قصة السلطان محمد الفاتح ( 2 ) - قصة السلطان محمد الفاتح ( 2 ) - قصة السلطان محمد الفاتح ( 2 ) - قصة السلطان محمد الفاتح ( 2 ) - قصة السلطان محمد الفاتح ( 2 )
قصة السلطان محمد الفاتح ( 2 )
محمد الفاتح السلطان الصغير
أ.د. راغب السرجاني
ملخص المقال
في عام 1444م تنازل السلطان العثماني مراد الثاني عن الحكم لابنه الأمير محمد، وكان عمره آنذاك اثني عشر عامًا ونصف فعرف بالسلطان الصغير.محمد الفاتح السلطان الصغير
كان القرار الذي أخذه السلطان مراد الثاني في أغسطس 1444م بعد معاهدات السلام التي عقدها مع القوى الصليبية وإمارة قرمان هو التنازل عن الحكم لابنه الأمير محمد وليِّ العهد، وهو البالغ من عمره آنذاك اثني عشر عامًا ونصف !!
كان القرار صادمًا لكلِّ رجال الدولة، ومفاجِئًا لكلِّ المتابعين للأحداث، خاصَّةً أنَّ السلطان مرادًا الثاني لم يبقَ في العاصمة أدرنة بعد قرار التنازل؛ إنَّما انسحب إلى مانيسا بعد أن أعطى العرش لابنه الصغير .
والحقُّ أنَّ القرار عجيبٌ من أكثر من وجه..
الوجه الأوَّل: أنَّ السلطان مرادًا الثاني -المتنازل عن العرش- كان يبلغ من العمر حين تنازل إحدى وأربعين سنةً فقط ، أي في عنفوان شبابه، ولم يكن مريضًا أو مصابًا.
الوجه الثاني: أنَّ المتنازَل له -وهو الأمير محمد- لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره!
الوجه الثالث: أنَّ الظروف السياسيَّة والعسكريَّة التي تمرُّ بها الدولة العثمانية في غاية الصعوبة؛ فهناك كتلةٌ كاثوليكيَّةٌ كبرى قد تكوَّنت في شمالها، وهي اتِّحاد المجر وبولندا تحت قيادة ڤلاديسلاڤ الثالث، وهي كتلةٌ تُمثِّل تهديدًا خطرًا للدولة العثمانيَّة، خاصَّةً مع وجود بابا متحفِّز للحروب الصليبية كالبابا أوچين الرابع، ناهيك عن خطورة استقلال إمارة صربيا، ورغبة الدولة البيزنطيَّة في الاستعانة بالكاثوليك، وتمرُّد قرمان المتكرِّر.
الوجه الرابع: هو توقيت التنازل؛ فالمعاهدة مع المجر وبولندا لم يمضِ عليها أيَّام، ولا يُستبْعَد أن يغدروا في عهدهم عند تبدُّل الظروف في الدولة العثمانيَّة، وحتى في حال عدم غدرهم فإنَّ التطوُّرات المستقبليَّة في المنطقة غير معلومة، خاصَّةً مع اضطرابات ألبانيا، بالإضافة إلى الاضطرابات الداخليَّة في الجيش العثماني.
الوجه الخامس والأخير: هو أنَّ العائلة العثمانيَّة صغيرةٌ للغاية؛ فليس هناك إلى جوار الأمير محمد أعمامٌ أو أولاد أعمامٍ يُمكن أن يقفوا معه في هذه المهمَّة؛ إنَّما أوكل الأمر إلى رجال الدولة المختلفين، وكلهم من عائلاتٍ تركيَّةٍ غير عثمانيَّة، وكان على رأسهم الصدر الأعظم خليل باشا جاندرلي Çandarli Halil Pasha، وهو من عائلة جاندرلي التركيَّة المرموقة، وكان قد تولَّى رئاسة الوزراء منذ عام 1439م ، ومع كونه شخصيَّةً مأمونة، إلَّا أنَّ عائلة جاندرلي عائلةٌ كبيرة، بل لعلَّها أكبر من العائلة العثمانيَّة نفسها، وقد تولَّى أفرادها رئاسة الوزراء في الدولة العثمانيَّة عدَّة مرَّات بدايةً من سنة 1380م ؛ أي قبل هذه الأحداث بأكثر من ستِّين سنة، وهذا كلُّه قد يُنذر بحدوث فتنةٍ في داخل الدولة العثمانيَّة إذا ما فكَّر أفراد هذه العائلة في الانفراد بالحكم، وذلك في ظلِّ وجود طفلٍ صغيرٍ على العرش.
هذه كلُّها وجوهٌ تدعو للعجب من هذا القرار المفاجئ؛ فالأمر كان متعلِّقًا بأمن دولةٍ كبيرةٍ واستقرارها، ولهذا تحيَّر المؤرِّخون في هذا القرار وأسبابه، خاصَّةً أنَّ مرادًا الثاني لم يُعلن بنفسه تفسيرًا واضحًا لهذا الفعل؛ إنَّما ترك الأمر لتكهُّنات المؤرِّخين!!
والذي يبدو أنَّ سبب هذا القرار لم يكن أمرًا واحدًا كما يفترض بعض المؤرِّخين؛ إنَّما هو تفاعل مجموعةٍ من الأسباب، التي يُمكن أن تُفسِّر حدوثَ مثل هذه المفاجأة، ويدخل في هذه الأسباب ما يلي:
أوَّلًا: أشارت بعض المصادر إلى شعور مراد الثاني بالتعب، ولم تُفسِّر نوع التعب الذي شعر به، ويُمكن أن يكون قد غلب على ظنِّه أنَّ هذا التعب قد يُفْضِي إلى الموت المفاجئ، خاصَّةً أنَّ حوادث موت أفراد العائلة العثمانيَّة في شبابهم متكرِّرة، فمات السلطان محمد جلبي والد السلطان مراد الثاني في التاسعة والثلاثين من عمره ، وأيضًا مات السلطان بايزيد الأول جدُّ السلطان مراد الثاني في الرابعة والأربعين من عمره ، ولا ننسى موت ابنين من أبناء مراد الثاني نفسه في سنِّ الثامنة عشرة، فهذا كلُّه يجعل مرادًا الثاني متوقِّعًا للموت، خاصَّةً إذا ما كان تعبه هذا كبيرًا، فلعلَّه أراد استخلاف ابنه محمد قبل أن يموت، حتى لا تتجه الأمور إلى غير ما يُريد، فكان وكأنَّه يُسابق الزمن في هذا التنازل.
ثانيًا: أعتقد أنَّ السلطان مرادًا الثاني كان يُعاني في هذه الفترة من حالةٍ من حالات «الاكتئاب النفسي»، وهي حالةٌ مَرَضِيَّةٌ وليست مجرَّد حالة حزن، ومن أهمِّ علاماتها فَقْدُ الرغبة في العمل، وحبُّ الانعزال عن الناس، وهي درجات، وقد عُدْتُ إلى التقسيم الذي قام به العالِم النفسي الإنجليزي الشهير مارك ويليامز Mark Williams لدرجات الاكتئاب وعلاقتها بالرغبة في العمل، فوجدتُ أنَّ مرادًا الثاني كان يُعاني على الأقلِّ من الدرجة الثانية في الاكتئاب، أو قد يكون في الدرجة الثالثة، والفرق بينهما أنَّ المكتئب في الدرجة الثانية يفقد الرغبة في العمل وإن كان قادرًا على القيام بالمهامِّ الموكلة إليه، أمَّا الدرجة الثالثة فهو يفقد القدرة على العمل إلى جوار فقده للرغبة ، ولو كان هذا التشخيص سليمًا فهذا يُفسِّر كلَّ شيء؛ فالسلطان فَقَدَ «الرغبة» في إكمال عمله كقائدٍ للدولة، وقد يكون فَقَدَ «القدرة» على ذلك، ومِنْ ثَمَّ كان انسحابُه حادًّا، ومفاجئًا، وسريعًا، وبلا تمهيدات، وصَاحَبَ ذلك انعزالٌ عن المجتمع بالذهاب إلى مانيسا دون النظر إلى عواقب هذا الانعزال. وهذا الاكتئاب يأتي أحيانًا في صورةٍ مؤقَّتةٍ ثم يتعافى منه المريض، وأعتقد أنَّ هذا الوضع المؤقَّت هو الذي كان عليه مراد الثاني؛ لأنَّنا رأيناه بعد هذا الانعزال بأسابيع أو شهور يعود إلى شبه طبيعته، فيعمل من جديد، ولكن ليس بنفس حماسته الأولى.
أمَّا أسباب هذا الاكتئاب فكثيرة، ويأتي في مقدِّمتها فقدان أشخاص محبوبين للإنسان، وقد فَقَد مراد الثاني ولدين من أبنائه تتابعًا، وفي ظروفٍ صعبة؛ حيث كان الولدان وَلِيين للعهد، وكانا يُساعدانه على مهامِّه الجسام، وفجأةً وَجَد نفسه وحيدًا في هذه الأزمات، كما أنَّ الظروف التي مرَّت بها الدولة العثمانيَّة في هذه الفترة كانت استثنائيَّة، وفقدت الدولة في غضون ثلاث سنوات ما اجتهدت في فتحه خلال عشرات السنين، وأُجْبِر السلطان على عقد معاهدةٍ مُذِلَّةٍ نسبيًّا لم تعقد الدولة العثمانيَّة مثلها قبل ذلك، فكلُّ هذه الأمور تقود إلى الاكتئاب، خاصَّةً لو كان هناك استعدادٌ نفسيٌّ عند الإنسان؛ كأن تكون شخصيَّته انعزاليَّةً في الأساس، أو اعتاد الزهد في مُتع الدنيا بشكلٍ عامٍّ.
إنَّ افتراض مثل هذا التشخيص للوضع يُوضِّح أنَّ مرادًا الثاني يُمكن أن يكون معذورًا في هذا القرار؛ حيث إن قدراته النفسيَّة والبدنيَّة في هذه الحالة لا تُمكِّنه من إكمال المسيرة كسلطانٍ للدولة.
ثالثًا: لا يُستبعد أن تكون التربية الصوفيَّة الروحيَّة لها أثرٌ في هذا القرار؛ فقد يتملَّك الفرد حينئذٍ رغبة في الانعزال عن الحياة بكلِّ لذَّاتها ومُتَعِها، وقد يترك مسئوليَّاتٍ جسامًا ملقاةً على كتفيه لزهده في الدنيا برمَّتها، وبالطبع ليس هذا سلوكًا سليمًا، خاصَّةً إذا كان تركه للدنيا سيُوقع مجتمَعَه وأمَّته في أزمة، بل ينبغي له أن يُرتِّب الأمور بشكلٍ جيِّدٍ قبل أن ينعزل، وقد كان رسول الله ﷺ أعظم الزاهدين في الدنيا ولكنَّه كان يقوم بكامل أعماله تجاه نفسه، وأسرته، وأصحابه، وأمَّته، دون تقصيرٍ أو إهمال، ومِنْ ثَمَّ فزهْدُ السلطان مراد الثاني ليس مسوِّغًا بمفرده في منح العذر له، وإن كان يؤخذ في الاعتبار إلى جوار الأسباب الأخرى.
رابعًا: أمَّا السبب الرابع فهو مهمٌّ جدًّا، ويكمن في إحساس مراد الثاني بأنَّ مستقبل الدولة العثمانيَّة صار في خطرٍ كبيرٍ بعد فَقْد وليِّ العهد الثاني، فلم يبقَ إلَّا الأمير محمد، فلو مات مراد الثاني لأيِّ سببٍ عارضٍ فإنَّ انهيار الدولة سيكون متوقَّعًا جدًّا، ولذلك من الممكن أن يكون تنازل مراد الثاني للأمير الصغير هو نوعٌ من دعم استقرار الدولة مستقبلًا، على أساس أنَّه يفعل ذلك في حياته، فحتى لو انسحب إلى مانيسا فهو يراقب الأمر من بعيد، وسيكون جاهزًا للظهور في أيِّ لحظةٍ تحتاجها الدولة، وسيقف إلى جوار ابنه إذا ما تطلَّب الأمر ذلك، وعلى ما أعتقد أنَّ مرادًا الثاني كان يرغب في القيام بهذه الخطوة منذ أكثر من عام عندما مات علي علاء الدين وليُّ العهد، ولكن ظروف الدولة العسكريَّة والسياسيَّة لم تكن تسمح بذلك، فلمَّا عقد السلطان معاهدتين مع المجر وقرمان، حان وقت تنفيذ الرغبة المؤجَّلة، ولهذا كان الأمر سريعًا بهذه الصورة، ممَّا قد يعني أنَّ الترتيب له كان معدًّا من قبل، وليس مستبعدًا أن يكون الأمر مرتَّبًا من قبل مع الصدر الأعظم خليل جاندرلي، أو مع بعض القادة في الجيش
.إنَّ مراجعة تاريخ مراد الثاني يُؤكِّد أنَّ هذا السبب الرابع له مكانٌ في قصَّتنا؛ لأنَّه مرَّ بصراعاتٍ كثيرةٍ عندما تسلَّم الحكم عام 1421م، ولولا توفيق الله سبحانه وتعالى له ما وصل إليه الحكم قط، ولولا لطف الله بالدولة العثمانيَّة لانقسمت في هذه الصراعات عدَّة أقسام، فأراد مراد الثاني أن يُجَنِّب دولته مثل هذا المصير بالاطمئنان على مستقبلها تحت قيادة وليِّ العهد، ويُؤخَذ في الاعتبار أيضًا أنَّ مرادًا الثاني أدار الدولة بكفاءةٍ من أوَّل يومٍ تسلَّم فيه الحكم، وقد كان حينئذٍ في السابعة عشرة من عمره، ولم يكن أبوه السلطان محمد چلبي إلى جواره لموته المفاجئ، أمَّا الوضع الآن فأفضل؛ إذ إنَّ أمارات النجابة والذكاء عند الأمير محمد أعلى منها عند السلطان مراد الثاني يوم أن تولَّى الإمارة، والتربية التي تلقَّاها هذا الأمير الصغير أفضل من التربية التي تلقَّاها مراد الثاني في طفولته، بالإضافة إلى أنَّ السلطان نفسه سيكون موجودًا إلى جوار ولده إذا احتاج إليه، بينما كان مراد الثاني وحيدًا حين تولَّى العرش. كل هذه عوامل شجعت مرادًا الثاني على الإقدام على أخذ هذا القرار الجريء في وقتٍ سريع.
أيًّا ما كان الأمر فإنَّ الأمير محمدًا صار سلطان البلاد، ومن هذا اليوم عُرِف «بمحمد الثاني»؛ لأنَّ محمدًا الأوَّل هو جدُّه محمد چلبي، الذي حكم من عام 1413م إلى عام 1421م ، وهذا هو اللقب الذي اشتهر في المراجع الأجنبيَّة (Mehmed II)، ويُكتب كذلك (Mehmet II)، وهو الذي سيُعرَف لاحقًا بعد فتحه للقسطنطينيَّة بمحمد الفاتح (The Conqueror)، فهذه كلُّها ألقابٌ للشخص نفسه.
هل مرَّ الأمر بسلام؟!
على المستوى الداخلي لم يحدث ما يُزْعِج، ممَّا يُوحِي أنَّ الأمر كان معدًّا له في الخفاء، ولم يُعلَن إلَّا في هذه اللحظة.
لكن على المستوى الخارجي كان تطوُّر الأحداث نتيجة هذا الخبر أكبر من كلِّ التوقُّعات!
لقد أثلج الخبر صدور المجريِّين والبولنديِّين والبابا في روما، وتحرَّك مبعوث البابا چوليانو سيزاريني لإقناع ڤلاديسلاڤ الثالث ملك بولندا والمجر، وكذلك چون هونيادي الزعيم المجري الكبير، لقطع المعاهدة مع الدولة العثمانيَّة، وتحريك حربٍ صليبيَّةٍ كبرى لإخراجهم من البلقان ، وأكَّد لهم سيزاريني أنَّه يجوز الحنث باليمين إذا كان مع الكفَّار «Infidels»، خاصَّةً إذا لم يكن مؤكَّدًا من البابا ، وجاء التأكيد من البابا أوچين الرابع بأنَّه لم يكن موافقًا على السلام مع المسلمين !
هكذا يفعلون بالوعود!
هكذا يفعلون بالمواثيق التي أقسموا عليها بالأيمان!
هكذا هي دبلوماسيَّتهم!
نذكر هذا الموقف للأوروبِّيِّين، وإلى جواره نذكر شهادة المؤرِّخ الأميركي ذي الأصول المجريَّة بيتر شوجر Peter Sugar وهو يقول في حقِّ العثمانيِّين: «ومن الملاحظ أنَّ العثمانيِّين تمسَّكوا بما عقدوا من مواثيق واتفاقيَّات طالما حَفِظَ الأمراء الأوروبِّيُّون تلك المواثيق» !
وهذه شهادةٌ تأتي في موضعها التاريخي المهم؛ حيث إنَّها أتت من عالِمٍ ذي أصولٍ مجريَّة، أي ينتمي إلى تلك الدولة التي حاربت العثمانيِّين طويلًا، وغدرت بهم في هذه المعاهدة.
لم يأخذ الأوروبِّيُّون وقتًا كبيرًا في التفكير. يذكر المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون Kenneth Setton أنَّ الجيوش الأوروبِّيَّة عبرت الدانوب بالقرب من بلجراد في الفترة ما بين 18 و22 سبتمبر 1444م ، فمعنى هذا أنَّ قرار نقض المعاهدة لم يأخذ إلَّا أيَّامًا قليلة بعد وصول خبر تنازل مراد الثاني عن العرش لابنه محمد الثاني.
اتَّحدت في هذه المعركة جيوش المجر وبولندا، مع فِرَق عسكريَّة من الإفلاق (جنوب رومانيا)، وكذلك مع بعض المتمرِّدين من بلغاريا مع العلم أنَّ الإفلاق وبلغاريا كانتا تابعتين للدولة العثمانيَّة، ممَّا يعني أنَّ هذا انشقاق داخلي في الدولة. انضمَّت إلى هذه القوَّات مجموعة من السفن البحريَّة التابعة لغرب أوروبَّا على النحو التالي: ثمانية سفن باباوية، وثمانية أخرى من البندقيَّة، مع أربع سفنٍ من بورجاندي Burgundy الفرنسيَّة، وكذلك سفينتان من جمهوريَّة راجوزا Ragusa الإيطاليَّة، وانضمَّت إلى هذه القوَّات البحريَّة سفن الدولة البيزنطيَّة، وكان غرض هذه القوَّة البحريَّة هو غلق مضيق الدردنيل لمنع قوَّات الدولة العثمانيَّة من العبور من الأناضول إلى البلقان؛ وذلك لإعطاء الجيوش الأوروبِّيَّة الفرصة للتقدُّم السريع نحو العاصمة العثمانيَّة أدرنة، بغية استئصال الوجود العثماني من أوروبا بالكلِّيَّة .
تتفاوت المصادر بشدَّة في تحديد عدد الجيوش الصليبيَّة؛ تذكر المصادر التركيَّة أنَّ الجيوش الصليبيَّة تجاوزت المائة ألف مقاتل ، بينما تُؤكِّد المصادر الأوروبِّيَّة أنَّ العدد كان من عشرين ألفًا إلى ثلاثة وعشرين ألف مقاتلٍ ، وعادةً ما يكون هناك مبالغاتٌ بالزيادة والنقصان من كلِّ طرف، وقد تكون حقيقة الأعداد بينهما!
اختارت الجيوش الأوروبِّيَّة أن تتَّجه مباشرةً إلى ساحل البحر الأسود الغربي لتتجاوز القلاع العثمانيَّة في بلغاريا، وبذلك ستسير جنوبًا حتى تصل إلى أدرنة العاصمة، وستكون المباغتة بذلك كبيرة جدًّا للدولة العثمانيَّة؛ إذ سينتقل القتال إلى عقر دارها.
وصلت الأنباء المفزعة إلى السلطان الجديد محمد في أدرنة!
لم تكن الأمور أصلًا مستقرَّةً في قصر الحكم في أدرنة؛ فقد كانت هناك عداواتٌ بين رجال الدولة في القصر الحاكم. كان الصدر الأعظم خليل جاندرلي يُمثِّل حزبًا من كبار الشخصيَّات، بينما يُمثِّل زاجانوس باشا وشهاب الدين باشا حزبًا آخر، وهذان الأخيران كانا من المربِّين الشخصيِّين للأمير الصغير . كان هذا الصراع الداخلي متوقَّعًا في ظلِّ غياب السلطان الكبير مراد الثاني، وإذا كان كلُّ حزبٍ من الحزبين يُريد فرض هيمنته فهذا هو الوقت المناسب!
في الحقيقة لم تكن الدولة العثمانيَّة بحاجةٍ لكلِّ هذه التداعيات في هذا التوقيت، ولكن هكذا سارت الأمور، نتيجة تنازل السلطان مراد الثاني لابنه الصغير محمد.
من ناحيةٍ عمليَّةٍ وَجَد السلطان الجديد نفسه أمام أزمةٍ قد تعصف بالدولة كلِّها.
لم يكن هناك بُدٌّ من الاستعانة بالسلطان المتقاعد مراد الثاني! رفض مراد الثاني القدوم أوَّل الأمر لكي لا يكسر ابنه، لكنَّ ابنه أرسل إليه رسالةً ذكيَّةً لم تجعل هناك خياراتٍ كثيرةً أمام السلطان صاحب الخبرة. قال محمد الثاني في أوَّل رسالةٍ يكتبها كسلطان: «إنْ كنَّا نحن البادشاه -أي السلطان بالتركيَّة- فإنَّنا نأمرك: تعالوا على رأس جيشكم، وإن كنتم أنتم فتعالوا دافعوا عن دولتكم» !.
جاء السلطان مراد الثاني على رأس جيشٍ كبيرٍ من الأناضول، ولكنَّه فوجئ بالقوَّات البحريَّة الأوروبِّيَّة تقطع عليه طريق الدردنيل، ومع ذلك فقد وُفِّق لعبور المضايق عن طريق التعاون مع بعض سفن چنوة ، وچنوة كانت معادية دومًا للبندقيَّة، وحيث إنَّ البندقيَّة كانت في الحلف الصليبي وقفت چنوة إلى جوار مراد الثاني مع كونه مسلمًا!
كانت الجيوش الصليبيَّة قد اقتربت من مدينة ڤارنا Varna البلغاريَّة على ساحل البحر الأسود الغربي، فأسرع مراد الثاني بجيشه بعد عبوره المضايق، ومرَّ على أدرنة العاصمة، والتقى مع ولده في لقاءٍ سريع، ثم تركه في القصر الحاكم، وانطلق مسرعًا ليُقابل الجيوش الصليبيَّة قبل أن تتوغَّل أكثر في الأراضي العثمانية، ووصل بالفعل إلى جنوب ڤارنا في 7 نوفمبر 1444م، وضرب معسكره هناك .
في يوم (10 نوفمبر 1444م الموافق 28 رجب 848هـ) دارت موقعة فارنا، وهي واحدةٌ من أهمِّ المعارك في التاريخ الأوروبي كلِّه .
مع أنَّها كانت معركة يومٍ واحدٍ فإنَّ نتائجها كانت حاسمةً للغاية؛ في هذه المعركة قُتِل ملكُ بولندا والمجر ڤلاديسلاڤ الثالث، وقُتِل كذلك الكاردينال چوليانو سيزاريني، ومُزِّق الجيش الصليبي، وصار بين قتيلٍ وأسير، وهرب چون هونيادي القائد المجري الشهير بصعوبة .
هناك تفاصيل كثيرةٌ ذُكِرت عن هذه الموقعة الكبيرة؛ كتب عنها المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون خمسًا وعشرين صفحةً في كتابه عن الباباوات وحروبهم في الشرق ، وكتب عنها المؤرِّخ البولندي چون چيفرسون John Jefferson أكثر من ثمانين صفحةً في كتابه عن الحروب المقدَّسة بين الملك ڤلاديسلاڤ والسلطان مراد الثاني ، بينما كتب المؤرِّخ الإنجليزي كولن إمبر Colin Imber كتابًا كاملًا عن هذه المعركة !
أجمع المؤرِّخون على فداحة الخسارة الأوروبِّيَّة في هذه المعركة، والأجمل هو أنَّ الكثير منهم ربط هذه الخسارة بالغدر الذي ارتكبه القادة الصليبيُّون في عهدهم مع الدولة العثمانيَّة!
يقول المؤرِّخ الألماني الشهير فرانز بابينجر Franz Babinger: «هكذا انتهت معركة ڤارنا، واحدة من أكثر الأحداث حسمًا، ليس في التاريخ العثماني فقط، ولكن في التاريخ الغربي كلِّه. لقد وُجِّهت ضربةٌ شديدةٌ للآمال النصرانيَّة في طرد العثمانيِّين من أوروبَّا. لمدَّة سنواتٍ قادمةٍ سيطر الإحباط على أوروبَّا النصرانيَّة. كان يُنْظَر لهزيمة الجيش الصليبي على أنَّها عقابٌ ربَّانيٌّ (Divine punishment) نتيجة الانتهاك لليمين المقدَّس الذي أقسمه الملك على الإنجيل في معاهدة سيجيد» !
ويقول المؤرِّخ والقس التشيكي فرانسيس دڤورنيك Francis Dvornik: «عُوقِب الكاردينال سيزاريني على غدره بأنْ مُزِّق جيشه إلى قِطَع (Cut to pieces) في معركة ڤارنا عام 1444م، وفَقَدَ الملك ڤلاديسلاڤ، وممثِّل البابا (سيزاريني نفسه) حياتهما في ساحة القتال» !
هكذا كان نصر ڤارنا العظيم!
إنَّه يومٌ من أيَّام الله حقًّا!
وعلى الرغم من أنَّ مرادًا الثاني رأى الأثر المباشر لتنازله لابنه الصغير محمد الثاني عن العرش، وتحرُّك الجيوش الصليبيَّة فورًا إلى دولته ناقضين للعهد، على الرغم من رؤيته هذا الأثر الخطر، فإنَّه قرَّر أن يعود بعد نصره العظيم في ڤارنا إلى عزلته من جديد في مانيسا .
لكن من الواضح أنَّ الأمور لم تكن تسير بشكلٍ طبيعيٍّ في هذه الفترة، وكانت هناك بعض المشكلات والأحداث المتلاحقة التي أجبرت مرادًا الثاني على العودة في قرار التنازل لابنه محمد الثاني، وعاد إلى أدرنة ليتسلَّم الحكم من جديد في سبتمبر 1446م ، وهدأت الأمور فورًا في أدرنة العاصمة، وانسحب محمد الثاني إلى مانيسا مرَّةً ثانيةً ليتولَّى من جديد إدارة هذه الولاية، وكان حينئذٍ قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره بستَّة شهور .
استمرَّ حكم السلطان محمد الثاني للدولة العثمانيَّة من وقت تنازل مراد الثاني له في أغسطس 1444م إلى شهر سبتمبر 1446م -أي سنتين كاملتين- ومعظم المؤرِّخين يُؤكِّدون أنَّ حكم السلطان محمد الثاني كان متَّصلًا في هاتين السنتين ، بينما يرى آخرون أنَّ السلطان مرادًا الثاني عاد للحكم في أثناء هاتين السنتين لمدَّة أحد عشر شهرًا من يناير 1445م إلى ديسمبر 1445م؛ أي أنَّ حكم محمد الثاني لم يكن متَّصلًا في هاتين السنتين .
هل مرَّت هذه الفترة في حياة محمد الثاني دون فائدة؟!
على العكس من ذلك! لقد استفاد محمد الثاني عدَّة خبراتٍ في هذه الفترة، كان من أهمِّها معرفته بآليَّات الحكومة والإدارة، وممارسته للتعامل مع الوزراء وكبار رجال الدولة، كما أدرك فيها أهميَّة التعامل مع قادة الجيش بحزمٍ وصرامة، والجمع في قيادتهم بين الترغيب والترهيب، وكما تحقَّقت فائدةٌ مهمَّةٌ أخرى، وهي قبول الحكومة والشعب فكرة وجود محمد الثاني في كرسي العرش .