وعاد المطر.. سرحت المزاريب ودلفت السقوف، فاضت الشوارع وارتبكت حركة الحياة ولكن.. لا أحد يتذمّر، لا أحد يتأفف، يهطل المطر فترى البِشْر في عيون الجميع، تلمحه حتى في عيون أولئك الذين قد لا تتوافق مصالحهم مع مواقيت هطوله أحياناً، (الله يبعت الخير) دعاء لطيف صادق يجمعهم ويختزل مشاعرهم وأحاسيسهم إزاء هذا الطقس الأزلي المهيب،للمطر وقع غريب في النفوس، نفوس البشر ونفوس كل الكائنات. مشهد انهمار قطراته من أعالي السماء لوحة فنية فاتنة تخلب الألباب، صوت ارتطامها بالأشياء موسيقا آسرة تطرب لها الآذان، رائحة امتزاجها بالتراب عطر أخاذ ينفذ إلى أعماق الروح،، هل لأنه رمز الخير والعطاء؟ هل لأن قطراته تبث في النفوس بقية أمل؟ أم لأسباب أبعد وأعمق غوراً في النفس الجمعية؟ النقاء؟ التطهّر؟ الطوفان؟
يهطل المطر فينشد الأطفال:
مطر.. مطر.. مطر بالنعمة انهمر بالعشب والثمر
وروح سليمان العيسى تخفق في عليائها طرباً ونشوة.
تتلبد السماء بالغيوم الداكنة وينهمر المطر فيترنم الكبار:
مطر.. مطر.. مطر
ومنذ أن كنا صغاراً كانت السماء
تغيم في الشتاء ويهطل المطر
أتعلمين أي حزن يبعث المطر
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟
وبدر شاكر السياب يطل من شرفتي حبيبته يمسح عن مقلتيها دموع الغيوم الثقال.. يغزل أنشودة المطر.
تبرق السماء وترعد مبشرّة بقدوم الضيف الخفيف فيتضرع العشاق: أخاف أن تمطر الدنيا ولست معي..
ونزار قباني يقبع خلف نافذته متدثراً بمعطفه يعالج عقدة المطر ويبحث في علاقة الجنون بالمطر.
ينهمر المطر فتجيش في الصدور ذكريات حبيبة كادت تخنقها هموم الواقع.. ذكريات حلوة ومرّة ترمي بسهام مصمية من وراء أسوار الحاضر العالية: كان المطر ينهمر مدراراً حين تلاقينا.. رذاذاً حين توادعنا.. حين تماشينا.. حين تخاصمنا.. حين تراضينا.
وأما من ساقه حظه العاثر إلى الظفر بالقبلة الأولى.. بالبسمة الأولى.. بالرنوة الأولى، في حضرة قطرات المطر فويله من سياط الذكرى كلما اكفهرت السماء أو أبرقت أو أرعدت متوعدة بزخة مطر.
كل من جرّب الغربة يعرف ذاك الشعور المبهم الذي ينتاب الغريب لدى هطول المطر، المطر هو المطر ولكن.. لا مشهد فاتن ولا صوت آسر ولا رائحة أخّاذة.. لا عطاء، لا نقاء، لا تطهّر…. المطر هو مطر الوطن وما عداه هو مجرد بخار ماء يتكاثف في الهواء ويسقط ماءً.. ماء غريب يروي أرضاً غريبة ويفرح به قوم غرباء.