جنـة الأرض دمشق - جنـة الأرض دمشق - جنـة الأرض دمشق - جنـة الأرض دمشق - جنـة الأرض دمشق
جنـة الأرض دمشق
د. أحمد نوفل
1- بنو أمية بنوا..
الأمويون برغم محاولات تشويههم المستميتة، رجال دولة. بنوها وبنوا حضارة، وفتحوا فتوحاً عظيمة، وصمدوا لرياح هوجاء عاتية من الروم حاولت زعزعة أطراف دولتهم من جهة الشمال والغرب، وكذا محاولات التخريب الشعوبية من أطراف الدولة الأخرى من جهة فارس، أقول صمدوا لكل هذه الزعازع.
ومن ضمن أعظم ما أنجزوا أن شيدوا لدمشق هذه المكانة حتى صارت درة الدنيا بلا مبالغة، منها تدار السياسة العالمية وترسم الخطط وتعقد الرايات وتجيش الجيوش وتسير المغازي والصوائف والشواتي وتجهز الأساطيل..
وزينوها وعمروها حتى غدت جنة من جنان الأرض، بل غدت دمشق جنة الأرض.
وفي هذه الحلقة من حلقات الحديث عن سوريا ودمشق الشام، بمناسبة ثورة الشعب في ذلك البلد الحبيب بحثاً عن الحرية والكرامة والمواطنة والقانون والمساواة والعدل.. نتكلم عن دمشق التي كانت جنة في الأرض كأنما هبطت من السماء، والبعض يريد أن يحولها إلى نار موقدة!
ولعل ما من قلم أتقن في وصف دمشق كما فعل الشيخ المفنّ علي الطنطاوي ذو اليراع والإبداع والباع والذراع، والحب العظيم للشام العظيم ودمشقها. من هنا فإني قابس لكم بعض درره، فما أسطيع وإني عاجز أن أصف عشر معشاره، ولا أملك عشر الحب الذي ملك، فتركت المساحة له وتراجعت ألف ميل، وأخليت بينكم وبين درره وروائعه وبيانه الساحر، فاقرأ واستمتع وشاركني سعادتي بكتابات الشيخ، وقبل الشيخ سطور من القدماء.
2- قال القزويني في "آثار البلاد وأخبار العباد" عن دمشق: "قصبة بلاد الشام وجنة الأرض لما فيها من النضارة وحسن العمارة ونزاهة الرقعة وسعة البقعة وكثرة المياه والأشجار ورخص الفواكه والثمار."
وقال أبو بكر الخوارزمي: "جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق، وصُغْد سمرقند، وشِعب بوّان، وجزيرة الأُبلة، وقد رأيتها كلها، فأفضلها غوطة دمشق"
وهو بلد قد خرقته الأنهار وأحدقت به الأشجار وكثرت به الثمار وهي أجل (وأجمل) مدينة بالشام كلها في أرض واسعة بين جبال تحيط بها مياه كثيرة وأشجار وزروع متصلة، وتسمى تلك البقعة الغوطة.. وليس بالمغرب مكان أنزه منه كما يقول الإصطخري، وكما في أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، وكما في كتاب: الطريق إلى دمشق. (و"المغرب" كما في تعبير الإصطخري لأنه فارسي من المشرق فسوريا له مغرب!)
وكما قال الشاعر في وصفها:
هي في الأرض جنة فتأمل كيف تجري من تحتها الأنهار
3- نهر دمشق.
تحت هذا العنوان كتب الأستاذ الأديب العلامة الشيخ علي الطنطاوي قبل حوالي ثمانين سنة من الآن (2011)، كتب يقول، وأقطف لكم مما يقول، لأني لو نقلت بكلماتي ما قال ستكون كزهور البلاستيك، فيها من الزهر لونه وشكله وليس فيها روحه وعبيره، وكتابه مطبوع قبل أكثر من نصف قرن وليس متاحاً، فأحببت أن أمتّع القاريء بعض ما أحسست به من نعيم قراءة أدب الطنطاوي رحمه الله، وهو يقصد بنهر دمشق: نهر بردى كما لا يخفى، يقول:
"بردى سطر من الحكمة الإلهية، خطته يد الله على صفحة هذا الكون، ليقرأ فيه الناس ببصائرهم لا بأبصارهم فلسفة الحياة والموت، وروعة الماضي والمستقبل، واختصت به الأمة العربية، فجمعت فيه تاريخها الجليل ببلاغة علوية معجزة.
والله الذي جعل الآية المعجزة في القرآن، هو الذي جعلها في الأكوان. وما بردى إلا سورة من قرآن الكون (للذين قد يستكثرون هذا القول أقول: أليس الله قد سمى آيات الكون آيات، فما العجيب في تسمية المجموع سوراً!؟)، وليس إعجازه في أنه يجري، ولكن إعجازه في أنه ينطق. وأن في كل شبر منه تاريخ حقبة من العصور، وتحت كل شبر أنقاض أمة من الأمم، أمة ولدت في حجره، ورضعت من لبانه، وحبت بين يديه، ثم قويت واشتدت، وبنت فأعلت، وفتحت فأوغلت، ثم داخلها الغرور، وحسبت أنها شاركت الله في ملكه، فظلمت وعتت واستكبرت، فبعث الله عليها نسمة واحدة من وادي العرم، فإذا هذه العظمة وهذا الجبروت ذكرى في نفس بردى، وصفحة في كتاب التاريخ، وإذ بأمة أخرى تخلفها. ولقد قام الفنيقيون على أنقاض الحثيين، والكنعانيون بعد الفنيقيين، والفرس بعد الكنعانيين، واليونان بعد الفرس، والروم بعد اليونان، والغساسنة بعد الروم، والمسلمون بعد الغسانيين، والعباسيون على إثر الأمويين، ثم قام صلاح الدين، ثم جاء الترك.. ثم (دخلنا المتاهة وجحر الضب وبيت النافقاء والكهف المسحور المملوء بالجان والعفاريت..) هكذا يدور الفلك في السماء، ويدور السلطان في الأرض، والسلسلة لا تنتهي، والناس لا يعتبرون. وبردى يبتسم ساخراً من غرور الإنسان. بردى وهو يجري على الأرض رمز لتاريخ الأمة العربية وهو يجري في الزمان. يخرج بردى من بقعة في الزبداني منعزلة صعبة، كما خرج العرب من هذه الجزيرة الصعبة المنعزلة. ما تجرأ على الجزيرة العربية إلا كسرى، فابتلعت الجزيرة العربية دولته كلها في القادسية وقالت للعالم: هذا جزاء من يطأ جزيرة العرب. (النص الأصلي "الجزيرة" فقط وحتى لا يلتبس بالجزيرة.. وضعت العرب والعربية، فيرجى الملاحظة، للأمانة العلمية!)
ثم يمضي الشيخ في المقارنات ولا نسترسل فنكتفي بهذا، ويسير مع بردى مرحلة مرحلة كل ذلك يقارنه بحال الأمة إلى أن قال: ثم يخرج إلى الغوطة فإذا نشق نسيمها، عاودته الحياة وعاد قوياً زاخراً عذباً، كما عادت الأمة العربية اليوم إلى الحياة، ورفعت في الشام ومصر والعراق، صروحاً جديدة، لن تلبث إلا قليلاً حتى تكون خالصة لأصحابها من دون الناس أجمعين. ثم يخاطب الشيخ بردى فيقول له: لا تحزن يا بردى أن يذل أهلك أياماً.. لا تحزن بل ثُر حتى تغسل عن قومك عار الذل للمستعمرين الفرنسيين، إنه لا يغسله إلا ثورتك، هذه سنة الحياة يا بردى.. لقد غر المستعمرين منك لينك فأرهم شدتك.. إنك لم تنس بعد جيش خالد، لقد كان ذلك أمس، وسيكون مثله في غد."أ.هـ. بتصرف وإيجاز.
وأقول يا قارئي العزيز: هل كتب عن نهر ما كتب الشيخ؟ وهل أحب بلده أحد مثل الشيخ؟ وهل أقصي محب لبلده متيم ببلده كما أقصي الشيخ؟ وهل هذا جزاء الحب المتفاني والإخلاص للبلد؟ لقد كانت دمشق تعيش بين أضلعه وتسكنه، وظلت، أكثر مما سكنها هو. ومع هذا يبعد عنها، ليتحكم فيها من هب ودب من الشبيحة والمشبوهين! وهل عرفت من مزج التاريخ بالجغرافيا فأتى بما أدهش وأمتع كما صنع الشيخ؟ أرجو أن أكون غير مبالغ، وإنما أصْدُر عن تقييم علمي موضوعي قد أخذت نفسي به في دراستي في حدود ما أعلم.
والآن إلى مقالة أخرى للشيخ أقبس لكم منها بعضاً من نورها وزهورها وعبيرها وأثيرها..
4- الجادة الخامسة في دمشق
كتب الشيخ علي الطنطاوي هذه المقالة بهذا العنوان قبل ثنتين وسبعين سنة من الآن (2011). ويبدو أن لكل بلد جادته الخامسة، ففي نيويورك في القلب من منطقة المال "ذفيفث أفنيو" أي الجادة الخامسة. وقد يكون الأمريكان أو غيرهم قبسوا الفكرة حتى صارت كأنها لهم. كما صنعوا بالبيتزا وهي إيطالية. يقول الشيخ رحمه الله: "وكيف لي بتصوير "الجادة الخامسة" للقراء وهم منتشرون في أقطار الأرض كلها؟ وكيف لي بإقناعهم، ولكل منهم بلده، وكل ببلده فخور! أن الشام درة تاج الكون، وأنها بيت القصيد في معلقة الوجود، وأنها اللذة الكبرى مجسمة، وأنها العاطفة السامية، والحب مصوراً هضاباً وصخوراً ومروجاً وبساتين.. وأن الجادة الخامسة درة دمشق، وبيت قصيدها، وأن الذي تشرف عليه، منظر أقل ما يقوله الصادق فيه، وأبعده عن المبالغة، وألصقه بالحق الصراح، أنه أجمل منظر على ظهر الأرض، وأن الله حين وزع الجمال على البقاع، فخص كل واحد منها، بنوع واحد منه، جمعه كله لدمشق، وعرضه عرضاً دائماً لأنظار أهل "الجادة الخامسة"!
ثم يصف الشيخ علي رحلة له مع ضيوف من بلد عربي (الغالب أنهم عراقيون) كانوا عائدين من الصحراء إلى دمشق فلما رأوا طلائع الخضرة قالوا: أهذه هي الغوطة؟ فضحكت وقلت: هذه سهول لها نظير في كل أرض.. فكيف تكون الغوطة التي ليس لها في الأرض نظير؟ فسرنا خلال السهول ننعم فيها النظر فنرى من جمالها ما لم نكن رأينا حتى بدت أوائل الكروم، كروم دوما.. منذا الذي لم يسمع بها، تلك التي طارت شهرتها في الآفاق، فأسكرت بمشهدها العشاق وذوي الأذواق، فقالوا: هذه هي الغوطة؟ قلت: لا بل هذه كرومها، فانتظروا الغوطة التي فتنت أجدادكم من قبلكم، وفتنت من قبلهم الفرس والروم، وتفتن كل ذي لب إلى يوم القيامة! وسرنا خلال الكروم، وهي تمتد عن أيماننا إلى حيث لا يبلغ البصر، وسرنا خلالها حتى الغوطة، فسلكنا جانباً منها يحاذي دوما وحرستا. فقلت: هذه هي الغوطة! وسكت فلم أعرّفها لهم، ولم أقَرّظها، بل تركتها تقرظ نفسها فقلتْ وأرْبتْ، على ما كان في الخيال منها، فذهب الإعجاب بالقوم كل مذهب، ونال من نفوسهم كل منال، فسكت اللسان، ونطق القلب، وقالت العينان، وشحّت اللغة.. وبلغنا دمشق، فقلت للقوم: إن في سفْر الطبيعة صفحات مختلفات في كل بلد صفحة منها.. فتعالوا أشرف بكم على صفحة فيها كل الصفحات تعالوا أطلعكم على دمشق.. وذهبت السيارة ترتقي في الطريق الصاعد إلى "المهاجرين"، وكلما علونا فيه شيئاً، بدت لنا من دمشق والغوطة أشياء حتى إذا بلغنا نهاية الطريق إلي يمشي عليه الترام انكشف لنا أعظم منظر تقع عليه عين، من ورائنا الجبل الفتّان "قاسيون"، ومن أيماننا جبل المزة ووادي الربوة، ذاك الذي يجري فيه بردى في السبعة الأنهار التي تتسلسل كأنها أطواق اللؤلؤ على أحلى جيد.. والأشجار على ضفاف الأنهار، والشلالات تنحدر تتكسر على الصخور، وتنحط تخالطها أشعة الشمس فيكون لها بريق ولمعان كلمعان الألماس.. وأين منها لمعان الألماس!
قال الشيخ علي: قلت: هل بقي من الطبيعة لون لم تحوه دمشق؟ (أقول: هل رأيت أو سمعت أو قرأت مثل هذه اللغة الأدبية الرفيعة الجميلة الشاعرة المرهفة المصوّرة؟) يقول: هذا الجبل، وهذا الوادي، وهذه السهول، وهذه البساتين، والصحراء صحراء المزة.. وأنت تجوز بهذا كله ماشياً على قدميك.. وهنالك البحيرة تبدو من وراء الغوطة. فهل بقي من الطبيعة شيء لم تحوه دمشق؟ قالوا (أي رفقاء الشيخ الضيوف الذين ذكرناهم رحمهم الله جميعاً). قالوا: لا والله، إلا أن يكون البحر، وهذا بحر من الخضرة، شهدنا أنه لا إله إلا الله، وأن دمشق أجمل بلاد الله!
قلت: شهدتم وأنتم في الجادة الأولى فكيف إذا صعدتم إلى الجادة الخامسة؟ إلى أن قال: فما أعظم الأذان عند من يسمعه من الجادة الخامسة! ينادي في الفجر الساكن الخاشع. في الجادة الخامسة يشعر الإنسان أنه يندمج بهذا الكون فيأنس به ويطمئن إليه. كل شيء في الجادة الخامسة ساكن حالم.. أرى هذا فأذكر بغداد. وما خلفت في بغداد (للشيخ في بغداد ذكريات!).. اشهدوا أني أحب بغداد.. ولكن دون حبي دمشق.. ثم ختم الشيخ مقالته بقوله اللهم إن تحت كل شجرة من أشجار الغوطة جثة شهيد مات دفاعاً عن هذه الأرض الطاهرة التي سقيت بالدم، ثم إنها لم تخلص لأهلها، ولم تنج من الغاصب الدخيل، اللهم كما جعلت دمشق درة الكون، ومنحتها ما لم تمنح بلداً، أكمل عليها نعمتك وهب لها الحرية والمجد" أ.هـ. باختصار ص39-48.
ونحن نقول: اللهم آمين.. يا سميع يا قريب يا مجيب فرّج عن البلد الحبيب.
والحديث عن البلد الحبيب حبيب ويطيب فإلى لقاء قريب..