قصة السلطان محمد الفاتح ( 1 ) - قصة السلطان محمد الفاتح ( 1 ) - قصة السلطان محمد الفاتح ( 1 ) - قصة السلطان محمد الفاتح ( 1 ) - قصة السلطان محمد الفاتح ( 1 )
قصة السلطان محمد الفاتح ( 1 )
طفولة محمد الفاتح الاستثنائية
قصة الإسلام
د راغب السرجاني
ملخص المقال
تعلم محمد الفاتح منذ صغره العلوم الشرعية والحياتية، وفنون الحروب والقيادة والإدارة، فكانت طفولته طفولة استثنائية أسهمت في تغيُّر مسيرة الإنسانيةطفولة محمد الفاتح الاستثنائية
لم يكن السلطان مراد الثاني -السلطان السادس للدولة العثمانية- يتوقَّع أنَّ ولادة ابنه محمد، الذي عُرف بعد ذلك بمحمد الفاتح، سيكون حدثًا يُغيِّر -بشكل واقعي وعملي- من مجرى التاريخ!
ولادة محمد الفاتح
حدثت هذه الولادة في قصر أدرنة في يوم (30 مارس 1432م / 19 رجب 835هـ)، وتسارعت بعدها الأحداث؛ حيث أقبلت الدنيا على فترةٍ من فترات التغيُّر المحوري في مسيرة الإنسانيَّة، وكان لهذا المولود إسهامٌ كبيرٌ في إحداث هذا التغيير!
وعلى قدر شهرة مراد الثاني وتوافر الأخبار عنه، لم تكن أم هذا المولود الجديد معروفةً لدى المؤرِّخين! فنحن بصعوبة نعرف أنَّ اسمها هو «هما خاتون Hüma Hatun» ، وهي على الأغلب من أصولٍ غير مسلمة؛ فقد تكون من إيطاليا، أو من صربيا، وليست هناك أيُّ تفاصيل عن حياتها، أو إسهامها في تربية وليدها العظيم، وإن كان من المعتاد في التاريخ العثماني أن تعيش الأم مع ولدها، وتنتقل معه إلى المدن المختلفة في حال تولِّيه لبعض المناصب في مدينةٍ أو أخرى، خاصَّةً إذا كان هذا الولد من الأمراء.
وَجَدَ الأمير محمد بن مراد الثاني لنفسه أخوين عند ميلاده من أمَّهاتٍ مختلفة؛ فكان الأخ الأكبر هو الأمير أحمد، وهو وليُّ العهد الرسمي للبلاد، وكان يبلغ من العمر عند ميلاد الأمير محمد اثني عشر عامًا، وكان واليًا على ولاية أماسيا، بينما كان الأخ الأوسط هو علي علاء الدين، وكان يبلغ السابعة من عمره عند ميلاد الأمير محمد.
نشأة محمد الفاتح وطفولته الاستثنائية
إنَّ التربية المتميِّزة التي تلقَّاها الأمير محمد بن مراد هي التي صقلت الموهبة عند الطفل، كما أنَّها هي التي أجبرت فريق العمل الكبير المصاحب للأمير محمد على تقبُّل الطاعة له؛ حيث ظهرت أمارات نجابته وذكائه للجميع بشكلٍ لافتٍ للنظر.
لقد كانت تربية الأمير محمد متكاملةً وشاملةً بشكلٍ رائعٍ ومتميِّز..
وإنَّني أحبُّ أن أستهلَّ الحديث عن تربيته بكلمة المؤرِّخ الإنجليزي استيفين تيرنبول Stephen Turnbull، التي بدأ بها وصفه لسيرة محمد الفاتح، حيث قال: «لقد رُبِّي محمد الثاني -أي محمد الفاتح- ليكون أعظم سلطانٍ في زمانه».
نعم كانت تربية الأمير محمد بن مراد على هذا المستوى!
يُمكن تمييز ثلاثة جوانب مهمَّة كانت بارزةً في عمليَّة بناء هذا الأمير القدير..
أمَّا الجانب الأوَّل:
فهو جانب العلوم الشرعيَّة والدينيَّة، وقد اهتمَّ السلطان مراد الثاني بهذا الجانب بشكلٍ خاص، وأوكل لمهمَّة تعليم الأمير محمد أمور الفقه والقرآن والسُّنَّة واحدًا من أعظم علماء الدولة العثمانيَّة في ذلك الزمن، وهو الشيخ الكبير أحمد بن إسماعيل الكوراني، وهو عالمٌ موسوعيٌّ برع في مجالاتٍ شرعيَّةٍ شتَّى، وجمع علومه من مدنٍ إسلاميَّةٍ كبرى متعدِّدة، سواء في إيران، أم العراق، أم الشام، أم مصر، أم الأناضول . كان الكوراني بارعًا في الفقه، وتفسير القرآن، والحديث، واللغة العربية، وعلوم الشعر والبيان، وكان يبحث عن التميُّز في كلِّ مجال، وهو من الذين أجازهم العلَّامة الإسلامي الكبير ابن حجر العسقلاني في الحديث ، وله مؤلَّفاتٌ شتَّى في عدَّة مجالاتٍ شرعيَّة ولغويَّة.
هذه الشخصيَّة الرائعة كانت مسئولة عن تربية الأمير الصغير محمد، ولهذا ليس عجيبًا أن نعلم أنَّ الأمير محمد ختم القرآن على يد هذا الشيخ في مدَّةٍ يسيرة ، ومن المؤكَّد أنَّ كثيرًا من مَلَكات المناظرة، وطلاقة الرأي، وقوَّة الحجة، والجرأة، قد تعلَّمها الطفل الصغير من أستاذه المتمكِّن؛ حيث صاحَبَه هذا المعلِّم الكبير منذ طفولته الأولى وإلى أن تولَّى قيادة الدولة العثمانيَّة.
بالإضافة إلى الكوراني كان هناك مُعلِّمٌ آخر له فضلٌ كبيرٌ في تكوين شخصيَّة الأمير محمد، وهو المولى خسرو Mevlana Husrev، وكان في الأصل روميًّا أناضوليًّا ثم أسلم، وارتقى في مراتب العلوم حتى صار عالمـًا جليلًا، وله مؤلَّفاتٌ مهمَّةٌ في الفقه الحنفي، وكان يعمل بالقضاء، بل كان قاضيًا لكلِّ الأناضول، وذلك عندما اختاره مراد الثاني ليكون معلِّمًا للأمير محمد ، وغالب الأمر أنَّ المولى خسرو التحق بتعليم الأمير محمد في مرحلةٍ متأخِّرةٍ عن الكوراني، ومع ذلك فقد كان ارتباطه بالأمير الصغير أكبر، وكان منه أقرب، ولهذا فقد ارتقى في المناصب بسرعة عندما تولَّى الأمير محمد قيادة البلاد، بل صار كتابه: «دُرَرُ الْحُكَّامِ فِي شَرْحِ غُرَرِ الْأَحْكَامِ» أحد المراجع الأساسية في القانون المدني الذي يُعْمَل به في زمان السلطان محمد ، وكان السلطان محمد يقول لوزرائه عندما يرى المولى خسرو: «هذا أبو حنيفة زمانه» !
يُضاف إلى هذين العالمين الجليلين -أعني الكوراني وخسرو- علماء آخرون أسهموا في تربية الأمير محمد؛ منهم الفقيه سراج الدين محمد بن عمر الحلبي، وهو من أهل حلب، ولكنَّه تعلَّم على أيدي علماء وسط آسيا، وله مؤلَّفاتٌ عديدة، ومنهم كذلك العالم ابن التمجيد، وهو من علماء التفسير، وله مؤلَّفاتٌ في ذلك المجال منها حواشيه على تفسير البيضاوي ، كما يُضاف إلى هؤلاء العلماء عددٌ آخر من الفقهاء والمتخصِّصين حفلت الكتب بأسمائهم وإن كان لا يتَّسع المجال هنا لذكرهم.
وأخيرًا، ونحن بصدد الحديث عن هذا الجانب الشرعي في تكوين الأمير محمد، نلفت النظر إلى نقطتين مهمَّتين؛ أمَّا الأولى فهي أنَّ اهتمام الدولة العثمانيَّة بالطرق الصوفيَّة كان كبيرًا جدًّا منذ نشأتها، وأنَّ هناك تفاعلًا واضحًا بين شيوخ الطرق الصوفيَّة وسلاطين الدولة العثمانيَّة، ولهذا فإنَّه من المعروف أنَّ معظم سلاطين الدولة العثمانية -إن لم يكن كلهم- كانوا أعضاءً في بعض الفرق الصوفيَّة المنتشرة في بلادهم، وكان مراد الثاني تابعًا للطريقة المولويَّة (أتباع جلال الدين الرومي)، ولهذا نشأ الأمير محمد تابعًا للطريقة نفسها منذ نعومة أظافره، وكان شيخه في هذه الطفولة المبكرة هو أمير عادل چلبي .
ولكن ينبغي التنبيه كذلك على أنَّ الصوفيَّة العثمانيَّة التي كان يتبعها السلاطين العثمانيُّون لم تكن بالصورة الابتداعية المبالغ فيها، التي يعرفها كثيرٌ من الناس عن الطرق الصوفيَّة بشكلٍ عامٍّ؛ إنَّما كانت منهجًا لتربية الروح، والتدريب على الزهد في الدنيا، وذلك اعتمادًا على علوم القرآن والسُّنَّة، ولذلك ليس من العجيب أن نرى أنَّ مشايخ الصوفيَّة في هذ الفترة لهم مؤلَّفاتٌ فقهيَّةٌ وشرعيَّةٌ معتبرة، وعلى سبيل المثال كان من شيوخ الأمير محمد في الصوفيَّة المولى إياس، الذي كان له اهتمامٌ كبيرٌ في تصحيح الكتب الشرعيَّة، وكتابة الفوائد في حواشيها، ويفعل ذلك مع الكتب المشهورة للعلماء الكبار، ولا يتأتَّى ذلك إلَّا لعالمٍ راسخٍ في العلم ، ولعلَّ هذه التربية الصوفيَّة للأمير الصغير كان لها الأثر الواضح في بعض صفاته؛ فقد كان ميَّالًا إلى العزلة، لا يسعى إلى الترف أو البذخ في حياته، وكان قليل الكلام، قليل الضحك، موقِّرًا بشدَّة للعلماء، ولقد نقلت الكتب عدَّة مشاهد للأمير محمد بعد أن تولَّى السلطنة وهو يُقَبِّل أيدي العلماء أو المشايخ ، وكان شديد الاقتناع بالتوقُّعات التي يذكرها الشيوخ والعلماء.
أمَّا النقطة الثانية فهي أنَّني لم أجد دليلًا موثَّقًا على صلة الشيخ المشهور آق شمس الدين بالأمير محمد في هذه المرحلة المبكرة من حياته، وقد أحببت لفت النظر إلى هذه النقطة لكون الكثير من المؤرِّخين المحدثين يروون في كتبهم قصصًا عن تربية هذا الشيخ للسلطان محمد في طفولته، وحثِّه على فتح القسطنطينيَّة، ونحو ذلك من أمورٍ حماسيَّة، والواقع أنَّه ليس هناك دليلٌ على مثل هذه القصص، أمَّا الثابت فهو أنَّ بداية التعارف بين الأمير محمد والعالم آق شمس الدين كانت بعد أن تولَّى الأمير محمد أمور السلطنة، بل كانت قبيل فتح القسطنطينيَّة؛ عندما دعا السلطانُ محمدُ العلماءَ -ومنهم آق شمس الدين- لتحميس الناس على الجهاد استعدادًا لفتح المدينة الحصينة ، كان هذا هو الجانب الأوَّل البارز في حياة الأمير محمد في مراحل تربيته الأولى.
الجانب الثاني:
أمَّا الجانب الثاني في تربية الأمير محمد فكان اهتمام السلطان مراد الثاني بتعليم ابنه العلوم الحياتيَّة والعقليَّة إلى جوار العلوم الشرعيَّة والدينيَّة، وقد تربَّى الأمير محمد في جوٍّ منفتحٍ جدًّا، فوصلت إليه العلوم الغزيرة على أيدي المسلمين والنصارى، وعلى أيدي الأتراك وغيرهم من الأعراق المختلفة، وكل هذا أسهم في تكوين شخصيَّةٍ فريدةٍ للأمير العظيم محمد بعد ذلك.
في هذه السنِّ المبكرة تعلَّم الفاتح عدَّة لغاتٍ إلى جانب التركيَّة، فكان يتقن العربيَّة، والفارسيَّة، واللاتينيَّة، واليونانيَّة، والصربيَّة ، وتُضيف بعضُ المصادر اللغةَ العبريَّة إلى اللغات التي تعلَّمها الأمير، وهذا التعلُّم الواعي لهذه اللغات المتعدِّدة فتح له آفاقًا واسعة؛ حيث كان قادرًا من جانبٍ على القراءة في مصادر الحضارات المختلفة وتوسيع مداركه، وكان قادرًا من جانبٍ آخر على التواصل المباشر مع المعلِّمين الأجانب، وبعد ذلك مع الدبلوماسيِّين والعلماء من البلاد المختلفة، وهذا لا شَكَّ جعل منه مثالًا فريدًا من الأمراء، وأعطاه حصيلةً من المعرفة قلَّ أن يحظى بها غيره.
والواقع أنَّ مسألة تعلُّم الفاتح لكلِّ هذه اللغات ليست أمرًا يسيرًا أو عاديًّا؛ إنَّما هي مسألةٌ جديرةٌ بالانتباه، فتعلُّم لغةٍ أو لغتين غير اللغة الأم للإنسان هو أمرٌ كبيرٌ ولافتٌ للنظر، خاصَّةً إذا كان المتعلِّم متقنًا للغةٍ إلى الدرجة التي تسمح له بقراءة الكتب، والوصول إلى الكنوز الحضاريَّة لدى أهل هذه اللغة، بل التفوُّق فيها إلى درجة تذوُّق الشعر والأدب بها، أو القراءة في الكتب المتخصِّصة كالرياضيَّات والجغرافيا.
هذا كلُّه أمرٌ لافتٌ للنظر، أمَّا تعلُّم خمس أو ست لغات، وبالإتقان الذي يسمح له بالتحدُّث والقراءة والفهم العميق، فهذا في الواقع أمرٌ خارقٌ للعادة، خاصَّةً إذا ما أخذنا في الاعتبار أنَّ هذا الأمير لم يكن معتكفًا للعلم والدراسة فقط، بل كانت عليه مسئوليَّات قيادة ولاية، ثم دولة، ثم إمبراطوريَّة، فهذا كلُّه يعني أنَّنا نتعامل مع نموذجٍ فريدٍ للغاية، كما ينبغي الانتباه كذلك إلى نموذج مراد الثاني رحمه الله، ذلك السلطان المتحضِّر، الذي يُوفِّر لابنه خمسة مدرِّسين للغاتٍ مختلفةٍ في هذا الزمن الذي اشتهر بأنَّه منغلق، ولا تواصل فيه بين الحضارات. لقد كان مراد الثاني فريدًا كذلك، وهذا هو الذي أخرج لنا هذا الأمير العظيم محمد بن مراد!
كانت اللغات الأجنبيَّة التي تعلَّمها الأمير الصغير وسيلةً وليست غاية؛ فقد استخدمها بحِرَفِيَّةٍ عاليةٍ في تزويد نفسه بعلومٍ متميِّزة، فقرأ بالعربيَّة كتب الفقه والشريعة، واستخدم الفارسيَّة في الأدب وكتابة الشعر، وفتحت له اليونانيَّة الطريق إلى قراءة كتب الجغرافيا الإغريقيَّة فحذقها حتى صار هو نفسه من الجغرافيِّين الكبار، وكانت اللاتينيَّة طريقه إلى تعلُّم التاريخ الإيطالي، والتعرُّف على آثار الرومان!
وكان للأمير الصغير أساتذة متخصِّصون في هذه العلوم الكثيرة، فأستاذه في الجغرافيا هو اليوناني الطرابزوني چورچ أميروتزيس George Amirutzes ]، أمَّا التاريخ الروماني والأوروبي فكان يتلقَّاه على يد العالم الإيطالي الكبير سيرياكو Cyriaco، وهو من علماء مدينة أنكونا Ancona الإيطاليَّة ، كما كان له في الرياضيَّات أساتذةٌ متخصِّصون كذلك ، وأمَّا حِرَفِيَّة الشعر وعلومه فقد تعلَّمها على يد أستاذه المتمكِّن الشيخ الكوراني، الذي ألَّف لتعليمه قصيدةً في علم العروض من ستمائة بيتٍ سمَّاها «الشافية في علم العروض والقافية» ي چايبول روبنارين Jaipaul Roopnarine، والأستاذ بجامعة سيراكيوز الأميركيَّة Syracuse University في كتابه كمثالٍ لعمليَّة «التعليم المبكِّر للأطفال» «Early Childhood Education ECE» ]!
إنَّه أمرٌ رائعٌ حقًّا!
الجانب الثالث:
أمَّا الجانب الثالث الذي يبرز لنا في حياة هذا الأمير العظيم فهو الجانب العملي والتدريبي في هذه الطفولة المبكِّرة، فلم يكن الأمر محدودًا بالتحصيل العلمي النظري؛ إنَّما صَاحَبَ ذلك تدريبٌ على أمورٍ شتَّى أسهمت في تكوين هذا الطفل الصغير، ولعلَّ من أبرز هذه الأمور هو التدريب على المهارات العسكريَّة وفنون القتال، فالدولة العثمانيَّة دولةٌ جهاديَّة، ولها أعداءٌ في كلِّ مكان، ولهذا اهتمَّ السلطان مراد الثاني ببناء ابنه جسديًّا ومهاريًّا، كما اهتمَّ ببنائه علميًّا وأخلاقيًّا، ولم يكن تدريبه على هذه الأمور الحربيَّة تدريبًا عاديًّا مثلما يحدث في بعض المدارس العسكريَّة الآن؛ إنَّما كان متخصِّصًا لأبعد درجة، حيث كان يتعلَّم ممارسة فنون القتال إلى جوار تعلُّمه الخطط الاستراتيجيَّة والرؤى الحربيَّة، ولقد اشترك في هذه العملية المعقَّدة من التدريب عدَّة أساتذة عسكريِّين متمرِّسين، كان منهم الوزير صاريجه قاسم باشا، وداماد زاجانوس محمد باشا Zaganos Pasha، وخضر چلبي.
ولهذا لم يكن من الغريب أن يخرج الأمير الصغير للقتال الفعلي وقيادة الجيوش وهو في السادسة عشرة من عمره؛ إذ اشترك في الحملة الهمايونيَّة الكبرى التي قادها والده مراد الثاني في ألبانيا، وذلك في عام 1448م والحملات الهمايونيَّة هي الحملات التي يخرج فيها السلطان بنفسه، وكان السلطان مراد الثاني حريصًا على تدريب ابنه في ساحات القتال الفعليَّة وليس فقط في ميادين التدريب الآمنة داخل البلاد.
محمد الفاتح أميرًا صغيرًا
يُمكن الأخذ في الاعتبار أيضًا أنَّ هذا الجانب المهاري الذي كان يتدرَّب عليه الأمير محمد لم يكن مختصًّا فقط بأمور القتال والنزال؛ إنَّما كان مهتمًّا كذلك بأمور القيادة والإدارة، حيث رأينا الأمير يُمارس عمله -تحت الرعاية والتوجيه- واليًا على مانيسا بدايةً من عام 1439م، أي وهو في السابعة من عمره، وهذا التدريب المباشر صقل شخصيَّته بشكلٍ بارز، وأخرج المواهب الكامنة إلى حيِّز التطبيق الفعلي.
أُرسل الطفل محمد وهو في الثانية من عمره إلى أماسيا، ليعيش هناك مع أخيه الأكبر أحمد ، ولا توجد لدينا معلومات تُفسِّر هذا الانتقال المبكِّر للطفل للحياة بعيدًا عن والده، الذي كان يُدير الدولة العثمانيَّة من العاصمة أدرنة (ما يقرب من ثمانمائة كيلو متر بعيدًا عن أماسيا)، ولكن هذا لم يكن يعني الإهمال للطفل، بل على العكس من ذلك؛ فقد وفَّر له الأب في أماسيا مجموعة كبيرة من كبار المربِّين والمعلِّمين كان لهم أكبر الأثر في تشكيل شخصيَّة الطفل الصغير.
تلقَّى الطفل محمد صدمةً كبيرةً وهو في الخامسة من عمره -أي في عام 1437م- وذلك عندما مات أخوه الأكبر أحمد الذي كان حاكمًا على أماسيا، وكانت الصدمة في الواقع أكبر على أبيه مراد الثاني؛ حيث إنَّ وفاة الابن الأكبر وهو في السابعة عشرة من عمره لم تكن مؤثِّرة من الناحية العاطفيَّة أو الاجتماعيَّة فقط؛ إنما من الناحية السياسيَّة والإداريَّة كذلك، حيث كان مؤهَّلًا لولاية العهد في البلاد، ومِنْ ثَمَّ صار ولي العهد هو الابن الأوسط علي علاء الدين، الذي كان في الثانية عشرة من عمره، وكان على الأب أن يبدأ من جديد رحلة التدريب على قيادة الدولة بعد أن مات وليُّ العهد صاحب الخبرة النسبيَّة، وقد قام السلطان مراد الثاني بإرسال علي علاء الدين واليًا على مدينة مانيسا Manisa شمال إزمير، بينما صار الأمير محمد واليًا على ولاية أماسيا وهو في الخامسة من عمره، وذلك بالطبع تحت وصاية أحد الوزراء .
ظلَّ هذا الوضع لمدَّة سنتين، ثم قام السلطان مراد الثاني بتبديل الولايات، فتحوَّل الأمير علي علاء الدين ولي العهد إلى قيادة أماسيا، بينما انتقل الأمير محمد إلى ولاية مانيسا، وهو في السابعة من عمره، أي في عام 1439م .
قد يظنُّ ظانٌّ أنَّ إمارة هذا الطفل الصغير على ولاية أماسيا ثم مانيسا أمرٌ لا معنى له في ظلِّ عمره الصغير جدًّا، ولكن من الواضح أنَّ هذا تقويمٌ خاطئ، وأنَّ إمكانات بعض الأطفال تكون عظيمة، خاصَّةً إذا ما أخذنا في الاعتبار التأهيل الثقافي والعلمي والبدني الذي يتلقَّاه الطفل في هذه المرحلة، وهو تأهيلٌ خاصٌّ جدًّا، ولا يتوفَّر بهذه الكثافة والقوَّة لكثيرٍ من الأطفال، وأنَّ الجميع في الولاية -سواءٌ من الوزراء أم الأمراء أم عامَّة كبار رجال الدولة- مؤهَّلٌ نفسيًّا وواقعيًّا لطاعة هذا الأمير الصغير والانصياع لقيادته، ممَّا يُعطيه ثقةً غير عاديَّة في نفسه وقدراته، خاصَّةً إذا كان هذا الفريق أمينًا في مشورته، حريصًا على نجاح هذا الأمير في مهمَّته، فإنَّهم يُقدِّمون له دومًا النصح الراشد الذي يُضيف إلى خبرته يومًا بعد يوم. أمَّا الاعتبار الثالث فهو أنَّ الله حَبَا بعض الأطفال بمواهب خارقة لا تتوفَّر لكثيرٍ من الخلق، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ولقد رأينا في التاريخ الإسلامي أمثلةً كثيرةً لهذه المواهب، مثل: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وكذلك الشافعي، والبخاري، وأحمد بن حنبل رحمهم الله جميعًا.
وأخيرًا أحبُّ أن أُشير إلى أنَّ هذا الطفل الذي اهتمَّ والده بزرع كلِّ هذه الأمور الجادَّة فيه بشكلٍ متكاملٍ واحترافي، من علم شرعي، وعلم حياتي، وقتال، وحروب، وقيادة، وإدارة، هذا الطفل لم يكن معزولاً تمامًا عن ممارسة الهوايات، أو الترفيه عن النفس بما يُفيد؛ فقد كان يتدرَّب على تصنيف الأزهار، وصناعة الأقواس المستخدمة في الرمي، واستخدام الأحجار الكريمة في الزينة، فضلًا عن الشعر وقراءة السير التاريخيَّة ! إنَّنا بالفعل أمام حالةٍ فريدةٍ من الأطفال، وأمام طرازٍ خاصٍّ جدًّا من التربية .