ارض البرتقال الحزين .. من روائع الاديب غسان كنفاني
ارض البرتقال الحزين .. من روائع الاديب غسان كنفاني - ارض البرتقال الحزين .. من روائع الاديب غسان كنفاني - ارض البرتقال الحزين .. من روائع الاديب غسان كنفاني - ارض البرتقال الحزين .. من روائع الاديب غسان كنفاني - ارض البرتقال الحزين .. من روائع الاديب غسان كنفاني
أرض البرتقال الحزين
الى من استشهد في سبيل ارض البرتقال الحزين ...
والى من لم يستشهد بعد
غسان كنفاني
عندما خرجنا من يافا الى عكا لم يكن في ذلك اي مأساة .. كنا كمن يخرج كل عام ليمضي ايام العيد في مدينة غير مدينته ... ومرت ايامنا في عكا مرورا عاديا لا غرابة فيه ، بل ربما كنت لصغري وقتذاك استمتع بتلك الايام لانها حالت دوني ودون الذهاب للمدرسة ... مهما يكن ، ففي ليلة الهجوم الكبير على عكا بدأت تتوضح الصورة اكثر فأكثر .. ومضت تلك الليله قاسية مره بين وجوم الرجال ، وبين أدعية النسوة ... لقد كنا انا وأنت ومن في جيلنا ، صغارا على أن نفهم ماذا تعني الحكاية من أولها الى آخرها ... ولكن في تلك الليلة بدأت الخيوط تتوضح وفي الصباح ، ساعة انسحب اليهود متوعدين مزبدين ...كانت سيارة شحن كبيرة تقف في باب دارنا ... وكانت مجموعة بسيطة من أشياء النو تقذف اليها من هنا وهناك بحركات سريعة محمومة ... كنت أقف متكأ على بظهري على حائط البيت العتيقة عندما رأيت امك تصعد الى السيارة ، ثم خالتك ، ثم الصغار ، وأخذ أبوك يقذف بك وباخوتك الى السيارة ، وفوق الأمتعة ، ثم انتشلني من زاويتي ورفعني فوق رأسه الى القفص الحديدي في سقف غرفة السائق حيث وجدت أخي رياض جالسا بهدوء ..وقبل أن أثبت نفسي في وضع ملائم ، كانت السيارة قد تحركت .. وكانت عكا الحبيبة تختفي شيئا فشيئا في متعرجات الطرق الصاعدة الى رأس الناقورة ...
كان الجو غائما بعض الشيء ، واحساس بارد يفرض نفسه على جسدي ، وكان رياض جالسا بهدوء شديد ، رافعا ساقيه الى ما فوق حافة القفص ، ومتكئا بظهره على الامتعة محدقا في السماء ... وكنت أنا جالسا بصمت ، واضعا ذقني بين ركبيت طاويا فوقهما ذراعي .. وحقول البرتقال تتوالى على الطريق .. وشعور بالخوف يأكلنا جميعا ..والسيارة تصعد لاهثة الى فوق التراب الندي ..وطلقات بعيدة كأنها تحية الوداع ...
وعندما بدأت رأس الناقورة تلوح من بعيد ، غائمة في الأفق الأزرق وقفت السيارة .. ونزلت النسوة من بين الأمتعة وتوجهن الى فلاح كان يجلس القرفصاء واضعا سلة برتقال أمامة مباشرة ..وحملن البرتقال ..ووصلنا صوت بكائهن ... وبدا لي ساعتذاك ان البرتقال شيء حبيب ..وأن هذه الحبات الكبيرة النظيفة هي شيء عزيز علينا ..كانت النساء قد اشترين برتقالات حملنها معهن الى السيارة ، ونزل أبوك من جانب السائق ، ومد كفه فحمل برتقالة منها ..أخذ ينظر اليها بصمت ..ثم انفجر يبكي كطفل يائس ..
وفي رأس الناقورة .. وقفت سيارتنا بجانب سيارات كثيرة .. وبدأ الرجال يسلمون أسلحتهم الى رجال الشرطة الواقفين لهذا الغرض ..وعندما أتى دورنا ..ورأيت ابنادق والرشاشات ملقاة على الطاولة .. ورأيت الى صف السيارات الكبيرة يدخل لبنان طاويا معارج طرقاتها ممعنا في البعد عن أرض البرتقال ..أخذت أنا الآخر أبكي بنشيج حاد ، كانت أمك ما زالت تنظر الى البرتقالة بصمت ..وكانت تلتمع في عيني أبيك كل أشجار البرتقال التي تركها لليهود ..كل أشجار البرتقال النظيف التي اشتراها شجرة شجرة ، كلها كانت ترتسم في وجهه ..وترتسم لماعة في دموع لم يتمالكها أمام ضابط المخفر ... وعندما وصلنا صيدا في العصر ، صرنا لاجئين ...
احتوتنا الطريق فيمن احتوت ..كان أبوك قد كبر عن ذي قبل ، وبدا كأنه لم ينم منذ زمن طويل ..كان واقفا في الشارع امام الأمتعة الملقاة على الطريق ، وكنت أتخيل تماما انني سعيت اليه لاقول له شيئا ما فانه سينفجر في وجهي : يلعن أبوك .. يلعن ..كانت هاتين الشتيمتين تلوحان على وجهه بوضوح ، بل انني أنا ايضا ، الطفل الذي نشأ في مدرسة دينية متعصبة ، كنت ساعتذاك أشك في ان هذا الله يريد ان يُسعد البشر حقيقة ..وكنت أشك في أن هذا الله يسمع كل شيء.. ويرى كل شيء... ان الصور الملونة التي كانت توزع علينا في كنيسة المدرسة ، والتي كانتتمثل الرب يشفق على الاطفال ويبتسم في وجوههم ، بدت هذه الصورة كأنما هي الأخرى أكذوبة من أكاذيب الذين يفتحون مداس محافظة كي يقبضوا أقساطا أكثر .. لم أعد أشك في أن الله الذي عرفناه في فلسطين قد خرج منها هو الآخر، وانه لاجيء من حيث لا ادري غير قادر على حل مشاكل نفسه ، واننا نحن اللاجئين البشر ، القاعدين على الرصيف منتظرين قدرا جديدا يحمل حلاً ما .. مسؤولين عن ايجاد سقف نقضي الليل تحته : كان الألم قد بدأ يفتك بعقل الصغير الساذج ...
ان الليل شيء مخيف ..والعتمة التي كانت تهبط شيئا فشيئا فوق رؤوسنا ، كانت تلقي الرعب في قلبي .. مجرد أن افكر في أنني سأقضي الليل على الرصيف كان يستثير في نفسي شتى المخاوف .. ولكنه خوف قاس جاف .. لم يكن احد على استعداد لان يشفق علي ..لم أكن استطيع أن أجد بشرا التجي اليه ... وان نظرة والدك الصامتة تلقي رعبا جديدا في صدري .. والبرتقاله في يد أمك تبعث في رأسي النار ..والجميع صامتون ، يحدقون في الطريق الأسود ، طامعين ان يبدو القدر من وراء المنعطف يوزع علينا حلولا لمشاكلنا ، ونمضي معه الى سقف ما ... واتى القدر فجأة ..كان عمك قد وصل البلدة قبلنا ..وكان هو قدرنا .
لم يكن عمك يؤمن كثيرا بالاخلاق ، ولكنه عندما وجد نفسه على الرصيف ، مثلنا ، لم يعد يؤمن اطلاقا .. ويمم وجهه شطر بيت تسمنه عائلة يهودية ، وفتح بابه ، والقى بأمتعته فيه ، واشار بوجهه المكور قائلا بلسان فصيح : إذهبوا الى فلسطين .. من المؤكد أنهم لم يذهبوا لفلسطين ، ولكنهم خافوا من يأسه فذهبوا الى الغرفة المجاورة وتركوه ينعم بالسقف والبلاط ...
لقد قادنا عمك الى غرفتنا تلك .. وكدسنا فيها مع أمتعته واهله ، وفي الليل نمنا على الأرض فامتلأت بأجسادنا الصغيرة ، والتحفنا بمعاطف الرجال ، وعندما نهضنا في الصباح ، كان الرجال قد أمضوا ليلتهم جالسين على الكراسي .. وكانت المأساة قد بدأت تجد طريقا معبدا يقودها الى خلايا اجسادنا كلنا !!
لم نسكن في صيدا كثيرا .. فغرفة عمك تلك لم تكن تتسع لنصفنا ، ورغم ذلك فقد احتوتنا ثلاث ليال .. ثم طلبت امك من ابيك أن يبحث عن عمل ما ، او فلنرجع الى البرتقال .. ولكن أباك صاح في وجهها بصوت يرتجف بالنقمة .. فسكتت .. كانت مشاكلنا العائليه قد بدأت .. والعائلة السعيدة المتماسكة خلفناها مع الأرض والسكن والشهداء ...
لم أدر من اين أتى ابوك بالنقود .. انني اعرف انه قد باع الذهب الذي اشتراه لامك يوم كان يريدها ان تسعد وان تفخر بانها زوجه .. ولكن ذلك الذهب لم يأت بالشيء الكثير القادر على حل مشاكلنا ، فكان لا بد من مصدر آخر : هل استدان شيئا؟ هل باع شيئا آخر اخرجه معه دون أن نراه ؟ انني لا ادري ، ولكني أذكر اننا قد انتقلنا الى قرية في ضواحي صيدا .. وهناك ، قعد أبوك على الشرفة الصخرية العالية يبتسم لاول مره .. وينتظر يوم الخامس عشر من أيار كي يعود في اعقاب الجيوش الظافرة ..
واتى يوم 15 أيار بعد انتظار مر .. وفي الساعة الثانية عشرة تماما ، لكزني أبوك بقدمه وانا مستغرق في نومي قائلا بصوت يهدر بالأمل الباسل : قم ... فاشهد دخول الجيوش العربية الى فلسطين .. وقمت كالمسعور .. وانحدرنا عبر التلال حفاة في منتصف الليل الى الشارع الذي يبعد عن القرية كيلو مترا كاملا ..كنا صغارا وكبارا نلهث ونحن نركض كالمجانين .. وكانت أضواء السيارات تبدو من بعيد صاعدة الى رأس الناقورة ، وحين وصلنا الى الشارع احسسنا بالبرد ، ولكن صياح أبيك كان يملك علينا علينا وجودنا .. لقد أخذ يركض وراء السيارات كطفل صغير .. انه يهتف بهم ..إنه يصيح بصوت أبح .. إنه يلهث .. لكنه ما زال يركض وراء رتل السيارات كطفل صغير .. كنا نركض بجواره صائحين معه ، وكان الجنود الطيبون ينظرون الينا من تحت خوذهم بجمود وصمت .. كنا نلهث ، فيما كان أبوك يخرج من جيبه ، وهو يركض بأعوامه الخمسين ، لفافات التبغ يرميها للجنود ، كان لا يزال يهتف بهم . وكنا نحن لا زلنا نركض الى جواره كقطيع صغير من الماعز ...
وانتهت السيارات فجأة .. وعدناالى الدار منهوكين نلهث بصفير خافت .. كان أبوك صامتا لا يتكلم ، وكنا نحن أيضا لا نقوى على الكلام .. وعندما اضاءت وجه أبيك سيارة عابرة .. كانت دموعه تملأ وجنتيه ..
بعدها ، مضت الأمور ببطء شديد .. لقد خدعتنا البلاغات ثم خدعتنا الحقيقة بكل مرارتها .. واخذ الوجوم يعود الى الوجوه من جديد .. وبدأ والدك يجد صعوبة هائلة في التحدث عن فلسطين وفي التكلم عن الماضي السعيد في بياراته وفي بيوته ..
كنا نحن نشكل جدران المأساة الضخمة التي تملك حياته الجديدة ، وكنا نحن
أيضا اولئك الملاعين الذين يكتشفون بسهولة شديدة ، ان الصعود الى الجبل في الصباح الباكر بتاء على اوامر والدك معناه الهاءنا عن طلب الفطور ...
وبدأت الأمور تتعقد .. كان أبسط شيء قادراً بشكل عجيب على استثارة والدك .. انني أذكر تماما يوم طاله احدهم بشيء لا ادريه ولا اذكره .. لقد انتفض .. ثم بدأ يرتجف كمن مسه تيار صاعق ..ودارت عيونه تلتمع في وجوهنا .. كانت فكرة ملعونه قد أوجدت طريقها الى رأسه ، فانتفض واقفا كمن وجد نهاية ترضيه .. وفي غمرة من شعور الانسان بقدرته على انهاء مشاكله ، ومن شعوره بالرعب قبل اقدامه على أمر خطير أخذ يهذي .. واخذ يدور حول نفسه باحثا عن شيء لا نراه .. ثم انقض على صندوق كان قد خرج معنا من عكا واخذ ينثر ما فيه بحركات عصبية مخيفة .. وفي لحظه واحده ، كانت امك قد فهمت كل شيء .. وبدافع من ذلك الاضطراب الذي تقع فيه الام عندما يتعرض ابناؤها للخطر .. اخذت تدفعنا الى خارج الغرفة دفعا وتطلب منا ان نهرب الى الجبل .. ولكننا لم نبرح النافذه .. والصقنا آذاننا الصغيرة في خشبها نستمع برعب شديد الى صوت أبيك : ( أريد أن أقتلهم واريد ان أقتل نفسي ... اريد أن انتهي .. اريد أن ... )
وسكت أبوك .. وعندما عدنا ننظر الى الغرفة من شقوق الباب ، وجدناه ملقى في الأرض يلهث بصوت مسموع ويمضغ أسنانه وهو يبكي .. بينما قعدت أمك في ناحية تنظر اليه بجزع ...
لم نفهم شيئا كثيرا .. ولكنني أذكر أنني عندما رأيت المسدس الأسود ملقى على
الأرض بجانبه .. فهمت كل شيء .. وبدافع من ذلك الرعب القاتل الذي يصيب طفلاً شاهد غولاً على حين غرة .. أخذت أعدو في الجبل .. هاربا من الدار ..
وعندما كنت أبتعد عن الدار كنت أبتعد عن طفولتي في الوقت ذاته ، كنت أشعر أن حياتنا لم تعد شيئا لذيذا سهلا علينا ان نعيشه بهدوء .. ان الأمور قد وصلت الى حد لم تعد تجدي في حله الا رصاصة في رأس كل واحد منا .. يجب اذن أن نحرص في تصرفاتنا على ان نبدو بشكل لائق .. يجب الا نطلب الاكل ولو جعنا .. يجب أن نسكت عندما يتكلم الأب عن مشاكله ، ونهز رؤوسنا باسمين عندما يقول لنا ( اصعدوا الى الجبل ولا تعودوا الا في الظهر ... )
وفي المساء .. عندما خيم الظلام .. عدت الى الدار .. كان أبوك ما زال مريضا ، وأمك جالسه بجواره ، وكانت عيونكم جميعا تلتمع كأنها عيون القطط ، وكانت شفاهكم ملتصقة كأنها لم تتفتح أبدا .. كأنها أثر جرح قديم لم يلتئم كما يجب ..
كنتم مكومين هناك ، بعيدين عن طفولتكم كما كنتم بعيدين عن ارض البرتقال .. البرتقال الذي قال لنا فلاحٌ كان يزرعه ثم خرج انه يذبل اذا ما تغيرت اليد التي تتعهده بالماء ...
كان أبوك ما زال مريضا ملقىً في فراشه ، وكانت أمك تمضغ دموع مأساة لم تغادر عينيها حتى اليوم ..
لقد دخلت الغرفة متسللاً كأنني المنبوذ .. وحينما لامست نظراتي وجه أبيك يرتجف بغضب ذبيح .. رأست في الوقت ذاته المسدس الأسود على الطاولة الواطئة .. والى جوارة برتقالة ..
وكانت البرتقالة جافة يابسة
الرائع غسان كنافاني
يروي قصص فلسطين باساليب مختلفة
شكرا لك
الشهيد غسان ابدع بروايته للقصص التي تحدث بها عن حال الشعب الفلسطيني و الظروف التي عاشها
حتى ان كلماته البسيطه اشعلت نار الكيان الصهيوني الذي بات يخشى هذا الانسان البسيط