والنفسية.
6- ويقرر معنى المساواة أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام في مناسبة أخرى: "إنما النساء شقائق الرجال". رواه الإمام أحمد وغيره.
7- حديث سجود المرأة لزوجها وردت له عدة روايات، واحدة منها: عن قيس بن سعد رضي الله عنه قال: "أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمَرزبان لهم، فقلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يُسجَد له.... فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فمنعه عليه الصلاة والسلام وقال: "لو كُنتُ آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من حق". أخرجه أبو داوود.
وتعليقي على هذا الحديث يتلخص في همسة واحدة في أذن الأزواج: من هو الزوج الذي أحلّه الدين هذا المحل الرفيع من نفس المرأة؟ أليس الزوج الذي يؤدي واجبه وينصف من نفسه، ويتخلق بالأخلاق التي حثّه الدين على التخلق بها؟
وكذلك حديث الترمذي: "أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة"، لا يعني أن ترضي المرأة زوجها لتدخل الجنة ثم تفعل ما تريد!! بل يعني أن إرضاء الزوج له أجر عظيم، وأنه أحد أسباب دخول الجنة، والله أعلم.
8- حديث الصحيحين: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح". فقه الحديث يدل على أن المرأة إذا امتنعت عن تلبية رغبة زوجها بدون سبب، فقد ارتكبت ذنباً عظيماً.
أما إذا كانت متعبة من العمل، أو من مرض، أو من تغير في الهرمونات، أو متألمة من إساءة زوجها إليها بكلام أو غيره فهي لا تدخل تحت هذا التهديد. يقول عليه الصلاة والسلام: "لا يجلد أحدكم امرأته جَلدَ العبد ثم لعله يجامعها من آخر اليوم" رواه الشيخان.
وواضح أيضاً من هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعالج وضعاً اجتماعياً فيه أخطاء يجب إصلاحها.. كما يدل على ذلك حديث أبي داوود: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "لا تضربوا إماء الله". هذه هي القاعدة الأولى.
فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئِرن النساء على أزواجهن (يعني: نشزن، واجترأن، وأسأن)، فرخَّص في ضربهن (فماذا كانت النتيجة؟)، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهنّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهنّ، ليس أولئك بخياركم"، وهذه هي القاعدة الثانية: ليس من الخيار من يضرب زوجته.
نختم هذه الفقرة بالقول: إن بعض النساء يمتنعن عن تلبية رغبة أزواجهن إذا لم يحققوا لهن مطلباً معيناً، أو رغبة ما، ويعاقبن الأزواج بذلك مستغلاّت قلة صبر الرجل عنهن، وهذا خلق سيىء، وهو المراد بالتهديد والوعيد حسبما أفهم، والله أعلم.
9- حديث الصحيحين: "استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خُلِقَت من ضِلَعٍ وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء"، وفي رواية "إن المرأة خلقت من ضلع، ولن تستقيم على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عِوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها".
الحديث سطران: بدأ بـ "استوصوا بالنساء خيراً" وانتهى بها، وكأني بالرسول عليه الصلاة والسلام يقول للرجل: إن طبيعة المرأة خلاف طبيعتك فهي عاطفية انفعالية متقلبة في الأعم الأغلب، فإذا بدر منها هذا فلا تغضب، فإنها غير ملومة لأنها هكذا خُلِقَت، وإذا أردت منها غير هذا كسرتها وكسرها طلاقها.
10- حديث الصحيحين الذي فيه: "ورأيتُ النار... ورأيت أكثر أهلها النساء... يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قطّ".
غاية ما في الحديث تحذير النساء من أخلاقٍ تدخلهن النار وتعرضهن للعقاب، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ووقع في حديث جابر ما يدل على أن المرئي في النار من النساء من اتصف بصفات ذميمة ذُكِرت، ولفظه: "وأكثر من رأيت فيها من النساء اللاتي إن اؤتمن أفشين، وإن سُئلن بخِلن، وإن سَألن ألحفن، وإن أُعطينَ لم يشكرن". وفي الحديث إغلاظٌ في النصح لإزالة هذه الصفات المعيبة.
وبعض الناس يأخذون بعض الأحاديث الشريفة، وهذا أحدها، ويتخذونها سبباً للطعن في صحيحي البخاري ومسلم، ومن ثم يشككون في ثبوت هذا الحديث أصلاً! وطائفة أخرى أسوأ حالاً يعترضون على حكمة الله فيقولون: كيف خلقهن من ضلع أعوج ثم يعاقبهن... فهؤلاء ليس هذا المقال موضع مناقشة آرائهم.
مسألة أن النساء ناقصات عقل ودين
11- حديث الصحيحين: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى فمرّ على النساء فقال: "يا معشر النساء... ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للُبّ الرجل الحازم من إحداكن" قلن، وما نقصان دِيننا وعقلِنا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟" قُلنَ: بلى. قال: "فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟" قُلن: بلى. قال: "فذلك من نقصان دينها".
الحديث مجال لكلام طويل في الفرق بين شهادة الرجل وشهادة المرأة المنصوص عليها في الكتاب العزيز {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، وهو أيضاً واحد من الأحاديث التي يحتج بها من يطعنون على السُّنة ويشككون في ثبوتها. حسبنا من التعليق عليه فيما يخص موضوعنا، أن الحديث قيل في مناسبة العيد، وهي مناسبة سعيدة لا يمكن أن يفسد صفوَها الرسول الكريم ذو الخُلُقِ العظيم بالإساءة إلى معشر النساء.
أنا أفهم أنه عليه السلام قدم للنساء نصيحة بطريقة الملاطفة كما هي عادته عندما يمازح بعض أصحابه (مثل قوله للمرأة العجوز التي طلبت منه أن يدعو لها بدخول الجنة، فقال: "لا تدخل الجنة عجوز"، فولت تبكي، فقال أخبروها أنا ستدخلها وهي شابة) ومستحيل أن يقول لهن هذا على سبيل الانتقاص بسبب أمر جُبِلن عليه ولا يدَ لهن فيه.. ولو كان انتقاصاً لكان الانتقاص للرجال أشد: فأين لبّ الرجل الحازم وعقله الذي تذهب به امرأة ضعيفة ناقصة عقل ودين، مخلوقة من ضلع أعوج؟؟
لا بد من وضع النص الشرعي في سياقه: اللغوي، والتاريخي، والاجتماعي، ومعرفة كيفية فهم المخاطبين به، لا أن نقي النصوص بمقياس فهمنا اللغوي الآن، وظروفنا الثقافية، وبيئاتنا الاجتماعية.
نصيحته صلى الله عليه وسلم – كما قال الأستاذ عبد الحليم أبو شقة في موسوعته "تحرير المرأة في عصر الرسالة": أيتها النساء إذا كان الله قد منحكن القدرة على الذهاب بعقل الرجل الحازم مع ضعفكن، فاتقين الله ولا تستعلمن هذه القدرة إلا في الخير والمعروف.
واجبات الرجل وحق المرأة عليه
جُلّ ما مضى من هذا المقال تحدّث عن "واجبات المرأة وحق الرجل عليها". بقي الحديث عن "واجبات الرجل وحق المرأة عليه"، ونلخصه في السؤال الكبير المهم، السؤال المحوري الذي يدور شطر الكلام حوله، إذ في الإشارة ما يغني ذوي الألباب عن الكلام الكثير، هذا السؤال:
من هو الرجل الذي يستحق أن يحتل تلك المكانة العالية، والذي يُدخِل رضاه المرأة الجنة؟ ولو كانت مأمورة بالسجود لأحد لأُمِرت بالسجود له؟
إنه الرجل الذي يتقي الله في أهله فلا يطالبهم بالأخذ قبل أن يعطي، والذي يكون معهم أنموذجاً للعطف والتسامح والحنان. والذي يذكر بقوله عليه الصلاة والسلام: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي". رواه الترمذي، وقوله في حجة الوداع في وصيته الأخيرة للمسلمين قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى: "ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هنّ عوانٌ عندكم..."، (يعني: أسيرات).
إنهما كفتا ميزان، ووجهان لعملة واحدة، ومخطئ من ينظر إليهما خارج هذا الإطار، والله سبحانه أعلم، والحمد لله رب العالمين.